المشاريع الكبرى، والهياكل المؤسسية الجديدة، واستجابات المواطنين
أعلن ملك المغرب، محمد السادس، في يناير/ كانون الثاني 2006 عن إطلاق مشروع إعادة تطوير وادي أبي رقراق، والذي أصبح بعد فترة وجيزة من ذلك أكبر مشروع تجديد عمراني في تاريخ المملكة. ويُعد هذا المشروع حجر الزاوية في جهود السلطات لإكساب الرباط سمعة بوصفها “مدينة نور” و “عاصمة ثقافية للمغرب”. ويتمثل هدف المشروع في تعزيز تنافسية الرباط بين المدن العصرية الكبرى المعولمة. ويسعى الخطاب الرسمي المتعلق بالمشروع إلى تصويره في إطار إعادة إحياء التراث الثقافي للمدينة وأصالتها، في حين تصوِّر المواد الترويجية الخاصة بالمشروع أشخاصاً أوروبيين ومغاربة ميسوري الحال يتجولون في أفياء هذه المتنزهات المتألقة. وتصب الدولة الأموال في هذا المشروع، وتَعدُ بأنه سيحقق حياة أفضل للمواطنين في الرباط وسلا. أما الناس أنفسهم الذي يزعم المشروع بأنه سيعود بالفائدة عليهم، فيتساءلون ما إذا سيكون لهم مكان في الوادي الجديد الذي يُعاد تطويره.
يسلط مشروع وادي أبي رقراق الضوء على الطريقة التي عملت فيها الإصلاحات المستندة إلى قوى السوق في المغرب على تغيير دور الدولة من دور الدولة الإنمائية إلى دور السمسار، حيث نشأت أنماط جديدة للتعاون بين المؤسسات العامة والقطاع الخاص، ولتحديد سياسات السوق (زيمني وبرغاريت 2011).[1] بيد أن هذا التحول النيولبرالي لم يوهن دور الدولة أو موقع النخب السياسية المغربية، فمن خلال هياكل مؤسسية جديدة تأسست لتخطيط المشاريع الكبرى وتنفيذها، بوسع الدولة ممارسة أشكال أكثر مباشرة للسلطة، وإن تكن أقل ظهوراً من نواحٍ عديدة. وقد شرع البلد، مثل بلدان أخرى في المنطقة، في عملية محدودة من اللامركزية، إذ مُنحت سلطات سياسية لهيئات حكومية أدنى في التراتبية الحكومية، ونُفذت عمليات أكثر ديمقراطية. ومع ذلك، يوضح مشروع وادي أبي رقراق الطريقة التي أتاحت للنخبة السياسية الراسخة مواصلة إحكام قبضتها على السلطة، والتي عززت سلطة النظام في أعلى هرم الدولة.
ولكن، وفي الوقت نفسه، نشأت عن المشروع ممارسات جديدة للمشاركة العامة تتمحور حول الطريقة التي أعيد فيها تصميم المدينة وإدارتها. وقد احتشد السكان المتأثرون بالمشروع في الرباط وسلا للدفاع عن حقهم في تحديد نتائج المشروع والإجراءات المحيطة بتنفيذه، وتمكنوا من تحقيق انتصارات محدودة على شكل تنازلات بعد عملية مفاوضات مع الدولة، بيد أن المشروع بمجمله يدل على أن المملكة تسعى إلى إعادة تعريف نفسها وفقاً لرغبات طبقة عالمية مستهلكة من النخبة، حتى على حساب المواطنين المغاربة. وفي إطار مشروع خرائط التطور العمراني الإقليمي الذي تديره ’مبادرة تضامن‘ ، سيتحرى هذا الإيجاز جوانب عديدة لأكبر مشروع إنمائي مغربي، والتأثير الذي سيتركه على الناس الذين يعيشون ويعملون في المنطقة، والاستراتيجيات المتنوعة التي يستخدمها الناس المتأثرون لحماية حقهم في تحديد مستقبل مدينتهم.
أصبحت المشاريع الكبرى خلال العقدين الماضيين سمة سائدة في التخطيط المعاصر للمدن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (بارثيل، 2010). وقد انتشرت المشاريع الكبرى في المغرب منذ أواسط عقد الثمانينات من القرن الماضي عندما شرعت المملكة في سلسلة من مشاريع إعادة التطوير الكبرى في الدار البيضاء. وفي عام 1986، أطلق الملك السابق، الحسن الثاني، مشروعاً لبناء مسجد كبير، ومشروعاً لإعادة تطوير الكورنيش، وشارع رويال الذي لم يُنجَز حتى الآن، ومنطقة النسيم السكنية الجديدة في ضواحي الدار البيضاء. وكانت منطقة النسيم قد أقيمت لإعادة إيواء السكان الذين تشردوا من جراء ثلاثة مشاريع أخرى، مما يكشف عن واقع مشترك بين العديد من المشاريع الكبرى: فهي تزيل ما هو قائم لبناء شيء جديد، وهذا يتضمن اجتثاث الناس أنفسهم التي زعمت تلك المشاريع أنها تسعى لمساعدتهم. يتسم مصطلح “المشاريع الكبرى” بالغموض نوعاً ما، كما أنه مفرط في عموميته، إذ يُستخدم لوصف طيف واسع من المشاريع الإنمائية الكبيرة، ولكن توجد بعض المعايير التي تميّزها: الحجم المادي، وقيمة الاستثمار (تتجاوز قيمتها بليون دولار، وهي قيمة لها بعد رمزي)، والالتزام من الدولة ومن المستثمرين من القطاع الخاص ممن تتوفر لهم ثروات كبيرة (بارثيل 2016). وعادة ما يكون للمشاريع التي توصف بأنها مشاريع كبرى ارتباطات وثيقة مع أعلى السلطات في الدولة، وتتخذ هوية وطنية أو رئاسية، أو في حالة المغرب، هوية ملكية. تشترك المشاريع الكبرى بأشكال عمرانية شائعة (أماكن عامة، ومراكز تسوق، ومنشآت ترفيهية على الواجهة المائية (مارينا)، ومرافق المدينة البيئية، ومجمعات سكنية) كما تشترك بأهداف متشابهة (براثيل 2016). ولعل الأمر الأهم، هو أن المشاريع الكبرى غالباً ما تركز على الخارج: فهي تهدف إلى دفع المدن إلى مقدمة التراتبية العمرانية العالمية وإبراز أن المدن التي تنشأ فيها هذه المشاريع هي مواقع مرغوبة للاستثمار. ومن بين العناصر المهمة الأخرى في نموذج المشاريع الكبرى هو تمويلها ونمط تنفيذها. فالقطاع الخاص يؤدي دوراً مركزياً في تمويلها وتخطيطها وتنفيذها، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (ولكن في أماكن أخرى من العالم). ويتضافر هذان العنصران—إبراز المدن كمواقع استثمار مرغوبة، واجتذاب المستثمرين من القطاع الخاص—لإظهار ما أطلقت عليه الباحثة آنا تسينغ (2000) ظاهرة “الاستحضار”، حيث يجري تخيّل نجاح المشروع وما يؤدي إليه من تحول في المنطقة التي يقع فيها وكأنه أمر حقيقي ومحتوم، وقبل حتى أن يبدأ المشروع. وتقول الباحثة “في المشاريع التنبؤية، يجب تخيّل الربح قبل استخراجه؛ ويجب استحضار احتمالية الأداء الاقتصادي مثل استحضار الأرواح بغية جذب جمهور من المستثمرين المحتملين”. وتضيف، “ومن أجل اجتذاب الشركات، يجب على مناطق البلد وبلداته أن تضفي مسحة درامية على الطريقة التي تصف بها إمكاناتها كأماكن للاستثمار. فالأداء المسرحي هو شرط مسبق للأداء الاقتصادي” (تسينغ 2000، 118). وبالتالي، عادة ما تكون المشاريع الكبرى في مركز السرديات حول مستقبل المدينة أو المنطقة أو الدولة، ويجري تصويرها كعامل رئيسي في تمكين المكان المعني من دخول القرن الحادي والعشرين العالمي، ولتحقيق كل ذلك الثراء والربح الذي سيرافق هذا التحوّل.
وتماشياً مع نموذج المشاريع الكبرى، فإن مشروع تطوير وادي أبي رقراق هو مشروع ملكي أطلقه الملك مباشرة وتشرف عليه نخبة سياسية تتمتع بأواصر قوية مع الملك. وقبل شهرين من الإطلاق الرسمي للمشروع، أسس القانون رقم 16-04 وكالة تهيئة ضفتي أبي رقراق (“وكالة أبي رقراق”) كوكالة حكومية مستقلة مالياً، وعيّن الملك السيد لمغاري الصاقل مديراً لها، وهو مستشار مقرّب للملك ومدير لفرع صندوق الإيداع والتدبير، وهو آلية استثمار مملوكة للدولة. ويتسم المشروع بحجمه الهائل، إذ يمتد على مساحة تبلغ حوالي 6,000 هكتار (حوالي 23 كيلومتراً مربعاً)، ويقع عند مصب نهر أبي رقراق بين الرباط وسلا. ومن المخطط أن يُنفذ المشروع على ست مراحل ويتضمن خططاً لتطوير مناطق سكنية راقية؛ ومرافق سياحية وثقافية وترفيهية (مرفأ للسفن السياحية، ومسرح، وحديقة ملاهي، وملعب غولف)؛ وبنية تحتية للمواصلات وميناء (خط ترام، ومرفأي قوارب)؛ وتحسين نوعية المياه في النهر؛ والحفاظ على المباني التاريخية وإعادة تأهيل المساكن غير الآمنة (مولودي 2010، زيمني وبوغاريت 2011). والعمل جارٍ حالياً على تنفيذ أول مرحلتين (باب البحر والساحة الكبيرة)، وما زالت المراحل الأربعة الأخرى قيد التطوير. ويجري تمويل المشروع بخليط من الأموال العامة واستثمارات من شركات عقارية وإنشائية دولية كبيرة. ويجري تنفيذ المرحلة الأولى، باب البحر، عبر ائتلاف بين وكالة أبي رقراق وشركة المعبر، وهي شركة للتطوير العقاري مقرها في دبي.
يؤكد مروجو ومؤيدو مشروع تطوير وادي إبي رقراق أن المشروع سيحقق قائمة طويلة من الأهداف والضرورات الإنمائية: فسيحسن ظروف المعيشة للجماعات المستضعفة، وسيعزز المشاريع التجارية القائمة، وسيحيي التراث الثقافي للعاصمة، وسيجتذب مستثمرين أجانب، وسيحقق نمواً من خلال زيادة الأنشطة التجارية، وسيزيد قيمة الأراضي، وسينهض بالسياحة في المنطقة، وسيحمي النظام الإيكولوجي (http://www.bouregreg.com/?lang=en). تمثل “المواطنة” ركناً من أركان بيان رسالة وكالة أبي رقراق؛ وقد أعربت الوكالة عن التزام واضح بإيلاء الأولوية للخصائص الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية للسكان المحليين، وضمان أن المشروع سيُصمم لتلبية الاحتياجات الحالية. ومنذ البداية، تحدث الملك ومسؤولو الدولة والشركاء من القطاع الخاص عن هذا المشروع من منظار المصلحة العامة، وقدموا صورة لمكان عام جديد وعصري من شأنه أن يجلب الازدهار والمتعة للمواطنيين المغاربة وللفاعلين الدوليين على حد سواء. ومع ذلك، واجه المشروع انتقادات (وربما كان ذلك متوقعاً) بسبب سعيه لاسترضاء المستثمرين الأغنياء ورغبتهم في تحقيق الربح على حساب سكان المنطقة ومستخدميها اليوميين.
ويرتبط السؤال حول من هي الجهات التي يخدمها مشروع تطوير وادي أبي رقراق في نهاية المطاف ارتباطاً لا ينفصم بأسئلة الحوكمة الحضرية والعمليات المؤسسية والسياسية المحددة التي نفذتها الدولة لتنفيذ المشروع. وتتركز السلطة السياسية الفعلية في المغرب بيد ما يُمسى “المخزن”، وهو مصطلح يشير إلى النخبة السياسية التي تشمل الملك، وكبار موظفي الدولة، وكبار مالكي الأراضي، والمصالح الاقتصادية، وسياسيين، ورجال أعمال (كلارك 2018). وفيما عدا هؤلاء الفاعلين، تمتد سلطة المخزن من الملك عبر شبكات رسمية وغير رسمية للسلطة تتألف من أعضاء العائلات الأكثر نفوذاً في ميدان السياسة والجيش وقطاع الأعمال (كلايسي 1987 في كتاب كلارك 2018). ويمارس ’المخزن‘ السلطة من خلال نظام رعاية ومحسوبية، وعلى الرغم من الكلام الكثير عن التحرك نحو اللامركزية ونشر الديمقراطية، فإن هذا النموذج للسلطة يزداد قوة مع زيادة الروابط مع القطاع الخاص (كلارك 2018). أما تأسيس وكالة أبي رقراق كوكالة حكومية مستقلة مخولة بالتصرف، وتخضع لقدر ضئيل من الإشراف، فيبدو ظاهرياً أنه سعي من الدولة لتوزيع السلطة ومنحها لهيئة حكومية منفصلة، إلا أن وكالة أبي رقراق في واقع الأمر هي وسيلة مؤثرة تتيح للجهات السياسية الفاعلة الراسخة إقامة روابط استراتيجية مع جهات مغربية ودولية اقتصادية فاعلة. يتسم ’المخزن‘ بأنه “يعلم كل شيء وكلي الحضور” (كلارك 2018، 60) وتتجلى سيطرته على وكالة أبي رقراق في حقيقة أن المدير العام للوكالة، لمغاري الصاقل، هو أحد المستشارين الأوسع نفوذاً للملك. وتكمن وكالة أبي رقراق، بوصفها الوكالة الحكومية التي تأسست لإدارة هذا المشروع، في صلب هذا السؤال.
تتمتع وكالة أبي رقراق بطائفة مذهلة من السلطات من حيث اتساعها وعمقها، والعديد منها يتعدى على حقوق المغاربة الذين يعيشون ويعملون في منطقة المشروع. ولا يُعد تأسيس هيئات حكومية جديدة ومتخصصة لتخطيط المشاريع العمرانية الكبرى وإدارتها أمراً ينفرد به مشروع وادي أبي رقراق—فبوسعنا ملاحظة ذلك في جميع المشاريع الكبرى في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفي مناطق أخرى من العالم. فمثلاً، تدير ’هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة‘ في مصر تخطيط وإنشاء المدن الجديدة التي أُنشأت منذ عام 1979 إضافة إلى تزويدها بالخدمات. وهي مسؤولة عن إنشاء مساكن ميسورة الكلفة للعائلات من الطبقتين الدنيا والوسطى، بيد أن الشقق التي أنشأتها ظلت خارج نطاق القدرة المالية للفئات السكانية المستهدفة (تضامن 2015). وفي المغرب، تُعتبر وكالة أبي رقراق استثنائية من حيث السلطة شبه المطلقة التي منحتها إياها الدولة على المشروع الذي تبلغ مساحته 6,000 هكتار (بوغارت 2018، مولودي 2010). وكان القانون نفسه الذي أسس وكالة أبي رقراق قد منحها سلطة حصرية على المشروع، وخولها بجميع مسؤوليات البلديات المحلية والمحافظات ’والوكالة الحضرية للرباط وسلا‘ التي تعمل في منطقة المشروع (بوغارت 2018). وباتت وكالة أبي رقراق تتمتع بسلطة على تنظيم استخدام الأراضي، والاستعلامات العامة، وتخصيص الأراضي للإنشاءات، وتراخيص الإنشاء، وتنظيم جميع سندات بيع الأراضي، ومصادرة الأراضي الخاصة ضمن المنطقة (مولودي 2010، بوغارت 2018). وقد تجاوزت سلطات الوكالة السلطات التي تتمتع بها الهيئات المحلية المنتخبة، وباتت الهيئة التي تحكم المنطقة هيئة معينة تعييناً مباشراً من الملك بدلاً من أن تكون خاضعة للمساءلة أمام الناس عبر الانتخابات. وأصبحت وكالة أبي رقراق هي الأداة الرئيسية التي يتقدم عبرها المشروع دون أي إشراف عام.
يتضح التأثير الكبير الذي تتمتع به وكالة أبي رقراق على المغاربة الذين يعيشون ويعملون في المنطقة، بالسلطة التي تتمتع بها الوكالة لمصادرة الأراضي ونقل السكان وتحويل كيفية استخدام المنطقة من قبل الأفراد العديدين الذين يأتون عادة للعمل والتسوق فيها والذين يرتادونها. وكان أكثر من نصف مساحة مشروع وادي أبي رقراق (56%) التي تبلغ 6,000 هكتار مملوكة لأفراد من عامة الناس (مولودي 2010). وينص القانون العادي الذي يحكم مصادرة الأراضي في المغرب على أنه بوسع الدولة مصادرة الأرض للمصلحة العامة فقط، وهو أمر مقيد بإقامة الطرق والمناطق الخضراء والمرافق العامة (مدارس، مستشفيات)، أو المناطق التي تحتاج إلى إعادة تنظيم وإحياء. أما القانون 16-04 الصادر عام 2005 (والذي تأسست وفقه وكالة أبي رقراق)، فقد استحدث إجراءات خاصة للمصادرة، وهي تتيح للوكالة الإعلان عن جميع العمليات ضمن مساحة المشروع الضرورية لإتمامه بنجاح بأنها مشمولة في مفهوم المصلحة العامة (بوغارت 2018، مولودي 2010). وهذا يتضمن مناطق سيُعاد بيعها لأفراد. كما يتيح القانون للوكالة دفع سعر ثابت لأصحاب الأراضي، وهو سعر محدد بناء على قيمة الأرض في وقت إقرار القانون (تشرين الثاني/ نوفمبر 2005)، وبصرف النظر عن توقيت مصادرة الأرض أو أي زيادة في قيمتها (بوغارت 2018، مولودوي 2010). لذا، يمكن إجبار السكان على بيع أراضيهم للوكالة بسعر يقل عن قيمة السوق، وبوسع الوكالة أن تعيد بيع الأرض وتحقيق ربح. وثمة منطقتا سكن عشوائي—الملاح والفنادق—تقعان ضمن مساعة المشروع أيضاً. ويسرد الموقع الإلكتروني التابع لوكالة أبي رقراق أمر ’القضاء‘ على هاتين المنطقتين بوصفه من المكونات الرئسيية لمهمة المشروع، ودون أي اعتبار لتبعات ذلك على الناس الذين يعيشون في المنطقتين. ولا توفر وكالة أبي رقراق أي معلومات إضافية حول ما سيترتب عن ’القضاء‘ على المنطقتين. وتتمتع وكالة أبي رقراق أيضاً بالسلطة على تعليق أنشطة الأفراد الذين يعملون في منطقة المشروع أو حولها، ونقلهم إلى أماكن أخرى (بوغارت 2018، مولودي 2010).
وبعد فترة قصيرة من إطلاق المشروع، أصدرت وكالة أبي رقراق خطة تطوير خاصة تتضمن تفاصيل حول خطط مصادرة الأراضي ونقل أصحابها والساكنين فيها، إضافة إلى خطط لتعليق أنشطة الصيد والقوارب في المنطقة. وكشفت خطط المصادرة عن المناطق التي ستأخذها الوكالة وشروط تعويض أصحاب العقارات. ولم تتضمن الخطط أي بروتوكولات بشأن الإجراءات المتاحة للسكان للطعن بمبلغ التعويض عن مصادرة الأرض والعقارات فيما إذا اعتبروا التعويض غير منصف. وخاطبت الوكالة أيضاً أصحاب القوارب والصيادين، إذ أن سبل عيشهم ستتأثر مباشرة بإنشاء المرفأ الجديد. ويتعين على مالكي القوارب تعليق أنشطتهم لمدة سنتين وستعوضهم الوكالة عن خسارة أجرهم، على أن يتم نقل الصيادين إلى مناطق صيد أخرى.
يدرس الباحث هشام مولودي استجابات المدنيين لمشروع تطوير وادي أبي رقراق، ويتحرى الطرق المتنوعة التي اعتمدتها الجماعات المختلفة لتعبئة نفسها لحماية مصالحها في مواجهات المصادرة المحتملة أو خسارة مصادر رزقهم.[2] ويوضح أنه استجابة لخطة التطوير الخاصة، احتشد السكان المتأثرون مباشرة من الخطة إضافة إلى الأشخاص الذين ستتأثر مصادر رزقهم (ممن لا يعشون في المنطقة بالضرورة) وتبنوا استراتيجية احتجاج مؤلفة من قسمين: فقد عملوا مباشرة مع محامين للمطالبة بحقوقهم القانونية بمنازلهم وأنشطتهم الاقتصادية، كما بدأوا بحملة توعية عامة لتعريف الجمهور بعملية المصادرة (مولودي 2010). واحتشد النقابيون وأعضاء الجمعيات والسياسيون المحليون والأفراد للدفاع عن قضية واحدة: “لا لخطة التطوير الخاصة لأبي رقراق ولا للمصادرة” (مولودي 2010).
قام عدد من السكان الساعين إلى الدفاع عن أنفسهم في مواجهة المصادرة بالاتصال مع المنتدى الوطني لحماية الأملاك العمومية في المغرب (“المنتدى الوطني”)—وهو جماعة مغربية معنية بالمناصرة القانونية—وقرر المنتدى الوطني الابتعاد عن التركيز الرئيسي له (الدفاع عن الأملاك العمومية) والتركيز بدلاً من ذلك على دعم حقوق السكان ضد المصادرة الظالمة لأملاكهم (مولودي 2010). ثم أسس المنتدى الوطني لجنة تنسيقية، وتمكن خلال ثلاثة أشهر من إقامة ائتلاف بين سبع عشرة جمعية معارضة للمشروع، وجرى تنظيم اعتصامين، وإصدار ثمانية بيانات صحفية، ونشر ورقة في عام 2008 لتسليط الضوء على عدم الشرعية القانونية لعملية المصادرة (مولودي 2010). وكتب مولودي أن هذه الجهود حققت نجاحاً جزئياً: فعندما احتشد سكان باب الشفاء-سيدي بن أشير، وبمساعدة من المنتدى الوطني، اضطرت وكالة أبي رقراق إلى التخلي عن استراتيجية مصادرة الأراضي في هذه المنطقة والعثور على حلول أخرى (مولودي 2010، 240). بيد أن هذه الحلول الأخرى لم تتضح حتى الآن.
عارض مجلس البلدية المنتخب في سلا خطة التطوير الخاصة أيضاً بسبب عملية المصادرة، لا سيما وأن أكثر من 70 في المئة من مساحة المشروع تقع ضمن حدود مدينة سلا، كما أن العدد الأكبر من السكان المهددين بمصادرة ممتلكاتهم هم من قاطني سلا (وكان مجلس بلدية الرباط قد أقر بالإجماع خطة التطوير الخاصة المرتبطة بمشروع تطوير أبي رقراق) (مولودي 2010). وعقد مجلس بلدية سلا اجتماعين بهذا الخصوص: أحدهما مفتوح للجمهور، حيث امتلأ المكان بالمحتجين الذين حملوا لافتات تقول “نعم للاستثمار، لا لسلب الأراضي”، “لا للمصادرة”، “نعم للاستثمار، نعم للشفافية”. أما الاجتماع الثاني فكان حواراً مع مدير وكالة أبي رقراق. وبعد هذين الاجتماعين، اقترح أعضاء مجلس بلدية سلا حلين لحماية السكان من المصادرة الضارة: (أولاً) عملية تخطيط تعاونية على نحو أكبر، والتي ستتضمن مالكي الأراضي؛ أو (ثانياً) عملية تعويض أكثر عدلاً، والتي تتضمن زيادة التعويض للسكان الذين ستُصادر أراضيهم (مولودي 2010). وفي النهاية، لم تطبق وكالة أبي رقراق توصيات المجلس، وقامت بمصادرة المساكن والمحلات التجارية في حي كاردونا وفي باب لمريسة سعياً لإزالة المباني لإنشاء جسر جديد وشقق سكنية جديدة، وقامت السلطات بنقل 137 أسرة من مناطق سكنية عشوائية لإتاحة المجال لإنشاء ترامواي جديد (بوغارت 2018). وصادرت الوكالة أيضاً 259 منزلاً ومتجراً صغيراً في المدينة القديمة في الرباط (بوغارت 2018).
هذه السلطة التي تتمتع بها وكالة أبي رقراق لمصادرة الأملاك ونقل السكان والمستخدمين اليوميين لمنطقة المشروع تسلط الضوء على بعض السلطات القانونية الخاصة التي تتمتع بها الوكالة والتي تمارسها على نحو يعود بالضرر على المواطنين. كما توضح الأمثلة الأنماط المتنوعة للمقاومة التي أثارها المشروع بين المواطنين المتأثرين. في بعض الحالات، حققت الاحتجاحات نجاحاً كلياً أو جزئياً. ويصف الباحث مولودي حالة قام فيها سكان باب الشفاء-سيدي بن أشير (وهي منطقة توجد فيها مساكن من نوعية متدنية) بتنظيم خمس اعتصامات أمام البرلمان المغربي، ومارسوا الضغط بنجاح على وكالة أبي رقراق لدفعها إلى التخلي عن خطط مصادرة المنازل في تلك المنطقة، أو على الأقل تجميد العملية مؤقتاً (مولودي 2010). وهذا يثير سؤالاً بشأن ما هي الجهة التي يولي المشروع أولوية لمصالحها إذا كانت الهيئة الحكومية الرئيسية المسؤولة عن التخطيط والإشراف غير مهتمة بتأكيدات المجتمع المحلي على أن عملية التطوير تضر بمصالحه.
انضم مالكو القوارب للاحتجاجات ضد وكالة أبي رقراق لمعارضة شروط التعويض على إيقاف أنشطتهم في النهر لمدة سنتين، وشكلوا جمعية مهنية ونجحوا بالتفاوض مباشرة مع الوكالة للحصول على تعويض مختلف لأصحاب القوارب المتفرغين، وأولئك الذين يعملون بدوام جزئي، وغيرهم ممن يعملون في مواسم محددة (مولودي 2010). ومع ذلك، أفاد بعض مالكي القوارب بأن الوكالة ألغت التعويض قبل السماح لهم بمواصلة العمل (مولودي 2010). وأسس الصيادون تعاونية أبي رقراق في عام 2009 لحماية مصالحهم. واشتكوا من أنه لم تتم استشارتهم حول القرارات التي تتعلق بأمكان الصيد الجديدة: فالمياه في هذه الأماكن ضحلة مما يؤدي إلى تعطل محركات القوارب بصفة متكررة، كما أن مرفأ الصيد الجديد يقع على مسافة بعيدة عن المرفأ الأصلي، مما يكبد الصيادين وتجار السمك تكاليف سفر إضافية (مولودي 2010). وتساعد التعاونية أعضاءها على شراء المعدات وتسويق أسماكهم وبيعها، كما أنها تقترح حلولاً للقضايا التي لم تحلها وكالة أبي رقراق (مولودي 2010). ومن غير الواضح من الكتابات المتوفرة بشأن هذا الموضوع مدى النجاح الذي حققه الصيادون في مفاوضاتهم مع وكالة أبي رقراق، بيد أن قيامهم بتأسيس تعاونية لتطوير حلول للمشاكل التي نشأت عن المشروع يمثل تطوراً مهماً.
يظل العديد من المغاربة متشككين بشأن ما إذا كانت وكالة أبي رقراق ملتزمة بحماية الحياة اليومية للمواطنين ’العاديين‘ وتحسينها، ويزعم العديد منهم بأن الوكالة مدفوعة بتحقيق الربح. ومن الصعب تحديد الجهات التي ستستفيد وتلك التي ستتضرر من المشروع في نهاية المطاف، ولكن ثمة قناعة منتشرة في أوساط المواطنين العاديين بأن المشروع ليس موجهاً إليهم. وقد تذمر عديدون من أن المرافق والمناطق التجارية الجديدة مرتفعة الثمن بالنسبة للمواطن العادي مما يحول دون استفادته منها، وأن المشروع بأكمله يمثل انحرافاً عن الاحتياجات الماسة للمواطنين المغاربة. وفي مقابلة جرت في فبراير/ شباط 2018، قال صمد زاهد، وهو شاب عاطل عن العمل يبلغ من العمر 24 عاماً، لمراسل صحفي “المرفق المائي (المارينا)، بالتأكيد، غير مخصص لنا لأنه ليس بوسع الفقراء سوى مشاهدة ما بداخلها، ولكن ليس بوسعهم شرب القهوة أو تناول وجبة هناك لأن أسعارها مرتفعة جداً. يجب على الحكومة أن تلبي احتياجات الناس وتوفر لهم مدارس ومستشفيات وأن تقلل كلفة المعيشة بدلاً من إقامة مشاريع من قبيل المارينا” (فور 2018). وفي مقابلة أخرى، أعرب نادل يعمل في مقهى على الواجهة المائية عن شواغل شبيهة مشيراً إلى أن المناطق التي جرى تطويرها مؤخراً ليست أماكن متاحة للمغاربة العاديين الذين لا تسمح لهم قدراتهم المالية بالمشاركة فيها: “كان يوجد سابقاً مطعم بجانب النهر. والآن ما عاد الناس يتمكنون من تناول الوجبات هنا. فهم يتجولون على رصيف المرفأ ويشربون فنجان قهوة واحد. أنا كنت أعمل سابقاً في مطبخ، والآن أصبحت نادلاً، وقد تراجع دخلي من 2,000 درهم إلى 1,600 درهم، وبالتالي انخفض راتبي … مراكز تسوق أو مسرح … ما الفرق؟ راتبي لا يتيح لي تحمل كلفة أي منهما. يتعين علي أن أدفع أجرة سكن وأن أعيل أسرة. ويتاح لي أحياناً استهلاك شيء ما هنا [مشيراً إلى أحد المطاعم المحاذية لرصيف المرفأ] لأنني أعمل في المنطقة وأحصل على قهوة مجاناً. جميع هذه التغييرات … أنها ليست لنا. فهذه جميعها أشياء كمالية، وهي موجهة للأغنياء وليس للمواطنين العاديين”. (حمو 2016، في كتاب بوغارت 2018، 159).
وفي الواقع، يواجه المغاربة تحديات كبيرة فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا يسع المرء إلا أن يتساءل ما إذا كان مشروع كبير في وادي أبي رقراق هو الاستخدام الأفضل لموارد المملكة وتركيزها في هذا الوقت. إن النمو الاقتصادي في المغرب مرتفع نسبياً، إذ بلغ 4.4 في المئة في عام 2017 ومن المتوقع أن يبلغ 3.1 في المئة في عام 2018 (وفقاً لصندوق النقد الدولي)، إلا أن هذا النمو لم يُترجم إلى تحسينات ملموسة في حياة غالبية سكان المغرب. وارتفع معدل البطالة منذ عام 2014 من 9.9 في المئة ليصل 10.8 في المئة في عام 2017، كما يبلغ معدل البطالة بين الشباب أكثر من 20 في المئة. ويصل معدل بطالة الشباب في أجزاء كبيرة من شمال البلد إلى حوالي 40 في المئة (“مع تباطؤ اقتصاد المغرب …” 2018). وفي أواخر عام 2016، اندلعت احتجاجات في منطقة الريف في الشمال، حيث طالب المتظاهرون بالوظائف ومستشفيات ومرافق أساسية أخرى. وقد استمرت هذه التظاهرات بصفة متقطعة لمدة أشهر، مما دفع الملك محمد السادس إلى إقالة المسؤولين الإقليميين. وفي هذه الأثناء، شارف العمال على الانتهاء من بناء منتجع مارتشيكا، وهو واحد من سبعة منتجعات بيئية من المخطط إقامتها على الساحل الشمالي للبلد بموجب خطة مدتها عشر سنوات أعدها الملك للنهوض بقطاع السياحة. والعديد من الطرق المؤدية إلى المنتجع مزودة بأكشاك لتحصيل رسوم على استخدام الطرق، مما يدفع العديد من المغاربة الفقراء إلى السفر عبر الطرق القديمة المتهالكة والخطيرة، كما سيكون من الصعب على الأسر العادية تحمل كلفة استخدام القطار السريع الجديد (فور 2018).
ثمة أدلة عديدة من مشروع إعادة تطوير وادي أبي رقراق تشير إلى نتيجة بأن وكالة أبي رقراق ظلت مرة تلو المرة تتخذ قرارات لإرضاء المصالح المالية للمستثمرين في المشروع على حساب المصلحة العامة. علاوة على ذلك، أساءت وكالة أبي رقراق استخدام سلطتها كوكالة حكومية لتعزيز هذه المصالح. وكتب الباحث بوغارت أن وكالة أبي رقراق قلبت منطق الدولة كمؤسسة عامة رأساً على عقب: “بما أن وكالة أبي رقراق هي وكالة حكومية، فمن المفترض بها أن تتصرف من أجل الصالح العام. ولكن في هذه الحالة، تم استخدام سلطة الدولة لنزع الملكية العامة والخاصة بغية عرض الوادي على رأس المال على المستوى العالمي، وبطريقة ما كان بوسع مستثمر خاص أن يحققها أبداً. وبعبارة أخرى، كانت مهمة وكالة أبي رقراق هي ’تحرير الأرض‘ وجلبها إلى سوق العقارات الدولي. أما النتائج النهائية المتخيلة، فلا علاقة لها أبداً بالصالح العام” (2018، 146).
إن وكالة أبي رقراق تشوش الفاصل ما بين العام والخاص، إذ تستخدم سلط الدولة لتمكين جهات فاعلة خاصة لممارسة تأثيرها على الأماكن العامة والناس الذين يعيشون فيها ويستخدمونها. وتتبّع الباحث بوغارت (2018) الطريقة التي عملت فيها قرارات المستثمرين من القطاع الخاص على تشكيل المشروع، وغالباً في انحراف عن الخطط الأصلية للمشروع. فقد صممت اللجنة الملكية (وهي مؤلفة من سياسيين، ومدراء في الدولة، ومخططين، ومهندسين معماريين، ومعنيين بالتطور العمراني، ومستشارين للملك) المرحلة الأولى من المشروع، باب البحر، بحيث تتضمن أماكن عامة مفتوحة أمام مدينة سلا بهدف تعزيز الروابط بين ضفتي النهر. وقد خططت اللجنة هذه المنطقة لاستخدام السكان المحليين كأماكن للنزهة والمشي والألعاب، وخصصتها اللجنة كمنطقة ذات كثافة سكانية منخفضة لتتلاءم مع استخدامات متنوعة من قبل سكان سلا والرباط. واعترف رئيس قسم التمويل والشراكات في وكالة أبي رقراق خلال مقابلة مع الباحث بوغارت بأن مواقع المباني تحددت في نهاية المطاف لزيادة الربح (بوغارت 2018). واستنتج بوغارت بأنه “مع ذلك، وفي نهاية المطاف، لن تتحدد سمات المدينة المستقبلية بقرارات المخططين والمعنيين بالتطور العمراني والسياسيين، أو حتى بأموال دافعي الضرائب، وإنما بقرارات المستثمرين الساعين إلى الحصول على عائد مرتفع لاستثماراتهم” (بوغارت 2018، 148).
خاتمة
في نموذج التنمية القائم على المشاريع الكبرى، باتت الحوكمة الحضرية تعتمد بصفة مطردة على رأس المال العالمي، وغالباً ما يكون سكان المناطق الحضرية هم أكبر الخاسرين. وفي حالة تطوير وادي أبي رقراق، أقامت المملكة المغربية هيكلاً مؤسسياً جديداً—وكالة تهيئة ضفتي أبي رقراق—والتي تمكنت من خلالها من إعادة ترتيب سلطة الدولة وتشكيل تحالفات مع جهات فاعلة متنفذة من القطاع الخاص. وكانت نتيجة عملية إعادة الترتيب هذه إعادة تنظيم الفضاء العام وتوجيهه نحو المستثمرين والمستهلكين الأثرياء أكثر مما هو موجه لخدمة المستخدمين اليوميين للأماكن العامة—أي إقامة أماكن حصرية واستثنائية، وهي ليس أماكن خاصة رسمياً ولكنها تعمل وكأنها أماكن خاصة. وقد جرى المشروع في ظل غياب أي آلية لإخضاع وكالة أبي رقراق للمساءلة أمام الناس الذين يعيشون ويعملون في منطقة المشروع، أو لإدماج ملاحظات الجمهور وتعليقاته في عمليتي التخطيط والتنفيذ، مما يدل على ضعف انشغال الدولة بتعزيز حس الملكية بين الناس إزاء هذا المشروع.
يشعر بعض مراقبي إعادة تطوير وادي أبي رقراق بقدر متوسط من التفاؤل بأن النجاحات المحدودة التي حققها المواطنون المهتمون وجماعات المجتمع المدني من خلال الاحتجاجات العامة والتفاوض مع وكالة أبي رقراق تدل على أن المملكة المغربية أخذت تفتح عمليات التخطيط العمراني وعمليات صنع القرار لمشاركة شعبية أقوى، أو على الأقل أن هذه المشاريع ساعدت في إحياء المجتمع المدني. ويستنتج الباحث مولودي (2010)، على سبيل المثال، أن المشروع فتح إمكانية بروز أنماط جديدة للمشاركة المدنية والتخطيط القائم على المشاركة—وأنه دفع المجتمع المدني في الرباط لحشد قواه. ويشير إلى حالات التفاوض والتسويات التي جرت، ويحاجج بأن هذه الممارسات كانت نادرة في عمليات إدارة المشاريع العمرانية السابقة. كما اختتم الباحثان براثيل وفيغنال (2014) دراستهما بصورة وردية نوعاً ما للتنمية القائمة على المشاريع الكبرى في المملكة المغربية، وأشارا إلى المغرب بوصفه “رائداً حقيقاً” في المنطقة. وأشارا إلى أدلة بأن المستثمرين ونظراءهم من الدولة اتخذوا خطوات لتعزيز الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للمناطق المطورة الجديدة في الأماكن القائمة، وتوجيه الاستثمارات وفقاً للاحتياجات العامة. بيد أن الأمثلة التي يشير إليها الباحثان تبدو محدودة النطاق وغير مرتبطة بأبرز المشاريع التي نفذتها المملكة، من قبيل إعادة تطوير وادي أبي رقراق. وهناك مراقبون آخرون يظلون متشائمين في هذا الصدد، فقد طرح الباحث بوغارت (2011 و 2018) بأن هذا النهج الإنمائي يتيح للملك إقامة أشكال جديدة من سلطة الدولة من خلال ترتيبات مؤسسية جديدة، حيث تعمل الدولة على تيسير وتنسيق إعادة تطوير الأماكن العامة وفقاً لاستراتيجيات رأسمالية. ويحاجج بأنه من خلال إقامة هذه الوكالات الخاصة، باتت مشاركة المواطنين في الخطط الإنمائية أكثر صعوبة. وهو يشير إلى مشروع أبي رقراق بوصفه “حالة محددة لشكل أكثر عولمة لحكومة استبدادية” (بوغارت 2018، 126).
وتُبرِز المشاريع الكبرى من قبيل إعادة تطوير وادي أبي رقراق التوترات التي يمكن أن تنشأ بين المواطنة والمصالح الخاصة. وتهدف هذه المشاريع إلى دفع البلدان إلى طليعة الاقتصاد الدولي، إلا أن ذلك غالباً ما يحدث على حساب مصالح المواطنين. فهي تخلق أرباحاً فورية للمشاركين في الإنشاء والتسويق والبيع في المشاريع الكبرى، إلا أن الأرباح والنمو الاقتصادي الموعود لا يصل إلى المواطنين العاديين. وفي الواقع، عادة ما تؤدي هذه المشاريع إلى تراجع في نوعية الحياة والظروف الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الذين يتم ترحيلهم من بيوتهم وأحيائهم.
وسواء أكانت احتجاجات المواطنين قد أدت إلى تغييرات حقيقة في السياسات من جانب الدولة أم لم تؤدِ إلى ذلك، فإن أشكال المقاومة هذه مهمة وتستحق أن نسلط الضوء عليها. ومن المهم الكشف عن شبكة القوى السياسية وقوى القطاع الخاص المنخرطة في تحديد أجندات المشاريع الكبرى وتحديد نتائجها النهائية، من قبيل مشروع إعادة تطوير وادي أبي رقراق، لفهم الكيفية التي تؤثر فيها التغييرات في البيئة المعمورة على الناس.
تتحرى مبادرة خرائط التطور العمراني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تديرها ’مبادرة تضامن‘ المنظورات والنُهج المتنوعة التي يستخدمها الجمهور والمهنيون والنشطاء في المنطقة في سعيهم للاستجابة إلى التحديات العمرانية المشتركة. ويواجه المواطنون في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا صعوبات متشابهة فيما يتعلق بالمشاريع الكبرى ونموذج المشاريع الكبرى من حيث المطالبة بحقهم في المدينة والدفاع عنه في سياق أنماط معولمة على نحو مطرد للتطور العمراني. ويتمثل أحد الانشغالات الرئيسية لجمهور المواطنين المغاربة وغيرهم وفي نقص التمثيل ونقص مشاركة المسؤولين المنتخبين في تخطيط هذه المشاريع وتنفيذها. إن تركيز السلطة بيد وكالة إبي رقراق وتجاوز عمليات التخطيط والحكم العادية في المغرب التي توفر الشفافية، أو على الأقل مداولات عامة وقدر من المساءلة في نهاية المطاف، لا يترك للمواطنين أي سبيل للانتصاف في مواجهة القرارات المدفوعة برمتها تقريباً بالمصالح الخاصة. وما من شك بأن المشاريع الإنمائية الكبيرة الحجم هي مسألة معقدة وتتضمن مصالح متنوعة، ولكن في حالة المغرب، وفي العديد من المشاريع الكبرى الأخرى في الشرق الأوسط، عادة ما تتغلب المصالح الخاصة على المصلحة العامة في نهاية المطاف، ويُمنع السكان المتأثرون ومنذ البداية من ممارسة حقوق المواطنة والإدلاء برأيهم بشأن التصميمات العمرانية الجديدة وأهداف المشاريع.
وستكشف الدراسات التي ستجري في المستقبل القريب بشأن مشروع وادي أبي رقراق ما هي المصالح التي يخدمها المشروع أكثر من غيرها، وكيف عملت الهياكل المؤسسية المتنفذة، من قبيل وكالة أبي رقراق، على تشويه حقوق المواطنين المغاربة وسكان تلك الفضاءات التي تم تحويلها.
المراجع
ألتشولر، أ؛ لبويروف، د. (2003). المشاريع الكبرى: السياسات المتغيرة للاستثمار العمراني العام، مؤسسة بروكينغز، واشنطن العاصمة.
Altshuler, A. & Luberoff, D. (2003). Mega-Projects: The Changing Politics of Urban Public Investment, Brookings Institution, Washington, DC.
مع تباطؤ الاقتصاد المغربي، العاطلون عن العمل يتململون. (1 مارس/ آذار 2018). مجلة ’ذي إيكونوميست‘. بالرجوع إليه من: https://www.economist.com/news/middle-east-and-africa/21737560-protests-north-have-pricked-kings-conscience-moroccos-economy-slows
As Morocco’s Economy Slows, the Jobless are getting Restive. (2018, March 1). The Economist. Retrieved from: https://www.economist.com/news/middle-east-and-africa/21737560-protests-north-have-pricked-kings-conscience-moroccos-economy-slows
براثيل، ب. أ. (2016). المغرب في حقبة التطور العمراني البيئي: إجراء أبحاث ناقدة وعملية حول الممارسة الناشئة في أفريقيا. مجلة ’البيئة المعمورة الذكية والمستدامة‘، 5(3)، 272-288.
Barthel, P. A. (2016). Morocco in the Era of Eco-urbanism: Building Critical and Operational Research on an Emerging Practice in Africa. Smart and Sustainable Built Environment, 5 (3), 272-288.
براثيل، ب. أ.؛ بلانيل، س. (2010). ’طنجة-ميد‘ و ’كاسا-مارينا‘، المشاريع الفاخرة في المغرب: الإطار الرأسمالي الجديد والسياق المحلي. مجلة ’البيئة المعمورة‘، 36، 2، 176-191.
Barthel, P. A. & Planel, S. (2010). Tangier-Med and Casa-Marina, Prestige Projects in Morocco: New Capitalist Frameworks and Local Context. Built Environment, 36, 2, 176-191.
براثيل، ب. أ.؛ فيغنال، ل. (2014). المشاريع المتوسطية العربية بعد “الربيع”: القديم على قدمه أم بداية جديدة؟ III Encontro da Associação Nacional de Pesquisa e Pós-graduação em Arquitetura e Urbanismo. ساو باولو، البرازيل. بالرجوع إليه من: http://www.anparq.org.br/dvd-enanparq-3/htm/Artigos/ST/ST-EPC-010%202%20-%20Barthel_Vignal.pdf
Barthel, P. A. & Vignal, L. (2014) Arab Mediterranean Megaprojects after the “Spring”: Business as Usual or a New Beginning? III Encontro da Associação Nacional de Pesquisa e Pós-graduação em Arquitetura e Urbanismo. Sao Paulo, Brazil. Retrieved from: http://www.anparq.org.br/dvd-enanparq-3/htm/Artigos/ST/ST-EPC-010%202%20-%20Barthel_Vignal.pdf
براثيل، ب. أ. (2014). الواجهات المائية العالمية في منطقة المغرب العربي: هل هي مجرد نسخ لمشاريع دبي؟ دراسات حالات إفرادية من المغرب وتونس. في كتاب ويبيل، س.؛ برومبر، ك.؛ ستينر، س؛ كراويتس، ب. (محررون)، قيد الإنشاء: الأسس المنطقية للتطور العمراني في منطقة الخليج (ص. 247-258). روتليدج: نيويورك، نيويورك.
Barthel, P. A. (2014). Global Waterfronts in the Maghreb: A Mere Replication of Dubai? Case Studies from Morocco and Tunisia. In Wippel, S., Bromber, K., Steiner, C., & Krawiets, B. (E.ds), Under Construction: Logics of Urbanism in the Gulf Region (pp. 247-258). Routledge: New York, NY.
بيري-شيخاوي، آي. (2010). المشاريع العمرانية الكبرى والناس المتأثرون بها: حالة شارع رويال في الدار البيضاء. مجلة البيئة المعمورة، 36، 3، 216-229.
Berry-Chikhaoui, I. (2010). Major Urban Projects and the People Affected: The Case of Casablanca’s Avenue Royale. Built Environment, 36, 3, 216-229.
بوغارت، ك. (2018). استبدادية معولمة: المشاريع الكبرى، والأحياء الفقيرة، والعلاقات الطبقية في المناطق الحضرية في المغرب. مطبعة جامعة منيسوتا: مينيابوليس، منيسوتا.
Bogaert, K. (2018). Globalized Authoritarianism: Megaprojects, Slums, and Class Relations in Urban Morocco. University of Minnesota Press: Minneapolis, MN.
بوغارت، ك. (2011). تشكيل فضاء الدولة الجديد في المغرب: مثال وادي أبي رقراق. مجلة الدراسات الحضرية، 49، 2، 255-270.
Bogaert, K. (2011). New State Space Formation in Morocco: The Example of the Bouregreg Valley. Urban Studies, 49, 2, 255-270.
بوغارت، ك. (2011). مشكلة الأحياء الفقيرة: نُهج متغيرة للحكم العمراني النيولبرالي. مجلة التنمية والتغيير، 42، 3، 709-731.
Bogaert, K. (2011). The Problem of Slums: Shifting Methods of Neoliberal Urban Government in Morocco. Development and Change, 42, 3, 709-731.
كلارك، جيه. (2018). السياسات المحلية في الأردن والمغرب: استراتيجيات المركزية واللامركزية. مطبعة جامعة كولومبيا: نيويورك، نيويورك.
Clark, J. (2018). Local Politics in Jordan and Morocco: Strategies of Centralization and Decentralization. Columbia University Press: New York, NY.
فور، و. (2018). في الخارج البارد: ناقدو مشاريع التطوير العمراني يقولون إنها فشلت في تحقيق فوائد للجمهور العام. يو أس نيوز، 20 فبراير/ شباط. بالرجوع إليه من الموقع: https://www.usnews.com/news/best-countries/articles/2018-02-20/development-transforms-moroccan-city-but-doesnt-address-most-difficult-problems
Fore, O. (2018). Out in the Cold: Critics of Urban Development Projects Say They Have Failed to Trickle down to the Overall Population’s Benefit. US News, Feb. 20. Retrieved from: https://www.usnews.com/news/best-countries/articles/2018-02-20/development-transforms-moroccan-city-but-doesnt-address-most-difficult-problems
هودريت، أ. (2017). اللامركزية في المغرب: الإصلاح الحالي ومساهمته المحتملة في التحرر السياسي. ورقة نقاشية 11/2017. معهد التنمية الألماني.
Houdret, A. (2017). Decentralization in Morocco: The current reform and its possible contribution to political liberalization. Discussion Paper 11/2017. German Development Institute.
مولودي، هـ. (2010). ردود الفعل ’من الأسفل‘ للمشاريع العمرانية الكبرى: حالة الرباط. مجلة البيئة المعمورة، 36، 2، 230-244.
Mouloudi, H. (2010). Reactions ‘From Below’ to Big Urban Projects: The Case of Rabat. Built Environment, 36, 2, 230-244.
موراي؛ مارتين جيه. (2017). التطور العمراني ذو الصبغة الاستثنائية: ديناميات إقامة المدينة العالمية في القرن الحادي والعشرين. مطبعة جامعة كامبريدج: كامبريدج، المملكة المتحدة.
Murray, Martin, J. (2017). The Urbanism of Exception: The Dynamics of Global City Building in the Twenty-First Century. Cambridge University Press: Cambridge, United Kingdom.
تسينغ، أ. (2000). داخل اقتصاد المظاهر. مجلة الثقافة العامة، 12.1، 115-144.
Tsing, A. (2000). Inside the Economy of Appearances. Public Culture, 12.1, 115-144.
واغنر، ل.؛ مينكا، سي. (2014). منظور الرباط: التراث الاستعماري في المختبر العمراني المغربي. مجلة دراسات حضرية، 51، 14، 3011-3025.
Wagner, L. & Minca, C. (2014). Rabat Perspective: Colonial Heritage in a Moroccan Urban Laboratory. Urban Studies, 51, 14, 3011–3025.
زيمني، إس.؛ بوغارت، ك. (2009). التجارة، والأمن، والسياسات النيولبرالية: أين الإصلاح العربي؟ الأدلة من حالة المغرب. مجلة دراسات شمال أفريقيا، 14، 1، ص. 91-107.
Zemni, S. & Bogaert, K. (2009). Trade, Security and Neoliberal politics: Whither Arab reform? Evidence from the Moroccan case. The Journal of North African Studies, 14, 1, pp. 91 – 107.
زيمني، إس.؛ بوغارت، ك. (2011). التجديد العمراني والتنمية الاجتماعية في المغرب في عهد الحكومة النيولبرالية. مجلة استعراض الاقتصادي السياسي الأفريقي، 38، 129، 403-417.
Zemni, S. & Bogaert, K. (2011). Urban Renewal and Social Development in Morocco in an Age of Neoliberal Government. Review of African Political Economy, 38, 129, 403-417.
الصور المقتبسة:
صورة الغلاف: صورة تعبيرية لعملية إعادة التطوير المخطط لها في الرباط، من تصميم شركة ’إس.إن.سي.-لافالين آتكينز‘، وهي شركة دولية كبرى للتصميم والهندسة وإدارة المشاريع والاستشارات. المصدر : آتكينز غلوبال. بالرجوع إليه من الموقع: https://www.atkinsglobal.com/en-gb/projects/wessal-bourgeg
Cover Image: Rendering of the planned redevelopment of Rabat, designed by SNC-Lavalin Atkins, a major global design, engineering, and project management consulting firm. Source: Atikins Global. Retrieved from: https://www.atkinsglobal.com/en-gb/projects/wessal-bourgeg
الصورة 1: صورة تعبيرية لقاعة الاحتفالات داخل مسرح الرباط الكبير المخطط إنشاؤه، تصميم شركة زها حديد للهندسة المعمارية. المصدر: الموقع الإلكتروني التابع لوكالة تهيئة ضفتي أبي رقراق. بالرجوع إليه من: http://www.bouregreg.com/?lang=en
Image 1: Rendering of auditorium inside the planned Grand Theatre de Rabat, designed by Zaha Hadid architects. Source: AAVB website. Retrieved from http://www.bouregreg.com/?lang=en
الصورة 2: صورة تعبيرية لمنطقة مخصصة لاستخدام سكني وتجاري مختلط، تظهر فيها متاجر لبضائع كمالية في باب البحر. المصدر: الموقع الإلكتروني التابع للمهندس المعماري عبد الواحد منتصر. بالرجوع إليه من: https://www.awmountassir.ma/index.php
Image 2: Rendering of planned mixed-use residential and commercial area featuring luxury retailers in Bab al Bahr. Source: Website of architect Abdelouahed Mountassir. Retrieved from: https://www.awmountassir.ma/index.php
الصورة 3: وحدات سكنية فخمة جاهزة في منطقة باب البحر من مشروع تطوير وادي أبي رقراق. المصدر: الموقع الإلكتروني التابع للمهندس المعماري عبد الواحد منتصر. بالرجوع إليه من: https://www.awmountassir.ma/index.php
Image 3: Completed luxury residential units in the Bab al Bahr area of the Bouregreg Valley redevelopment project. Source: Website of architect Abdelouahed Mountassir. Retrieved from: https://www.awmountassir.ma/index.php
الهوامش
[1] تعني الدولة الإنمائية، في السياق الحالي، الدولة التي تعمل كمزود أساسي للسكن ومشاريع التطوير الجديدة، في حين يؤدي المطورون من القطاع الخص دوراً محدوداً في هذه الوظائف.
[2] كتب هشام مولودوي دراسة تحليلية معمقة حول استجابة المدنيين والمجتمع المدني لمشروع تطوير وادي أبي رقراق بعنوان “الاستجابات ’من الأسفل‘ للمشاريع العمرانية الكبرى: حالة الرباط”، وهذه الدراسة هي مصدر قيّم حول هذا الموضوع وواحدة من المصادر الثانوية القليلة للمعلومات المتوفرة للباحثين حول التعبئة الاجتماعية رداً على المشروع. معظم المعلومات حول هذا الموضوع في هذا القسم مستمدة من دراسة مولودي.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments