فى العقود القليلة الماضية، وقعت القاهرة تحت تأثير نوعين من التحولات، أحدهما يرتبط بالرأسمالية والآخر بالسكان. تحت شعار تطبيق اللامركزية فى المدن، استثمرت الحكومة مليارات الدولارات فى مدن صحراوية جديدة خارج القاهرة، مثل مدينة 6 اكتوبر والقاهرة الجديدة، حيث قامت ببيع الأراضى الصحراوية المملوكة للدولة تقدر قيمتها بالمليارات بأسعار زهيدة إلى مستثمرين من القطاع الخاص، كما أقامت مناطق خاصة للتنمية الاقتصادية بهدف اجتذاب استثمارات اخرى. وكانت النتيجة هى ظهور الكثير من المجتمعات والقرى الفاخرة والمحاطة بأسوار والتى تنتشر فيها حمامات السباحة ورقع النجيلة الخضراء ويتم تسويقها بوصفها ملاذا هادئا بعيدا عن ضجة القاهرة وزحامها. فى الوقت ذاته تضاعفت مساحة مناطق النمو العمراني غير الرسمية فى الخمس والعشرين سنة الماضية. لقد زاد سكان القاهرة الكبرى من 8 ملايين فى 1980 إلى 16-18 مليون حاليا، ومع زيادة السكان، زاد الطلب على الإسكان القليل التكلفة، والذى لم تبذل الحكومة الجهد الكافى لتوفيره. وبدلا من أن ينتقل الناس إلى المدن الصحراوية كما افترض مخططو الدولة وإداريوها، فإن ملايين الناس أخذوا بزمام الأمور وبنوا لأنفسهم بيوتا على أطراف المناطق المعمورة بالقاهرة، وهو ما أدى إلى ظهور مساحات هائلة من المناطق العمرانية غير الرسمية والتى لم يتم التخطيط لها بشكل ملموس. تم بناء حوالى 80 فى المائة من تلك المناطق على مناطق كانت زراعية فى السابق. وعلى عكس طموحات من كانوا يخططون لإقامة المدن فى الصحراء، تم معظم النمو العمراني على مدى العقود الثلاثة الماضية فى تلك المناطق غير الرسمية والتى يعيش بها حاليا أكثر من 60 فى المائة من سكان القاهرة، مقارنة بحوالى 10 فى المائة يعيشون فى المدن الجديدة. (سيمز، 2009)
كيف كانت القاهرة ستصبح اليوم لو كان المخططون والمسؤولون الحكوميون تخلوا عن افتراض ما يجب أن تكون عليه القاهرة وحاولوا تفهم حاجات ورغبات سكان المدينة؟ هناك قضية أساسية هنا وهى أنه لم يكن هناك طريق يتيح للسكان توصيل آرائهم بشكل مباشر للحكومة، إضافة إلى عدم اهتمام الحكومة بالإستماع أصلاً. وربما كانت ثورة 2011 هى بداية مرحلة تستمع فيها الحكومة بدرجة أكبر لآراء السكان، لو كانت تأمل فى فوزٍ ثانٍ فى الإنتخابات. وهناك قضية ثانية وهى أن المواطنين لم يقوموا بأى جهد جماعى لفرض اجندة بديلة لإدارة المدن تستجيب لاحتياجاتهم.
قدمت البرازيل نموذجاً جديراً بالدراسة لكيفية التحول من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي، ومن الممكن استخدام هذا النموذج فى الترويج لثقافة العدالة الاجتماعية والإصلاح العمراني. فى فترة التحول التالية للثورة فى مصر، ما هى الأشياء التى يمكن للمصريين تعلمها من التجربة البرازيلية؟ كيف يمكن للمصريين أن يقوموا بالحراك والتنظيم والتخطيط الاستراتيجى لتغيير البيئة العمرانية لمجتمعاتهم وادخال مفاهيم العدالة والديمقراطية فى طريقة تقديم الخدمات العامة؟ فيما يلى نقوم باستعراض تاريخ إصلاح إدارة المدن فى البرازيل بهدف تقديم أفكار تساعد المصريين على استعادة “حقهم فى المدينة” وعلى مواجهة تحديات التنمية العمرانية من خلال المشاركة الفعالة للمواطنين.
الإصلاح العمراني فى البرازيل
تكونت “الحركة القومية للإصلاح العمراني” فى البرازيل عام 1985 بهدف المشاركة فى عملية كتابة الدستور وتغيير اتجاه الرأى العام والتأثير على “الجمعية التأسيسية” التى كانت تقوم بإعداد دستور جديد (دى سوزا، 2001). واستندت تلك الحركة إلى جهود المنظمات التى تدعو للديمقراطية وتدافع عن مصالح الفقراء وإلى دعم اتحادات العمال والمنظمات المدنية واتحادات السكان والفرع التقدمى من الكنيسة الكاثوليكية الذى يدافع عن سياسات التحرر (فرنانديز، 2007). وكان الهدف الأسمى لتلك الحركة هو ترسيخ الديمقراطية من خلال تعميق مشاركة السكان فى الحكومة والنمو العمراني وتحقيق التواصل بين السكان ومسؤولى ادارة المدن من أجل الخروج ببرنامج للإصلاح العمراني. تلك الحركة، والتى ضمت بين صفوفها نقابات مهنية وأكاديميين وقادة سياسيين وجمعيات أهلية من مختلف أحياء المدينة، حاولت أن تغير أسس التنمية العمرانية فى البرازيل من أجل اقامة مفهوم اجتماعى جديد يجعل من العدالة الاجتماعية محوراً لعملية التخطيط العمراني وصنع القرارات (سوجرانيس وماثيفيت، 2010).
لم يكن اصلاح إدارة المدن، فى نظر الحركة، مجرد اسلوب لتغيير نسيج المدينة، وإنما كان أيضا وسيلة لتحقيق أهداف العدالة الإجتماعية والمساواة. كان إصلاحا اجتماعياً شاملاً يغطى كافة الأماكن فى المدن ويستهدف اصلاح المؤسسات وتنظيم ممارسة السلطة وليس فقط تحسين شكل المدينة المادى (دى سوزا، 2001، 25).
اختلال التوازن العمراني فى ريو دى جانيرون البرازيل
ومع أن مبادىء “الحركة القومية للإصلاح العمراني” سبقت النظام العسكرى، فإن اجندة الإصلاح العمراني قد تكونت بالأساس استجابة لاتجاهات التنمية الحداثية المحافظة التى أنتهجها هذا النظام ما بين 1964 و1984. لقد أدت فترة النمو الاقتصادى غير المسبوق إلى اختلالات فى توزيع الدخل والثروة ما بين 1968 و1974 – وهى الفترة المعروفة “بالمعجزة البرازيلية”. وبفضل تلك الفترة من النمو الاقتصادي تمكنت الحكومة المركزية من الحصول على قدر كبير من القروض من مصادر ائتمان أجنبية بفوائد منخفضة، وقامت باستخدامها فى تطوير نظم النقل والاتصالات. تلك التنمية، المدعومة من المانحين، أعطت الحكومة الفرصة فى تعميق المركزية والتكنوقراطية واتباع أسلوب فوقى فى التنمية الاقليمية وتخطيط المدن، وهو أسلوب تجاهل دور المواطنين بالمرة (مارتين وماك جراناهان، 2010). لقد أدى الحكم العسكرى إلى تدمير نفوذ الحكم المحلى والتقليل من شأن الممارسة الديمقراطية على كل مستويات الحكومة (فرنانديز، 2007).
عندما انتهى الحكم العسكرى عام 1985، تولت “الجمعية التأسيسية القومية” عملية كتابة دستور جديد، وهى مهمة بدأت فى 1986 وانتهت بالتصديق على الدستور فى 1988. ولحسن الحظ كانت الحكومة الجديدة ملتزمة تماما بالديمقراطية، وقامت بوضع عملية لصياغة الدستور كانت غير مسبوقة فى انفتاحها (كويلهو وأوليفيرا، 1989). وجرت مناقشات مستفيضة حول معنى الدستور أدت إلى اقرار مبدأ ادماج تلك التعديلات التى تحظى بتأييد شعبى كبير فى النصوص الدستورية. بناء عليه، قامت “الجمعية التأسيسية” بمناقشة عدد كبير من التعديلات التى قدمها أعضاء تلك الجميعة مرفقة بتوقيعات 30 ألف مواطن وموافقة ثلاثة جمعيات ممثلة للمجتمع. وهو ما سمح بوضع قانون يسمح بقيام الحركات الاجتماعية الشعبية بعد عقود من القهر فى ظل النظام العسكرى. ونتيجة لهذا تم تقديم 122 تعديل مقترح إلى “الجمعية التأسيسية”، وحملت التعديلات تلك أكثر من 12 مليون توقيع. وكان من بين تلك التعديلات اقتراح قدمته “الحركة القومية للإصلاح العمراني”.
وقفة احتجاجية من أجل إصلاح إدارة المدن فى البرازيل
المصدر: sergipesocialista.blogspot.com
فى المراحل الأولى من نشاطها، كانت “الحركة القومية للإصلاح العمراني” تركز على مجموعة محدودة من القضايا العمرانية تتصل أساسا بقضية الإسكان. ثم نضجت الحركة على نحو مكنّها من الخروج بأفكار جديدة بشأن حقوق المواطنين فى المدينة والحق فى الحياة الاجتماعية ومفهوم “المسكن خارج نطاق المسكن الخاص” والدور الاجتماعى للخدمات العامة والنقل والبنية التحتية. ورفضت الحركة فكرة أن المدينة هى مجرد مكان تسيطر عليه المصالح الخاصة للنخبة السياسية الرأسمالية ويتم تقسيمه على أساس الطبقة والثروة، كما قامت بتحدى الحقوق المكتسبة لأصحاب الملكيات الخاصة (سوجرانيس وماثيفيت، 2010). ونظرا لتزايد المساحات غير المستخدمة فى المدينة نتيجة للمضاربات المستمرة على الأراضى، والتى رافقها نقص فى المساكن الرخيصة وتدهور بيئى واضح، طالبت الحركة بالإعتراف بالدور الاجتماعى للملكية وطرحت تساؤلات حول المدى الذى يمكن من خلاله للملاك أن يتمتعوا بملكيتهم بغض النظر عن الآثار السلبية لقراراتهم (ماريكاتو، 2010). وخلاصة القول أن “الحركة القومية” قامت بحملة من أجل تقنين مصادرة المساحات غير المستخدمة التى كان المضاربون يحتفظون بها بغرض “تسقيعها ” وكافحت من أجل اقرار أحقية المواطنين، وليس فقط الأثرياء، فى تحديد شكل المدينة.
قام أعضاء “الحركة القومية” بإعداد مقترحات لتعديل دستورى. وبعد مناقشة تلك المقترحات فى “الاتحاد القومى لأراضى المدن” و”اتحاد المديونين ” و”حركة الدفاع عن ساكنى فافيلا” وأكثر من أربعين جمعية محلية واقليمية، تم تقديم التعديل المقترح إلى “الجمعية التأسيسية” فى 1987 من قبل “اتحاد المهندسين القومى” و”اتحاد المعماريين القومى” و”معهد المعماريين البرازيليين” وعليه أكثر من 130.000 توقيع (باسول، 2010). وتضمن التعديل المقترح 23 مادة تدعم المبادىء الستة التالية:
الجلسة الأخيرة فى عام 1988 “للجمعية التأسيسية” التى صاغت الدستور البرازيلى الحالى
المصدر: http://www.agenciabrasil.gov.br/galerias-de-fotos/2008/10/01/galeria_de_fotos.2008-10-01.7803856103
وقد تبنت “الجمعية التأسيسية” بعد مناقشات مستفيضة بعض أجزاء التعديل فى الفصل الخاص بالسياسة العمرانية. ومع أن أجزاء أخرى من الدستور تؤكد على استقلال الإدارات البلدية، فإن الفصل الخاص بالسياسة العمرانية لا يضم سوى مادتين. المادة 183 تخص حقوق وضع اليد على الملكيات أقل من 250 متر مربع طالما قام المواطنون باحتلال الأراضى واستخدامها بشكل مستمر لمدة خمس سنوات لأغراض السكن، بشرط عدم امتلاكهم لأى أراض اخرى. والمادة 182 تعترف بالدور الاجتماعى للملكية وتمنح السلطات البلدية الحق فى فرض عقوبات على الملاك الذين لا يقومون باستغلال عقاراتهم، بل يحتفظون بها لأغراض المضاربة. كما تربط تلك المادة بين الوظيفة الاجتماعية للملكية وبين المخططات العامة للمدينة. وفرض الدستور على البلديات التى تضم أكثر من 20.000 نسمة أن تضع خطة رئيسية لمنطقتها. ولأن المخططات العامة تقدم الشكل المتصور للمنطقة فى المستقبل، فإن وجود مثل تلك المخططات يسهل قيام البلديات بالدفاع عن الدور الاجتماعى للملكية فى المناطق العمرانية.
ذلك الربط بين المهمة الاجتماعية للملكية وبين الخطة الرئيسية كان هو الحل الوسط الذى خرجت به النخبة المالكة فى البرازيل (والتى احتفظت بقوتها بعد سقوط النظام العسكرى). وقد أدى الربط هذا إلى اعادة صياغة شكل الكفاح من اجل الإصلاح العمراني. فى السابق كانت المخططات العامة تصاغ بشكل تقنى لا يأخذ الاعتبارات الاجتماعية بعين الاعتبار. وعندما تم ادماج المهام الاجتماعية فى عملية التخطيط، اصبح فى مقدور “الحركة القومية” أن تدعو للإصلاح ليس فقط على المستوى القومى ولكن أيضاً على مستوى الآلاف من البلديات فى مختلف أرجاء البلاد (دى سوزا، 2002).
بفضل الدستور الجديد، أصبح للبرازيل تجربة رائدة فى التخطيط العمراني وإدارة المدن. وتحولت المخططات العامة من وثائق تقنية إلى وسائل للتغيير ولضمان الوفاء باحتياجات السكان وضمان الدور الاجتماعى للملكية. أدى الوضع الجديد إلى الكثير من التطورات كان منها المشاركة فى وضع الميزانية. لقد عقدت مؤتمرات عديدة فى المدن بهدف تطوير سياسات عمرانية من خلال مشاركة المواطنين الواسعة، كما تم وضع برامج لتقنين أوضاع الأراضى على مستوى البلديات (فرنانديز، 2008). برغم هذا، لم تستكمل الكثير من البلديات مخططتها العامة، إما بسبب عدم الخبرة أو عدم الاهتمام. وبعد اقرار الدستور، تقاعست الحكومة القومية عن القيام بالتغييرات اللازمة أو الزام الإدارات التابعة لها بتطبيق الفصل الخاص بالسياسة العمرانية. ومضت اثنتا عشرة سنة قبل أن يتم تنفيذ التعديلات الخاصة بالسياسة العمرانية بقوة القانون.
المنتدى القومي للإصلاح العمراني
بعد التصديق على الدستور البرازيلى الجديد فى 1988، تشكل “المنتدى القومي للإصلاح العمرانى” مستهدفا الضغط على الحكومة لكى تتخذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ النصوص الدستورية المتعلقة بالسياسة العمرانية. وضم “المنتدى” فى صفوفه عدة شبكات وحركات فى البرازيل تهتم بعدد كبير من الموضوعات ابتداء من المياه والصرف الصحى ومرورا بالمشاركة الشعبية فى الحكومة المحلية. ويمارس “المنتدى” نشاطه فى السياق الأوسع لعمل المنظمات الحقوقية فى الدعوة للحق فى العمل والصحة العامة والانتقال وإتاحة الخدمات العامة، وذلك من أجل توسيع نطاق الدعوة وزيادة تأثيرها. وقام أعضاء “المنتدى” باستخدام المحافل الدولية من أجل حث الحكومة على اقرار حقوق معينة والامتثال بالمعايير الدولية. على سبيل المثال، شارك ممثلو “المنتدى” فى مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية فى عام 1992 وفى مؤتمر “هابيتات 2″ الذى عقد فى إسطنبول والذى اقرت الحكومة البرازيلية خلاله الحق فى السكن. وكان من جراء تلك الجهود قيام “الجمعية التأسيسية” البرازيلية بتعديل الدستور على نحو يقر الحق الاجتماعى فى السكن فى 2000. كما تم إقرار “قانون المدينة” فى 2001، عملا بالنصوص الدستورية الخاصة بالإصلاح العمراني . وقامت الحكومة بإنشاء “وزارة المدن”، المتخصصة فى أمور التخطيط والإصلاح العمراني على المستوى القومى. كما قامت الحكومة بتنظيم “مؤتمر المدن القومية” وأنشأت “مجلس المدن” الذى ينشط فى رسم سياسة التنمية العمرانية القومية فى البرازيل.
قانون المدينة
يعد قانون المدينة أكبر إنجاز حققه “المنتدى” والحركة الاجتماعية المصاحبة له فى صدد تحقيق الإصلاح العمراني، حيث يوضح القانون سبل تحقيق الأهداف المتضمنة فى المادتين 182 و183 من الدستور الفيدرالى لعام 1988، والتى تتضمن عدة مبادىء أهمها: الحكومة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية فى المدن والاستدامة البيئية (ماريكاتو، 2010). وبفضل ذلك القانون أصبح فى وسع الحكومة على مختلف مستوياتها والمجتمع المدنى القيام بضبط إيقاع “عمليات استخدام المساحات العمرانية والإقامة بها والتقسيم وبيع الأراضى” (فرنانديز، 2010، 55). ويتعامل القانون مع نطاق واسع من القضايا العمرانية. كما يقوم بتحديد الشروط الخاصة بعمليات “التخطيط العمراني والخطط وادارة المدن والإجراءات الحكومية والمالية والقانونية (بالذات التى تتعامل مع ملكية الأراضى والعقارات). كما يقوم بتنظيم الملكية فى المناطق غير الرسمية وتشجيع المشاركة الشعبية فى وضع الخطط والميزانيات والقوانين المكملة وإدارة المدن (بالإضافة إلى الشراكات بين القطاع الخاص والعام) وغيرها (ماريكاتو، 2010، 5). “الهدف الأبعد لقانون المدينة هو التأكيد على المهمة الاجتماعية للملكية – مع اعطاء الأولوية للمصلحة الاجتماعية على حقوق الملكية الفردية وانهاء المضاربة على العقارات التى تمكن بعض الأفراد من الاستيلاء على أغلب المكاسب الناتجة عن الانفاق الحكومى” (ريالى وآلى، 2010).
ينظم قانون المدينة أيضا العلاقة بين مختلف مستويات الحكومة فى البرازيل، حيث يفرض على الحكومات القومية والمحلية والبلدية أن تنسق فيما بينها عند وضع السياسات العمرانية. كما يؤكد القانون على سلطة البلديات فى تنظيم ملكية الأراضى والعقارات فى المدن ويقدم الأدوات التى يمكن للبلديات استخدامها فى تطوير سياساتها الخاصة من خلال التشاور مع المواطنين ومشاركتهم (ريالى وآلى، 2010). وأخيراً وليس آخراً يلزم القانون تلك المدن التى تضم أكثر من 20.000 مواطن بإعداد خطة رئيسية لها جدول زمنى محدد وبتطبيق استراتيجيات ديمقراطية لإدارة المدينة. وفى حالة عدم تنفيذ تلك الأمور، يمكن للدولة فرض عقوبات على ادارات تلك المدن منها سحب الموارد الفيدرالية المخصصة للبنية التحتية والصحة والصحة العامة والتعليم. ويلزم القانون السلطات البلدية بضمان شفافية عملية التخطيط وقيام المواطنين بالمشاركة فيها (جولدنفوم وآخرون، 2008).
المخططات العامة والمشاركة الشعبية
هناك الكثير من الجهد الجماهيرى فى البرازيل والذى يستهدف جعل السلطات البلدية مسؤولة عن وضع مخطط عام من خلال عملية تشاركية وشفافة امتثالاً للقانون. واستلهاماً لتجربة المشاركة فى وضع الميزانية والتى تمت فى أوائل التسعينات فى “بورتو أليجرى” وغيرها من المدن فى البرازيل، فإن وضع ميزانية رئيسية تشاركية هو أسلوب يؤدى إلى تعميق الديمقراطية واعطاء المواطنين الفرصة للتأثير على عملية صنع القرارات فى مدينتهم.
ورغم أن المشاركة الشعبية فى عملية التخطيط قد حازت القبول من جهة المبدأ، فإن وضع مخطط عام بطريقة التشارك قد لاقى صعوبات بسبب عدم تقبل الكثير من السلطات البلدية والمخططين العمرانيين لفكرة المشاركة فى التخطيط العمراني. وقد مارست الحركات الاجتماعية ضغوطا من أجل إلزام السلطات بتطبيق طرق ديمقراطية فى التخطيط، حيث تم تنظيم مظاهرات ونشر بيانات احتجاج ورفع قضايا ضد الهيئات التى ترفض فكرة المشاركة الديمقراطية. وكانت العادة قد جرت على أن من يرسم المخطط العام هم متخصصون فى التخطيط، وهم فى الكثير من الأحيان مستشارون ليست لهم صلة بالمدينة ذاتها. وتلك الفكرة ما زالت تسيطر على الأذهان حتى يومنا هذا. ومع أن وضع المخطط العام لا يجب أن يظل حكراً على المتخصصين، تظل هناك بعض الصعوبات فى توصيل المعلومة المتخصصة بطريقة يسهل فهمها على المواطن العادى. وبعكس الحال بشأن المشاركة فى وضع الميزانية، والتى لا تتطلب أكثر من فهم عدد بسيط من الأمور فى فترة قصيرة نسبيا، فإن المخطط العام يتطلب فهما متعمقا لأمور متنوعة منها ذات صلة بالهندسة المدنية والتصميم الحضرى والمواصلات والشؤون المالية، كما تتطلب وعياً بالأبعاد طويلة المدى للسياسات العمرانية.
فى 2004، قامت وزارة المدن (انظر أدناه) والمجلس القومى للمدن بتنظيم “حملة توعية وحراك قومي حول طرق تطوير وتنفيذ مخططات عامة تشاركية بهدف بناء مدن تشاركية وديمقراطية ومستدامة” (وزارة المدن، قرار 15 الوارد فى رودريجز وباربوسا، 2010). وبحلول نهاية 2010، كان هناك أكثر من 1.500 مخطط عام قد تم اقراره فى البرازيل. ولكن رغم تلك الجهود، ليس هناك ما يضمن أن المخططات سوف يتم تنفيذها بطريقة تؤكد على المهمة الاجتماعية للملكية. والواقع أن هناك بعض المخططات التى تم اهمالها فى الحال. والبعض الآخر تعرض لتعديلات استثنائية بعد إقراره، بسبب الضغوط التى مارسها أصحاب النفوذ المالى. وكما أوضح رودريجز وباربوسا:
“هناك صعوبة فى تنفيذ المخططات العامة وهو ما يؤدى إلى الكثير من الاحباط وخيبة الأمل بين قادة الحركات التى بذلت جهوداً دؤوبة من أجل إقرار المقترحات. وفى بعض الحالات لم تظهر أى نتائج عملية على الاطلاق، وهو ما أدى إلى طرح الكثير من التساؤلات فى أوساط تلك الحركات حول فائدة وفاعلية العملية بالكامل” (رودريجز وباربوسا، 2010، 29).
وزارة المدن
فى 2003، قامت الحكومة البرازيلية بإنشاء وزارة المدن، وهى الهيئة التى تقوم بتنسيق عمليات التنمية العمرانية على المستوى القومى، بما فى ذلك التنمية العمرانية والإسكان والمرافق الصحية وخدمات النقل العام. وأحد الأسباب الرئيسية لإنشاء تلك الوزارة كان التوصل إلى بيئة سياسية وقانونية يمكن فيها للشعب والولايات والبلديات أن تتعاون مع المجتمع بأسره من أجل تفعيل المبادىء الواردة فى قانون المدينة.
وتهدف الوزارة إلى:
وتلتزم وزارة المدن بضمان اتباع الأساليب الديمقراطية فى كل ما يتصل بالتنمية العمرانية فى البرازيل، وهو الدور الذى لعبته عند صياغة السياسة القومية للتنمية العمرانية. وقام المشاركون فى مؤتمرات المدن والولايات بمناقشة مختلف الآراء والمقترحات الخاصة بالسياسة القومية للتنمية العمرانية كما انتخبوا مندوبين عنهم للمشاركة فى المؤتمر القومى. وفى المؤتمر القومى الأول، الذى عقد عام 2003، تم انتخاب مجلس المدن. وقام مجلس المدن بإقتراح سياسات الإسكان والمرافق الصحية والمرور والنقل العام القومية، كما تابعوا أنشطة الحملة القومية للمشاركة فى وضع المخططات العامة للمدن وناقشوا البرنامج العام لدعم تنظيم الاستخدامات المستدامة للأراضى الواقعة داخل المدن وأساليب دعم امكانيات المدن. (ماريكاتو، 2006).
ويعد إنشاء وزارة المدن خطوة ملموسة فى سبيل التوصل إلى مدن صالحة للحياة وتتميز بالعدالة. ورغم أن هناك بعض الأسئلة المطروحة حول مدى فاعلية الوزارة، فإنها بمرور الوقت قد تصبح أكثر قدرة على التعامل مع التحديات التى تواجه الكثير من المدن البرازيلية. وكما قال نائب وزير المدن السابق، “مع أن الانجازات التى تمت حتى الآن لم تقدم الحل الكافى للأوضاع المؤلمة فى المدن البرازيلية، والتى تفاقمت بسبب التأثيرات الطاغية لعملية العولمة، فإن تلك الأنجازات ساعدت على تكوين بيئة ديمقراطية وتشاركية تساعدنا فى الكفاح من أجل مستقبل أفضل للمدن فى البرازيل (ماريكاتو، 2006، ص 7).
الخلاصة
لم تكن حركة الاصلاح العمراني فى البرازيل مجرد حركة نشأت بين سكان المدن من أجل حل مشاكل المدن، ولكنها أعادت التفكير فى الطريقة التى يمكن بها للمواطن البرازيلى أن يشارك فى مصير بلاده وفى العلاقة التى يجب أن تقوم بين المواطنين والحكومة. ولعل الكثافة الاجتماعية والسياسية والمؤسسية والاقتصادية الموجودة فى المدن هى التى أوضحت مساوىء الحكم وقصور الهيئات المسؤولة عن تقديم الخدمات والانتهاكات المتكررة للحقوق. ومع أنه لا يمكن الاستهانة بإنجازات حركة الإصلاح العمراني، علينا أن نتذكر أن تلك الإنجازات لم تحدث خلال أعوام قليلة بل استغرقت عقودا من الزمن، وما زال الكفاح مستمراً. تظل التحديات العمرانية فى البرازيل شديدة الصعوبة، ولكن بفضل اصرار حركة الإصلاح العمرانية وغيرها من المبادرات تحسنت ظروف الحياة بالنسبة لكثير من البرازيليين. وتبقى تجربة البرازيل نموذجا يحتذى به ويمكن لبقية الشعوب أن تقتدى به فى طريقها إلى الديمقراطية.
وفى مصر، لم تتمكن الثورة بعد من تحقيق اهدافها. وبرغم أن الكثير من المؤسسات والأفراد ينشطون فى المطالبة بالإصلاح، فإنهم لم يتمكنوا بعد من حمل الدولة ومؤسساتها التشريعية والبيروقراطية على التدخل من أجل تحسين مستوى حياتهم. كيف يمكن للمصريين أن يقوموا بتحويل انجازات الثورة إلى مسار من الجهود التى تؤدى إلى تحقيق تلك الطموحات؟ كيف يمكنهم أن يغيروا من مجتمعاتهم ويحسنوا من تقديم الخدمات ويحاسبوا السلطات المحلية ويحملوها على الاستجابة لطموحاتهم فى الديمقراطية والعدالة؟ تقدم تجربة البرازيل بعض المؤشرات، ولكن الإجابة على تلك التساؤلات هى مهمة المصريين وحدهم.
**
باسول، خوزيه روبرتو. 2010. “قانون المدينة: بناء القانون”. راجع “تعليق على قانون المدينة” تحالف المدن، السكرتارية القومية للبرامج العمرانية ووزارة المدن البرازيلية.
http://www.ifrc.org/docs/idrl/945EN.pdf
باروس، آنا ماريا فوربينو بريتاس، سيلسو سانتو كارفالهو، دانييل تودمان مونتاندون. 2010. “تعليق على قانون المدينة”. تحالف المدن، السكرتارية القومية للبرامج العمرانية ووزارة المدن البرازيلية.
http://www.ifrc.org/docs/idrl/945EN.pdf
كويلهو، خواو جلبرتو لوكاس وأنتونيو كارلوس نانتيس دى أوليفيرا، بالتنسيق مع معهد النظم وهندسة الكمبيوتر INESC. “الدستور الجديد: تقييم النص وتحليل لعناصر الجمعية التأسيسية”. ريو دى جانيرو: رافين.
فرنانديز، إيديسيو. 2010. “قانون المدينة ونظم القوانين العمرانية”. راجع “تعليق على قانون المدينة”. تحالف المدن، السكرتارية القومية للبرامج العمرانية ووزارة المدن البرازيلية.
http://www.ifrc.org/docs/idrl/945EN.pdf
ماريكاتو، إى. 2006. “الإسكان والمدن فى البرازيل وأمريكا اللاتينية: العولمة والفقر وبعض أسباب الأمل.” راجع
http://rru.worldbank.org/Documents/PapersLinks/informal_economy.pdf
وزارة المدن. 2013. تجده فى
http://www.cidades.gov.br/index.php/o-ministerio
ريالى، ماريو وسيرجيو آلى. 2010. “مدينة دياديما وقانون المدينة”. راجع “تعليق على قانون المدينة”. تحالف المدن، السكرتارية القومية للبرامج العمرانية ووزارة المدن البرازيلية.
http://www.ifrc.org/docs/idrl/945EN.pdf
رودريجز، إيفانسيا وبيندتو روبرتو باربوسا. 2010. “الحركات الشعبية وقانون المدينة”. راجع “تعليق على قانون المدينة”. تحالف المدن، السكرتارية القومية للبرامج العمرانية ووزارة المدن البرازيلية.
http://www.ifrc.org/docs/idrl/945EN.pdf
البنك الدولى. 2010. مؤشرات النمو العالمية. راجع http://data.worldbank.org/indicator/SP.URB.TOTL.IN.ZS/countries/1W?display=graph
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Houssam Elokda Says:
مقالة جميلة جداً! تجربة البرازيل من أهم التجارب اللي لازم ندرسها والكاتب عمل شغل رائع في جمع المعلومات وتوضيح مصادره كمان. احنا كتبنا مقالة عن تأثير الكومباوندات على العلاقات الاجتماعية وبنجهز مقالة عن توفير الاسكان لشريحة محدودي الدخل و مقالتك فيها معلومات مفيدة جداً تساعدنا…شكراً
نحب نسمع رأيك في مقالتنا لو شفتها.
حسام العقدة
March 31st, 2014 at 8:02 pmحركة جيران
http://www.jeranmovement.com
mohamed Says:
اتمنى اشوف مقال عن التجربة الماليزية و الفرنسية لسد فجوة التفاوت الاقليمي و العمراني داخل الدولة ويعتبرا من اهم التجارب في هذا المجال
March 4th, 2016 at 11:36 pm