إذا توجّه المرء في جولة بالسيارة في أحياء القاهرة، فبوسعه أن يشاهد فروقاً صارخة في مستوى الحياة والاستثمار العام بين الأحياء المختلفة – والتي غالباً ما تكون متجاورة. فما الذي يجعل بعض المناطق تنعُم بحالة جيدة في الوقت الذي تعاني فيه مناطق مجاورة من تراكم أكوام النفايات وانتشار الحفر في الشوارع؟ ومَنْ يقرر قيمة ونوعية الموارد العامة التي تتلقاها منطقة معينة لخدمة سكانها، وعلى أي أساس؟
يظل تحديد الاحتياجات المحلية في السياق المصري، وبالتالي تخصيص الموارد العامة أمراً غير واضح. ونظراً لعدم وجود معايير واضحة ومعلنة لتخصيص الموارد العامة بين الأحياء والأقسام استناداً إلى الاحتياجات المحلية، فقد نشأت أشكال متعددة من الحرمان المكاني.
وقد أطلقت الحكومة عدة برامج للحد من الحرمان في المناطق الريفية من خلال برامج موجّهة جغرافياً، كان آخرها البرنامج التنموي لأفقر ألف قرية. ومن بين البرامج الأخرى التي هدفت إلى تقليص الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية برنامج شروق، وبرنامج المشـروعات الرائـدة سـريعة التنفيـذ، وبرامج أخرى. ولم تكن برامج الاستهداف الجغرافي هذه كافية للقضاء على الفقر في المناطق الريفية في مصر. وقد أثارت الدراسات بعض الشواغل حول المؤشرات المُستخدَمة في اختيار هذه القرى والمبالغ المخصصة للارتقاء بالقرى المختارة (عبد الحليم، 2012). وفي الواقع، تدل عدة دراسات تجريبية على أن الاستهداف الجغرافي لم يكن كافياً أبداً كبديل عن التوزيع العادل للموارد العامة من خلال آليات سليمة ومستدامة (إلبيرز وآخرون، 2004؛ بكير وغروش، 1994؛ باليسكان، 2007).
وظل التركيز المكاني في المناطق الحضرية مستنداً إلى معايير “التخطيط” بدلاً من مؤشرات “الفقر” أو “الحرمان”. وتم تصنيف بعض الأحياء على أنها “غير آمنة” استناداً إلى مواقع الأبنية وهياكلها، وصُنفت أحياء أخرى على أنها “غير مخططة” استناداً إلى ما إذا كانت مخططة وفق آليات تخطيط رسمية أم لا.
وظلت الدراسات والإحصائيات تركز عادة على مؤشرات التنمية على المستوى الوطني، من قبيل مؤشرات الفقر ومعامل جيني.[1] إلا أن الاعتماد على مثل هذه الأرقام لتقييم رفاه المواطنين غالباً ما يُظهر صورة غير كاملة، إذ لا يأخذ معُامل جيني بالاعتبار جودة موارد أخرى من قبيل الإسكان والخدمات وفرص العمل – وجميعها تترك تأثيراً مباشراً على نوعية حياة المواطنين. وظل التعامل مع الأبعاد المكانية لانعدام المساواة وانعدام العدالة يركز، فيما عدا دراسات قليلة، على الفجوة بين المناطق الريفية والحضرية. ونادراً ما استُخدِم تعريف شامل للحرمان المكاني.
وبالتالي، وفي إطار مشروع العدالة في التخطيط الذي تديره مبادرة تضامن، يهدف هذا الإيجاز إلى تسليط الضوء على هذه الفجوات التنموية من خلال إلقاء نظرة فاحصة على الكيفية التي تُوزّع فيها الموارد في المدينة نفسها، كما يقترح تبنّي مفهوم “السكن الملائم” كمؤشر أكثر شمولاً لوضع أولويات تخصيص المشاريع التنموية.
وحسبما ناقشنا في مقالات سابقة لمبادرة تضامن، من الضروري ملاحظة الفرق بين التوزيع المتساوي والتوزيع العادل للموارد. فالتوزيع المتساوي يقتضي أن تحصل جميع المناطق على المقدار نفسه من الموارد بصرف النظر عن أي تمييز أو امتيازات، في حين يقر التوزيع العادل بأن بعض الجماعات المحرومة تحتاج دعماً أكبر لتكون على قدم المساواة مع الجماعات الأخرى، وبالتالي ينبغي أن تحصل على موارد أكثر. ويستتبع تطبيق هذه الفكرة على توزيع الموارد العامة ضمن المدينة التفريق بين تخصيص الموارد العامة بناء على توزيع متساوٍ لكل فرد بين الأحياء (التوزيع المتساوي)، في مقابل التوزيع استناداً إلى شدة الاحتياجات المحلية (التوزيع العادل). ويتيح لنا هذا الفهم تفحّص المستوى العام لمعيشة السكان من خلال الموارد العامة والخدمات المخصصة لهم، ونوعية مساكنهم ووظائفهم، إلخ. وللأسف، وكما سنرى في هذا الإيجاز، فإن توزيع الموارد العامة في القاهرة ليس متساوياً ولا عادلاً. ولا نعني بذلك أن الحكومة لا تُخصص ملايين الجنيهات للمشاريع التنموية في جميع أنحاء المدينة، بل أن المسألة تتعلق بكيفية اختيار هذه المشاريع وتخصيصها مكانياً، وما إذا كان ذلك يتوافق مع الاحتياجات المحلية.
من أجل التحقق من التوزيع المكاني العادل للموارد العامة، يجب تحقيق عدة شروط مؤسسية:
سيوضح تفحّص عمليات تقييم الاحتياجات وتخصيص الموارد في مصر من منظور مالي غياب معظم العوامل المذكورة أعلاه (أو ضعفها في أحسن الأحوال).
بما أن الدولة المصرية قائمة على المركزية الشديدة، فإن وزارة المالية تخصص معظم الموارد المحلية العامة على المستوى المركزي. وينظم القانون رقم 53 لسنة 1973 عملية إعداد الموازنة الوطنية وتطوير خطة التنمية، ولا يتضمن القانون أي متطلبات لوضع أهداف تنموية أو نقاط مرجعية واضحة كجزء من العملية. وتبدأ العملية بأن تُصدر وزارة المالية منشوراً بشأن إعداد الموازنة العامة، ثم تجمع الموازنات المقترحة من جميع الهيئات العامة بدءاً من أدنى مستوى إداري، ثم تشكّل لجنة تتضمن ممثلين عن وزارة المالية، ووزارة التخطيط، والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، وبنك الاستثمار القومي، وممثلين عن الوكالات التنفيذية المختلفة. وهذه اللجنة مسؤولة عن تقييم مسودات الميزانيات المقدمة من الوكالات الحكومية المختلفة. ويبدأ تنفيذ الموازنة العامة بتخصيص أموال للهيئات والمشاريع المختلفة من قبل وزارة المالية ووزارة التخطيط، وقد تختلف قيمة هذه الأموال عن الاحتياجات الأولية المقترحة سابقاً من وزارة المالية.
لا تتضمن عملية إعداد الموازنة العامة أي آليات تربط التخطيط المالي بالاحتياجات التنموية المحلية المعرفة تعريفاً جيداً. ويتم تصنيف الموزانة إلى بنود إنفاق يتم تدقيقها مالياً فقط من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات، ودون اعتبار للتأثير الاجتماعي الاقتصادي للإنفاق العام. وفي مقابل ذلك، لا تستخدم مصر أسلوب الموازنة القائمة على البرامج، والذي يربط التمويل بأهداف تنموية محددة على شكل برامج، من قبيل الرعاية الصحية الأساسية والتعليم، وهذا على الرغم من حقيقة أن منشور إعداد موازنة السنة المالية 2015/2016 نص على أن الحكومة ستبدأ بتنفيذ موازنة قائمة على البرامج في بعض القطاعات. وكررت الحكومة هذا التعهد في منشور موازنة السنة المالية 2016/2017.
تنزع الاستثمارات العامة أن تتركز في مناطق معينة على حساب مناطق أخرى، وهذا يحدث حتى في تخصيص ميزانيات القطاعات المعروفة باعتمادها على صيغة تمويل مثل ميزانية برنامج التنمية المحلية، حيث تتجاهل هذه الصيغة درجة الحرمان المكاني التي تعاني منها المنطقة المعنية. تقارن الخريطة أدناه عدد السكان الفقراء (الخريطة العليا) مع حصة الفرد من ميزانية التنمية المحلية (الخريط السفلى). وتُظهر الخريطة بوضوح أن سكان قسم النزهة (وهو حد أغنى الأقسام في شمال شرق القاهرة) يحصل على أعلى حصة للفرد من المخصصات، في حين تحصل المناطق التي توجد فيها أعداد أكبر من السكان المحرومين مالياً (من قبيل عين شمس ومصر القديمة) على حصة أقل كثيراً من المخصصات. وليس هناك آليات أو أدوات لضمان التوزيع الجغرافي العادل للأموال العامة على امتداد البلد، أو حتى ضمن المدينة الواحدة، من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية لجميع المواطنين.
إضافة إلى ذلك، تمنح المادة 26 من قانون الإدارة المحلية رقم 48 لسنة 1979 للمحافظين سلطة كاملة على القضايا التنفيذية في محافظاتهم. ومع ذلك، لا تعالج هذه المادة التداخل والأنواع المتعددة من التخطيط المالي الذي تقوم به الوزارات التنفيذية المختلفة. وهذا يثقل عبء المحافظين بواجبات إدارية وتوقعات عامة لمعالجة المشاكل في محافظاتهم رغم أنهم لا يملكون سيطرة على ميزانياتها. ومن النتائج الواضحة لهذه المسؤولية المزدوجة ما حدث أثناء كارثة الفضيان التي وقت مؤخراً في الإسكندرية وأدت إلى مقتل سبعة أشخاص. فقد وجّه الجمهور اللوم إلى المحافظ، في حين أنحى المحافظ باللائمة على الإدارات العامة (التي تخضع إدارياً إلى الوزارات المسؤولة عنها) لتقصيرها عن تخصيص الأموال اللازمة لصيانة نظام تصريف المياه العادمة القديم.
المشاركة العامة
ثمة طريقتان أمام الجمهور للمساهمة في عملية إعداد الموازنة العامة في البلد، الأولى عبر ممثليهم المنتخبين على مستوى المجالس الشعبية المحلية (والتي توقفت عن العمل منذ عام 2011)، وتستعرض هذه المجالس وتقر ميزانية الوكالات التي تعمل على المستوى المحلي فقط، خصوصاً ميزانية البرامج التنموية المحلية. أما الطريقة الثانية فهي من خلال البرلمان المُنتخب (الذي انحل خلال الفترة 2013-2015)، والذي يُصدر موافقته النهائية على مسودة الموازنة الوطنية. وتظل قنوات التفاعل بين الموازنة المحددة على المستوى المركزي وبين ميزانيات الاحتياجات المحلية قنوات مسدودة نظراً لنقص اللامركزية المالية ونظراً لغياب أي تأثير فعلي للآراء التي تعرب عنها المجالس الشعبية المحلية على الموزانة النهائية.
تمثل المجالس الشعبية المحلية الرابط الرئيسي بين المواطن وموقعه الجغرافي وبين الموازنة الوطنية، وحتى لو كانت هذه المجالس تعبّر فعلاً عن الاحتياجات المحلية، فإن التشريعات تعيقها – وخصوصاً قانون الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 1979 الذي يمنح الوزارات القول الفصل في تقييم الاحتياجات وتحديد الموازنات على مستوى القسم. وبعد أن تنال الموازنات المقترحة موافقة المجالس الشعبية المحلية، تُعرض على المحافظ، ثم على اللجنة العليا للتخطيط الإقليمي. وينسق وزير التخطيط مع وزير الإدارة المحلية ثم ينسق بين الخطط المقدمة وبين الخطة الوطنية العامة. وهذا إلى جانب قانون الموازنة العامة رقم 53 لسنة 1973 الذي يمنح وزارة المالية السلطة الكاملة لإعداد الموازنة الوطنية دون التوافق مع المقترحات المقدمة من الوزارات الأخرى أو من المجالس الشعبية المحلية. وببساطة، يحق للمجالس الشعبية المحلية أن تناقش الميزانيات المحلية وأن تصدر توصيات، إلا أن هذه التوصيات غير مُلزمة قانونياً لوزارة المالية التي تملك سلطة قطعية باتخاذ القرارات.
الشفافية وتقييم الأثر
حسبما أوضحنا أعلاه، تُخصِص وكالات الحكومة المركزية الموارد المالية وتحدد خطة التنمية الوطنية، ثم تُعلن عنها على الموقع الإلكتروني التابع لوزارة المالية.[2] مع ذلك، لا تنشر الوزارة موازنات على المستوى المحلي، وتقتصر إمكانية الوصول إليها على الدوائر الرسمية في المحافظات. وهذا يمنع المواطنين من معرفة حجم الموارد العامة التي تحصل عليها مناطقهم والمخصصة للخدمات العامة أو المشاريع التنموية، كما يمنع المواطنين من مساءلة المسؤولين الحكوميين بشأن هذه المخصصات المالية. وبالمثل، تتضمن خطة الاستثمار الحكومية التي تعدها وزارة المالية أسماء المشاريع المخطط لها على مستوى الأقسام، ولكن دون الإشارة إلى المبالغ المخصصة لها.
ولا يُتاح الاطلاع سوى على جزء من الخطة الاقتصادية والاجتماعية وعلى مشاريع التنمية المحلية على مستوى الأقسام، ويشكل هذا الجزء 1% فقط من الإنفاق العام. وتكون هذه المشاريع محدودة بتعبيد الطرق وإنارتها وإجراءات السلامة وتحسين البيئة ودعم الإدارة المحلية.
ولا يوجد أي تشريع يضمن توفير تفاصيل هذه المشاريع للجمهور، وبالتالي يجد المرء تفاوتاً كبيراً بين توافر التفاصيل الموجودة في الأقسام والمحافظات المختلفة ومستوى هذه التفاصيل. وفي أفضل الحالات، تُعرض بيانات المشاريع على مستوى القسم، وليس على مستوى الشياخة (وهي أصغر وحدة إدارية)، وفي أسوأ الحالات، لا تُنشر هذه البيانات بتاتاً.
إضافة إلى ذلك، لا توفر أي من السجلات العامة المذكورة أعلاه أي معلومات حول الإنفاق العام على مستوى الشياخة، وهو القسم الذي يشعر فيه المواطنون بالتأثير المباشر للإنفاق العام وجهود التطوير – أو نقصها. ولا تحدد الموازنة العامة كيفية إنفاق مخصصات التنمية المحلية دون مستوى القسم، مما يعطي المسؤولين في القسم سلطة مطلقة في توزيع الموارد بين الشياخات حسب مشيئتهم، ودون آليات إشراف داخلي أو عام.
ورغم محدودية المعلومات على مستوى الشياخة، يمكننا مقارنة توزيع المدارس الحكومية ضمن القسم – على مستوى الشياخة. وإذا نظرنا إلى قسم شرق مدينة نصر، وهي ذات دخل متوسط من الشريحة العليا وتقع في شمال شرق القاهرة، وإلى شياخة عزبة الهجانة التي تقع ضمن هذا القسم (وهي إحدى أكبر المستوطنات غير الرسمية في القاهرة)، فإننا نجد أنه من بين 22 مدرسة حكومية في القسم، لا يوجد سوى ثلاث تقع عزبة الهجانة لخدمة العدد الكبير من الطلاب فيها.[3] إضافة إلى ذلك، تكشف المقابلات مع موظفي المدارس في المنطقة عن وجود تأخيرات في توزيع المكافآت السنوية، مقارنة مع موظفي المدارس في سائر القسم. ويمكن تفحّص أوجه التفاوت هذه في خدمات أخرى لو توفرت بيانات حول توزيع الموارد العامة على مستوى الشياخة.
ثمة حق دستوري للناس في الوصول إلى المعلومات (المادة 68، دستور عام 2014)، ولكن لم يتم تفعيل هذه المادة الدستورية عبر التشريعات لغاية الآن. فكيف يمكن للجمهور أن يُخضع السلطة التنفيذية للمساءلة إذا كان لا يعرف كيفية توزيع الاستثمارات العامة في الأحياء؟ وثمة إشكالية أكبر أيضاً تتمثل في أن أي من وكالات الرصد التابعة للدولة لا تنظر إلى تأثير مشاريع الاستثمار المحلية العديدة في البلد، أو إلى مخرجاتها أو حتى تنفيذها.
وفي موازاة نظام التخطيط المالي الموصوف أعلاه والذي يمول هيكل الإدارة المحلية والخدمات العامة من قبيل الصحة والتعليم ومشاريع التنمية المحلية على مستوى القسم، توجد وكالات تخطيط عمراني مرتبطة بوزارة الإسكان تعمل على إعداد خطط عمرانية استراتيجية لتطوير المناطق الحضرية في جميع أنحاء البلد. ويتأثر عمل وكالات التخطيط العمراني هذه تأثراً كبيراً بالاستراتيجيات الوطنية من قبيل إعادة توجيه التوسع العمراني نحو الصحراء، و “إزالة العشوائيات“.
يستند التخطيط العمراني في مصر بصفة أساسية إلى تصنيف البيئة المعمورة، والذي يحدد السياسة العمرانية للتعامل مع المنطقة. وتُصنّف المناطق العمرانية في التشريعات المصرية بوصفها: مناطق مخططة، ومناطق غير مخططة، ومناطق غير آمنة.[4] وللمفارقة، على الرغم من شيوع استخدام مصطلح ’العشوائيات‘ من قبل المسؤولين الحكوميين وعموم الجمهور، إلا أن التشريعات المصرية لا تتضمن تعريفاً ملائماً للمصطلح – ولا ترد إشارة له سوى في دستور عام 2014 (المادة 78). وعلى امتداد العقدين الماضيين، بدأت الحكومة تستهدف بعض الجيوب العمرانية للارتقاء بها استناداً إلى التصنيفات المذكورة أعلاه؛ وقد حدد صندوق تطوير المناطق العشوائية مناطق ’غير آمنة‘ ومناطق ’غير رسمية‘، ويتبع الصندوق حالياً لوزارة الإسكان.
ثمة عدة مشاكل تنشأ عن استخدام التقسم المبسط للمناطق بوصفها مخططة/ غير مخططة كأداة لتوجيه جهود التنمية والسياسية العمرانية. فأولاً، يعكس التصنيف أعلاه قانونية البيئة المعمورة وامتثالها مع أنظمة البناء ومعايير التخطيط، إلا أنه لا يلتقط الاحتياجات والفرص الإنمائية المحلية، ويحجب التنويعات ضمن المناطق المصنفة بأنها ’غير رسمية‘. فهذا التصنيف لا يقول الكثير حول المشاكل التي تواجهها تلك المناطق، فهل هي غياب الخدمات العامة، أم مستويات الفقر المرتفعة، أم تدهور حالة المباني والبنى الأساسية، أم غير ذلك من الخدمات العامة. وإذ يترافق هذا الأمر مع نقص المشاركة العامة الجدية في معظم مشاريع التطوير، فغالباً ما توجّه جهود التنمية نحو جوانب لا تعالج أهم المشاكل المحلية. ومن ناحية أخرى، تُعتبر فئة المناطق ’غير الآمنة‘ أكثر تمثيلاً لطبيعة المنطقة، إذ يقسّم تعريف صندوق تطوير المناطق العشوائية معيار انعدام الأمان ليعكس بعض احتياجات هذه المناطق.
ثانياً، تنزع هذه التصنيفات أن تصبح وسماً يرتبط بهذه المناطق ارتباطاً دائماً، وبصرف النظر عن المشاريع الإنمائية التي تطلقها الحكومة أو المنظمات غير الحكومية أو الهيئات المانحة الأجنبية، والتي تكلف ملايين الجنيهات. ولا تأخذ السلطات المسؤولة عن إعداد قواعد البيانات بالاعتبار ديناميات تطور الأحياء. فهذه التصنيفات الجامدة قد تجتذب بعض التحسينات التي اشتدت الحاجة إليها إلى المناطق المصنفة بأنها “غير رسمية”، إلا أن مناطق أخرى لا ينطبق عليها وسم “غير الرسمية” قد تكون في وضع أسوأ، ومع ذلك لا تتمكن من جلب انتباه صانعي القرارات و/أو وسائل الإعلام.
ثالثاً، لا يوجد أرقام أو ترسيم متفق عليه وطنيا أو حتى على مستوى المدن بشأن هذه التصنيفات، وكذلك لا يوجد تعريفات واضحة ومتفق عليها للمناطق “غير الرسمية” والمناطق “غير المخططة”. وقد عرّف صندوق تطوير المناطق العشوائية ’المناطق غير الآمنة” واستخدم نظام تصنيف مؤلفاً من أربع فئات بغية نقل السكان من مناطق معينة ولاقتراح جهود حكومية أخرى لتحسين هذه المناطق.[5] وللأسف، ثمة وكالات حكومية عديدة تحاول تعريف هذه التصنيفات إلا أنها لا تتفق دائماً مع بعضها. فعلى سبيل المثال، تعاونت وزارة التنمية المحلية في عام 2008 مع الهيئة العامة للتخطيط العمراني ومركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) لوضع تعريف للمناطق ’غير الرسمية‘، في حين وضع مجلس الشورى تعريفاً خاصاً به للمصطلح. ولم يتم تبني أي من التعريفين على المستوى الوطني كما لم تعترف وزارة الإسكان بهما.
وختاماً، وفيما يتعلق بالقضايا المؤسسية، تفتقر عملية اتخاذ القرارات في تصنيف المناطق العمرانية لأي صوت من الجمهور، رغم تأثير هذا التصنيف على تخصيص الأموال لأغراض التنمية. فليس للجمهور أي صوت في عملية تصنيف المنطقة أو تحديد أولويات التنمية. وعلى سبيل المثال، لا تتوفر للجماعات المهتمة أي آلية للمطالبة بشمول منطقة معينة ضمن مشروع تطوير يتعامل مع المناطق غير الرسمية أو التاريخية في المحافظات المختلفة.
وبمعنى آخر، غالباً ما تعمل التصنيفات العمرانية الحالية إلى تقييد الفهم الشامل لمدننا فهماً متوزاناً ودينامياً يركز على كيفية توزيع وتوجيه الموارد العامة عبر المدينة من أجل إزالة الفجوات القائمة في المساواة والنوعية وإمكانية الوصول إلى الخدمات والمرافق بين المناطق المختلفة، أو الحد من تلك الفجوات.
وكما أوضح هذا الإيجاز لغاية الآن، هناك عدة جوانب قصور في قدرة التخطيط المالي والتخطيط العمراني الحالي وآليات برامج الاستهداف المكاني في إيلاء الأولوية للمناطق المستهدفة بالتنمية وبطريقة تعكس فعلاً الاحتياجات والتحديات المحلية. ولا تنعكس جوانب القصور هذه فقط في مشاريع التنمية الحكومية، وإنما تنعكس أيضاً في المشاريع الممولة دولياً، والتي تختار مناطق التدخل استناداً إلى توصيات الحكومة، إلا أن هذه التوصيات تستند إلى تصنيفات جامدة، بدلاً من توجيه التدخلات استناداً إلى تقييم دينامي للاحتياجات المحلية.
ويمثل إسكان الأولى بالرعاية في مدينة السادس من أكتوبر، والمعروف باسم ’مساكن عثمان‘، مثالاً على مجتمع محلي يصعب تطبيق التصنيفات العمرانية عليه. فمنطقة مساكن عثمان هي منطقة إسكان حكومي تأوي حالياً سكان المناطق غير الرسمية الذين تم إخلاؤهم بسبب الطبيعة غير الآمنة لمساكنهم، إضافة إلى جاليات عربية وأفريقية مهاجرة. ورغم أن المنطقة ’مخططة‘ حسب معايير صندوق تطوير المناطق العشوائية، إلا أنها محرومة تقريباً من جميع الخدمات العامة، إذ لا يوجد أي مراكز أمنية أو مدارس أو عيادات أو متاجر أغذية قريبة، كما تنقطع المياه عنها لمدة أسابيع أحياناً، ويعيش سكانها في وسط بيئة مادية واجتماعية صعبة. وتواجه المنطقة وسكانها مشاكل تتشابه مع المشاكل الشائعة في المناطق غير الرسمية، وأحياناً أسوأ منها، إلا أنها لا تحصل على اهتمام الوكالات الحكومية، كما أنها لا ترد في قوائم خطط التنمية المستقبلية.
بناءً على ما سلف، ثمة حاجة لنهج متكامل للتنمية المحلية ينظر إلى المناطق المختلفة واحتياجاتها، بدلاً من النهج الظرفي التي تعتمده الحكومة حالياً. ويجب على صانعي القرارات تجاوز التركيز على تصنيف المجتمعات المحلية بوصفها مخططة/ غير مخططة، وآمنة/ غير آمنة واعتماد فهم أكثر شمولاً للاحتياجات التنموية. وتقترح مبادرة تضامن استخدام معايير “السكن الملائم” كمؤشر مناسب لتحقيق استهداف أفضل للمناطق التي تعاني من مشاكل وتحسين تقديم الخدمات وتخصيصها.
تبنّت الأمم المتحدة في عام 1966 العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد أقر هذا العهد بالسكن الملائم كحق من حقوق الإنسان (المادة 11)، ولكن لم يتم توضيح تعريف “السكن الملائم” حتى عام 1991، والذي حدد التعريف عبر المعايير السبعة التالية (الأمم المتحدة، 1991):
الضمان القانوني للاستمرار في شغل المسكن (ضمان الحيازة): الحيازة الآمنة تحمي الأشخاص من الإخلاء القسري، والمضايقات، أو التهديدات الأخرى. ويتخذ شغل المساكن أشكالاً مختلفة منها مساكن الإيجار (العام والخاص)، والإسكان التعاوني، وشغل المساكن من قبل أصحابها، والإسكان في حالات الطوارئ، والاستيطان غير الرسمي، بما فيما في ذلك الاستيلاء على الأراضي أو العقارات.
توفير الخدمات والمواد والمرافق والهياكل الأساسية: يجب أن تتوفر بالمسكن الملائم بعض المرافق الأساسية اللازمة للصحة والأمن والراحة والتغذية، من قبيل مياه الشرب النظيفة، والطاقة لأغراض الطهي والتدفئة والإضاءة، ومرافق الصرف الصحي، والتخلص من النفايات، إلخ.
القدرة على تحمل الكلفة: ينبغي أن تكون التكاليف المالية الشخصية أو الأسرية المرتبطة بالسكن ذات مستوى يكفل عدم تهديد تلبية الاحتياجات الأساسية الأخرى أو الانتقاص منها.
الصلاحية للسكن: يجب أن يكون السكن الملائم صالحاً للسكن من حيث حماية ساكنيه وتوفير مساحة كافية لهم. كما يجب أن يكون سليماً إنشائياً وأن يوفر الحماية من البرد والرطوبة والحر والمطر والرياح أو أي عوامل تهدد الصحة.
إتاحة إمكانية الحصول على السكن: يجب أن تتاح للفئات المحرومة إمكانية الاستفادة بصورة كاملة ومستمرة من موارد السكن الملائم، ويجب ضمان إيلاء درجة معينة من الأولوية في مجال الإسكان للأشخاص المسنين والأطفال وذوي الإعاقات والمصابين بأمراض لا شفاء منها، والذين يعانون من مرض عقلي، وضحايا الكوارث الطبيعية والأماكن المعرضة للكوارث.
الموقع: يجب أن يكون السكن الملائم في موقع يتيح إمكانية الاستفادة من خيارات العمل وخدمات الرعاية الصحية والمدارس وغير ذلك من المرافق الاجتماعية. وبالمثل، لا ينبغي أن تُبنى المساكن في مواقع ملوثة أو مواقع قريبة جداً من مصادر التلوث التي تهدد الصحة.
الملاءمة الثقافية: إن الطريقة التي يتم بها بناء المساكن ومواد البناء المستخدمة والسياسات الداعمة لها يجب أن تعبّر على نحو مناسب عن الثقافة التي تتم في إطارها.
لقد نفذّت مدن أخرى نُهجاً شبيهة في توجيه جهود التنمية. وقد نفذ رؤساء البلدية المتعاقبون في بوغوتا (كولومبيا) سياسات مبتكرة للحد من انعدام المساواة في المدينة من خلال مشاريع استهدفت زيادة إمكانية الحصول على الخدمات والأمن وتشجيع المشاركة المدنية (منظمة المدن المتحدة والحكومات المحلية، 2012).
إن الكثير من المعلومات اللازمة لاستخدام هذه المعايير في توجيه التنمية متوفرة حالياً من خلال البيانات التي تجمعها الإحصاءات الوطنية، ويمكن استغلالها لوضع مصفوفة شاملة للسكن الملائم في جميع أنحاء المدينة. فعلى سبيل المثال، يمكن تطوير مؤشر حول معيار ’توافر الخدمات‘، بناء على بيانات الإحصاء الوطني، يتناول عدد المدارس الحكومية والمستشفيات ونوادي الشباب ومراكز الشرطة ومكاتب البريد والعديد من الخدمات الأخرى الموثقة على مستوى الشياخة.
ومع ذلك، يجدر بنا أن نلاحظ محدودية أسلوب العينات عند استخدام البيانات المتوفرة من الإحصاء الوطني الذي يجري كل عشر سنوات في مصر. فأولاً، لا تتوفر جميع المعلومات حول أصغر وحدة إدارية؛ فالمستوى الأكثر شيوعاً للتفاصيل المطلوبة والمتوفرة للعموم هو مستوى القسم. ثانياً، ثمة فترة طويلة تفصل بين كل إحصاء والذي يليه، مما يجعل البيانات لا تعكس التغييرات في المناطق، خصوصاً كلما اقتربنا من نهاية فترة السنوات العشر (منظمة المدن المتحدة والحكومات المحلية، 2012). ثالثاً، قد تكون البيانات المطلوبة لتطوير أسس شاملة للسكن الملائم غير مشمولة بمجوعة البيانات التي تجمعها الحكومة. فمثلاً، إذا نظرنا مرة أخرى إلى معيار ’توافر الخدمات‘، سيكون من المهم أن نعرف الطرق التي يستخدمها السكان للوصول إلى العمل والمدرسة والخدمات الأساسية العامة الأخرى، والمدة التي يمضونها في التوجه إلى هذه الأماكن والخدمات. ولكن للأسف، لا تقوم أي وكالة حكومية في مصر بجمع هذه البيانات.
إن جعل تقديم السكن الملائم واحداً من الأهداف الوطنية – حسبما نص الدستور المصري – عند تخصيص الموارد على مستوى المدينة والمنطقة والمحافظة، يتيح للمرء أن يلقي نظرة أوضح على الوضع على أرض الواقع مما يتيح لصانعي القرارات اتخاذ قرارات مستنيرة حول الأماكن الأكثر جدارة بالحصول على المخصصات وحول طبيعة المشاريع التي يجب تمويلها، وذلك لمعالجة جوانب انعدام المساواة على نحو أفضل. ولتحقيق النجاح، يجب أن يترافق هذا المسعى مع إدارة محلية قوية تتمتع بسلطات مالية وإدارية تستند إلى تشريعات محددة، وأن تكون قائمة على أصوات السكان وعلى شراكة حقيقية مع المجتمع المدني.
[1] مُعامل جيني هو أحد المؤشرات الأكثر استخداماً لقياس انعدام المساواة، وذلك من خلال قياس توزيع الدخل بين السكان. وتتراوح قيمته بين 0 و 1 (ويمكن التعبير عنه أيضاً بنسبة مئوية)، حيث تشير قيمة 0 إلى توزيع متساوٍ في الدخل، وتشير قيمة 1 إلى أن جميع الدخل مركز في يد شخص واحد.
[2] يحتوي الموقع الإلكتروني باللغة العربية التابع لوزارة المالية على الموازنة العامة للسنة المالية 2015-2016.
[3] استُخلصت هذه الأرقام من بيانات نشرتها وزارة التربية والتعليم.
[4] تُعرّف المناطق غير المخططة وفقاً لقانون البناء الموحد رقم 199 لسنة 2008، في حين تُعرّف المناطق غير المخططة والفئات الأربع للمناطق غير الأمنة وفقاً لصندوق تطوير المناطق العشوائية.
[5] يمثل تعريف صندوق تطوير المناطق العشوائية للمناطق “غير الآمنة” والمؤلف من أربع فئات أوضح تعريف حالياً للتصنيفات العمرانية، وقد نشر الصندوق خريطة تتضمن مواقع هذه المناطق.
عبد الحليم، ريم. 2012. ”العوامل المؤسسية للحد من الفقر على نحو مستدام: تحليل خاص لإدارة الأراضي في حالة مصر.” في المؤتمر السنوي للبنك الدولي حول الأرض والفقر. واشنطن العاصمة.
بيكر ، جودي إل ، ومارغريت غروش، 1994. “الحد من الفقر من خلال الاستهداف الجغرافي: ما مدى نجاعته”، مجلة التنمية العالمية، المجلد 22 (7): 995-983.
باليسكان، ارسينيو. م. وإرنستو إم بيرنيا. 2007. “الطريق نحو الحد من الفقر: بعض الدروس من تجربة الفلبين.” مجلة الدراسات الآسيوية والأفريقية، المجلد 37(2): 167-147.
إلبرز ، كريس ، توموكي فوجي ، بيتر لانجو ، بيرك أوزلر ، ويسلي يين. 2004. “الحد من الفقر من خلال الاستهداف الجغرافي: ما مدى فائدة التصنيفات؟” مجلة التطوير الاقتصادي 81(1): 213-198.
منظمة المدن المتحدة والحكومات المحلية .2012. “من هي الجهة التي بوسعها التصدي لانعدام المساواة في المناطق الحضرية؟ الأدوار المنسية غالباً للحكومة المحلية.” التصدي لانعدام المساواة: جوهر خطة التنمية لما بعد عام 2015 والمستقبل المنشود لجميع المشاورات المواضيعية العالمية.
الأمم المتحدة.1991. العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. التعليق العام رقم 4، الحق في السكن الملائم. E/1992/23، 13 ديسمبر/ كانون الأول 1991.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments