هذا المقال هو جزء من سلسلة مقالات حول التنقل الحضري في إقليم القاهرة الكبرى. انظر أيضاً:
التنقل الحضري: أكثر من مجرد إنشاء شوارع
ليس سراً أن الانتقال من مكان ما إلى مكان آخر في القاهرة قد يكون رحلة شاقة، فثمة بطء شديد في سير المركبات ناجم عن عددها الكبير، وقد يمتد الازدحام مدة ساعات. وكذلك ثمة حوادث مرور، وازدحام في وسائل المواصلات العامة، وأماكن محدودة لاصطفاف السيارات. مع ذلك، إذا نظرنا لمشاكل المواصلات في القاهرة بوصفها ناجمة عن القيود المادية المرتبطة بحركة المرور فقط، من قبيل وفرة الشوارع وسماتها التصميمة في شبكة الطرق أو القدرة الاستيعابية لاصطفاف السيارات، فإن هذه النظرة ستكون مجتزأة ومختزلة. إن التنقل الحضري هو جانب حيوي من المدينة، ويتشكل بتفاعلات معقدة: على مستوى المصالح المتناقضة على الصعيد السياسي والاعتبارات البيئية؛ وعلى المستوى التقني، فالتنقل هو نتيجة تفاعلات النُظم الاجتماعية-التقنية المختلفة (Cascetta et al. 2007). وبما أن هذه الديناميات المعقدة لا تخضع عادة لدراسة متأنية وليست مفهومة جيداً، فغالباً ما تلجأ الهيئات المسؤولة إلى حلول تقليدية من قبيل تطوير البنى الأساسية أو تحسين الظروف للسيارات الخاصة. لذا فإنه من الضروري تحليل مشاكل المواصلات في القاهرة كجزء من الهياكل الأوسع للحوكمة الحضرية، والنظر إليها في سياق السلطات المحلية المشتتة (Cook 1985). يهدف هذا المقال إلى خلق فهم أفضل للهيكل المؤسسي للتنقل الحضري في إقليم القاهرة الكبرى والمشاكل التي تنشأ عن الترتيبات المؤسسية الحالية.
إدارة المرور
ثمة جهات فاعلة متعددة منهمكة في اتخاذ القرارات، والعمليات، والرصد في قطاع المواصلات. ورغم أن إقليم القاهرة الكبرى يُعتبر مدينة واحدة، إلا أنه مقسم إدارياً إلى محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية. وثمة مديريات فنية محلية مسؤولة عن الطرق والمواصلات في كل محافظة من هذه المحافظات، وهي تتبع لوزارة النقل والمواصلات، إلا أنها تخضع إدارياً للمحافظة المعنية. وتنهض المديرية بالمسؤولية عن صيانة الطرق. أما وحدة المرور ضمن مديرية الإسكان والمرافق في المحافظات المختلفة فهي مسؤولة عن خدمات الهندسة والتصميم للمشاريع المحددة. وتخضع مديرية الإسكان والمرافق إدارياً للمحافظة، أما فنياً فهي تتبع وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرية. بالإضافة إلى ذلك، هناك مديرية شرطة المرور ضمن كل محافظة، وتخضع فنياً إلى وزارة الدفاع ولا تخضع للإشراف المباشر للمحافظة المعنية، إلا أنها ترفع تقاريرها لها (World Bank 2000). وتُصدر مديريات شرطة المرور رخص السائقين والمركبات وتفرض قوانين المرور. كما أنها تشارك في الموافقة على خطط إدارة المرور، من قبيل تحديد السرعة القصوى وأنظمة اصطفاف السيارات، وتقوم مديريات الشرطة بفرض هذه الأنظمة. ويجري ترخيص خطوط الميكروباص من قبل المحافظات حيث يتم تنسيق خطوط سيرها مع مديريات شرطة المرور ذات الصلة. بالإضافة إلى ذلك، يوجد مكتب لهندسة المرور في محافظة القاهرة، وهو يهدف إلى تقييم تأثير أنشطة استخدام الأراضي على حركة المرور، وترخيص استخدامات جديدة للأراضي، وإنشاء مرافق جديدة لاصطفاف السيارات بعيداً عن الشارع، إضافة إلى الموافقة على خطط إدارة المرور.
مشغلو وسائل الموصالات والأنظمة التي تحكمهم
فيما يتعلق بالتشغيل، تُعتبر هيئة النقل العام بالقاهرة، رغم أنها تخضع لمسؤولية محافظة القاهرة، مشغّل رئيسي للمواصلات العامة في إقليم القاهرة الكبرى وتمتد خدماتها إلى محافظتي الجيزة والقليوبية. وتشغّل الهيئة باصات خاصة بها، إضافة إلى باصات تملكها ولكن يتولى قيادتها شركة تابعة هي شركة أتوبيس القاهرة الكبرى. كما تشرف الهيئة على خطوط الامتياز الممنوحة لعدد من المشغلين من القطاع الخاص في محافظة القاهرة، في حين تشرف محافظة الجيزة على خطوط الامتياز التي تسير في المنطقة الخاضعة لها (DRTPC 2009؛ World Bank 2000). إلى جانب ذلك، تشغّل هيئة النقل العام بالقاهرة خطوط مراكب عبور عبر نهر النيل، وتشغّل ما تبقى من نظام الترام بعد أن أزالت محافظة القاهرة أكثر من 60% منه منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2014.
يتم تمويل هيئة النقل العام بالقاهرة من خلال إيرادات أجور المواصلات ومن موازنة الدولة عبر دعم حكومي يتيح لها الإبقاء على أسعار منخفضة لأجور المواصلات. وتقوم الهيئة القومية للأنفاق، وهي الهيئة المسؤولة عن جميع مشاريع الأنفاق في مصر، بإنشاء خطوط المترو، والتي يعتبرها البعض بأنها الوسيلة الأكثر فاعلية للنقل العام في إقليم القاهرة الكبرى. وحال الانتهاء من إنشاء خطوط المترو، يتم تسليمها إلى الهيئة التي تشغلها، الشركة المصرية لإدارة وتشغيل المترو، وهي شركة عامة تملكها وزارة النقل والمواصلات (DRTPC 2009). وقد تم تمويل إنشاء المترو من خلال وكالة التنمية الفرنسية ووكالة التعاون الدولي اليابانية. ولا تغطي أجور ركوب المترو سوى جزء صغير، يُقدر بـ 11%، من كلفة التشغيل. أما أغلبية تكاليف التشغيل فتغطيها موازنة الدولة، وتصل الاستثمارات في نظام المترو إلى 91.8% من الأموال المخصصة للمواصلات العامة في موازنة الدولة.
أطر اتخاذ القرارات والتخطيط
وزارة النقل والمواصلات مسؤولة عن إعداد الاستراتيجيات الوطنية للمواصلات، ووضع الأولويات لمشاريع المواصلات اللازمة وتحديد كلفتها، وآليات التمويل والتشغيل، إضافة إلى تحديد البرامج الزمنية. وتتطلب المشاريع على المستوى الوطني موافقة البرلمان، في حين تتطلب القرارات والمشاريع المرتبطة بالتنقل على مستوى المحافظة موافقة من المجلس الشعبي المحلي في المحافظة المعنية. ويعمل جهاز شؤون البيئة المصري على التنسيق مع الهيئات الأخرى من قبيل وزارة النقل والمواصلات ومحافظة القاهرة لضمان الحد من التأثيرات البيئية السلبية الناجمة عن المواصلات، وخصوصاً ما يتعلق بنوعية الهواء. وتتضمن الجهود التي يبذلها الجهاز برنامج التفتيش على انبعاثات السيارات بالتعاون مع مديريات الشرطة في المحافظات، وبرنامج شطب السيارات القديمة واستبدالها، وتشجيع استخدام الغاز المضغوط كوقود نظيف.
التخطيط المجزّأ وعدم كفاية تكامل الخدمات
هذا الترتيب المؤسسي يؤدي إلى مستوى غير كافٍ من تخطيط المواصلات وإدارة المرور وعدم كفاية تقديم الخدمات من قبل نُظم المواصلات العامة. فأولاً، يؤدي تعدد الجهات الفاعلة إلى نقص في الوضوح في توزيع المهمات. فمثلاً، لا يوجد وضوح ضمن محافظة القاهرة بشأن المسؤولية النهائية عن تخطيط وهندسة المرور إذ تتوزع المسؤولية بين شرطة المرور في القاهرة وبين مكتب القاهرة لهندسة المرور والتخطيط (World Bank 2000). إضافة إلى ذلك، تنقسم المسؤولية عن تخطيط نظام المواصلات العامة بين وزارة النقل والمواصلات وبين الهيئة القومية للأنفاق بخصوص المواصلات التي تتضمن سككاً حديدية، وبين محافظة القاهرة بشأن المواصلات على الطرق، وليس هناك تخطيط كافٍ للتكامل بين وسائل المواصلات بسبب غياب هيئة موحدة مسؤولة عن تطوير خطط متكاملة للمواصلات. ويبرز هذا الأمر من خلال غياب التنسيق والتواصل بين الهيئات المختلفة. ويؤدي غياب التنسيق المؤسسي إلى ضآلة التكامل بين أنواع المواصلات المختلفة فيما يتعلق بمواعيد الانطلاق، والخطوط، والأجور من أجل زياة الموارد المتوفرة إلى الحد الأقصى. وتحدد كل جهة تشغيلية طريقتها الخاص في التشغيل ودون اعتبار لما تقوم به جهات التشغيل الأخرى (World Bank 2000).
ويؤثر نقص التكامل على إمكانية الناس في استخدام المواصلات وعلى مستوى رضاهم عن جودة الخدمة، وعلى عدد الناس الذين يستخدمون المواصلات العامة. وإذا ما نظرنا إلى أجور وسائل المواصلات، فإن الشخص الذي يستخدم عدة وسائل مواصلات يدفع أجراً منفصلاً في كل مرة. وهذا يشكل عبئاً مالياً، وغالباً ما يؤدي إلى دفع الركاب إلى اختيار خطوط مواصلات أطول بدلاً من التوجه في رحلة أقصر تتعدد فيها وسائل المواصلات. وكي تكون أنظمة المواصلات متكاملة بالفعل، يجب أن تتيح للناس اختيار وسيلة المواصلات الأفضل لهم للوصول إلى المكان المقصود دون القلق من دفع عدة أجور منفصلة.[1] ومن منظور اقتصادي، يؤثر نقص التكامل أيضاً على إيرادات الأجور وعلى تكاليف التشغيل، مما يؤثر بدوره على الجدوى المالية لمشاريع المواصلات العامة. وفي القاهرة، كثُر الحديث عن توحيد الأجور – التنسيق المشترك لإجور وسائل المواصلات المختلفة – كإجراء إصلاحي، ولكنه لم يُنفذ لغاية الآن. ووفقاً للباحث المتخصص بالاقتصاد الحضري، ديفيد سيمز (Sims 2010)، يمكن عزو نقص التنسيق إلى أن “معظم الهيئات الحكومية المصرية تتصرف حالياً تصرفات الأطفال، حيث يسعى كل منها للمحافظة على مجال سيطرته، والمحافظة مجال نفوذه”.
تعوِّض وسائل المواصلات غير الرسمية عن جوانب النقص في أنظمة المواصلات العامة وغياب تكاملها، وقد بدأت في الظهور في أواسط عقد السبعينات. ففي عام 1977 صدر قانون أتاح تشغيل ميكروباص بسعة 11 مقعداً على عدد من الخطوط الثابتة. وبعد عشر سنوات من ذلك، تم السماح بتشغيل باصات خاصة بسعة 14 مقعداً و 18 مقعداً، وذلك على عدد من الخطوط المرخصة وصل عددها إلى 133 خطاً. وبحلول عام 1998، كان يوجد 27,300 باص صغير تخدم أكثر من 650 خطاً، وفقاً لتقارير من مديريات المرور في القاهرة والجيزة (Sims 2010). وفي السنوات الأخيرة، ظهرت أنواع أخرى من المواصلات غير الرسمية، من قبيل التكتك، وقد نجحت باجتذاب الركاب، وازدادت نسبة الركاب الذين يستخدمون الميكروباص من 15% إلى 25% بين عامي 1996 و 2001، في حين تراجعت نسبة الذين يستخدمون الباصات الرسمية من 31% إلى 21% خلال الفترة نفسها (GOPP 2012).
غالباً ما تتوجه وسائل المواصلات غير الرسمية إلى المواقع التي يوجد فيها عدد كبير محتمل من الركاب، من قبيل محطات المترو، وتقاطعات الشوارع الرئيسية، والمناطق التجارية. كما تعمل كروافد للعديد من محطات المترو والباصات، إذ تجمع الركاب من مواقع مختلفة وتوصلهم إلى نقطة المواصلات الرئيسية حيث يتابعون رحلاتهم. وتزيد الميكروباصات إمكانية الناس في الوصول إلى المدينة، إذ تمتد شبكاتها إلى أماكن تتجاوز شبكة الباصات العامة وتصل إلى المستوطنات غير الرسمية والتي لا تخدمها خطوط المواصلات العامة (أتوبيس، مترو، ترام).
ويجري تحديد خطوط الميكروباص وأجورها من قبل مديريات المرور في المحافظات ومديريات شرطة المرور المعنية (World Bank 2000). مع ذلك، ثمة تراخي كبير في رصد عملها مما يترك مجالاً كبيراً للسائقين لتغيير الأجر وخط المرور، وتتراوح الأجور ضمن نطاق معين تبعاً للمسافة المقطوعة وإرادة السائق (Sims 2010). وهذا يترك الركاب تحت رحمة السائقين. فعلى سبيل المثال، بعد ارتفاع أسعار مشتقات النفط في عام 2014، زاد سائقو المكروباص أجرة الركوب بمقدار 50-100%، في حين ظلت أجور الأتوبيس العمومي على حالها. كما أن نقص الرصد والمراقبة من قبل الدولة يشجع السائقين على الانخراط في سلوكيات خطرة من قبل زيادة السرعة، والقيادة المتهورة، مما يعرض سلامة الركاب للخطر. ورغم أن الميكروباصات مرخصة، إلا أنها تظل تُعتبر غير رسمية من قبل القائمين على التخطيط، إذ أنها غير مشمولة في الخطة المتكاملة للمواصلات.[2] وثمة وسائل مواصلات أخرى غير رسمية من قبيل التكتك وهي غير منظمة أبداً من قبل السلطات، وغالباً ما تُستخدم في رحلات قصيرة ضمن الأحياء، خصوصاً الأحياء الشعبية وغير الرسمية، وكذلك في المدن الجديدة. مع ذلك، حظرت بعض الإدارات المحلية في الأحياء ذات الدخل المرتفع، من قبيل المعادي، استخدام هذه الوسائل.
الربط المفقود بين المواصلات والتخطيط العمراني
إن التنقل الحضري هو نتيجة للشكل الذي تأخذه المدينة وفي الوقت نفسه عامل يؤثر على تشكيل المدينة. وفي حالة التنظيم المتقارب للعناصر العمرانية الحضرية التي تتضمن مزيجاً من الأنشطة تقع على مسافة قريبة، تصبح إمكانية الوصول للمرافق أسهل، كما أن الكثافة السكانية العالية هي أمر ضروري لتوفير مواصلات حضرية فعالة من حيث الكلفة. وبالمثل، يؤثر استحداث شبكات المواصلات الحضرية على الهيكل العمراني والكثافة السكانية. فعلى سبيل المثال، ساعد إتمام أول خطر مترو (حلوان (جنوب القاهرة) – المرج (شمال شرق القاهرة)) على تكثيف العمران على امتداد الخط (Metge 2000). ومن ناحية أخرى، يؤدي التمدد العمراني إلى زيادة طول وقت الرحلة في المواصلات ويزيد الاعتماد على السيارات الخاصة، في حين يؤدي انخفاض الكثافة السكانية إلى تقليص الجدوى الاقتصادية لمشاريع المواصلات العامة.
لقد تم إدراك هذه العلاقة الوثيقة سابقاً في مصر. وكان أحد الأمثلة الناجحة على إدماج تخطيط المدن مع تخطيط المواصلات هو إقامة بلدة هليوبوليس، وكانت تلك الحالة هي عملية تخطيط كبيرة االحجم جرت في منطقة شبه صحراوية تبعد مسافة 10 كيلومترات عن المنطقة التجارية المركزية، وقد أعد التخطيط البارون إمباين في عام 1906 (Metge 2000). وكان إدماج شبكة الترام جانباً مركزياً في تطوير هليوبوليس. ولم تكن إقامة رابطة نقل سهلة إلى المنطقة التجارية المركزية أمراً طارئاً تقرر لاحقاً، وإنما تم نقاش هذا الموضوع في المراحل المبكرة للتصميم. وبالمثل، كان تطوير حي شبرا وحي روض الفرج في شمال المنطقة التجارية المركزية مرتبطاً بقوة بافتتاح خطوط ترام جديدة في عامي 1902 و1905.
أما في الوقت الحالي، ورغم تعدد الجهات الفاعلة المنهمكة في التخطيط وصنع القرارات بخصوص مشاريع المواصلات، لا يتم دمج التخطيط الطويل الأجل للمواصلات مع التخطيط العمراني الاستراتيجي (World Bank 2000). إذ أن عدم وجود هيئة مركزية لتخطيط المواصلات تناظر الهيئة العامة للتخطيط العمراني المسؤولة عن استخدام الأراضي الواسعة وخطط التطوير العمراني، يجعل التنسيق الطويل الأجل بين خطط تطوير المواصلات وخطط التطوير العمراني غائباً تماماً، أو ظرفياً (المرجع السابق). وربما كان التجلي الأوضح للدمج غير الناجح بين هذين الميدانين هو تخطيط العديد من المدن الجديدة حول القاهرة الكبرى. لقد بدأ إنشاء هذه المدن بعد المخطط العام الذي أعد في عام 1970 بهدف احتواء التمدد العمراني، وذلك من خلال إقامة طريق دائري حول القاهرة وإقامة مدن تابعة جديدة لاستيعاب التوسع العمراني، وبالتالي عدم تركيز الصناعات والمساكن والمرافق الاجتماعية في محيط المدينة. إلا أن تطوير المدن الجديدة لم يحقق مجموعة الأهداف المحددة، لا من حيث عدد السكان الجدد ولا من حيث القدرة على اجتذاب الشرائح السكانية من الطبقتين الوسطى والفقيرة. ومن بين السلبيات المهمة لإقامة هذه المدن هو نقص المواصلات العامة ضمنها أو تلك التي تربطها بالقاهرة. ويتذمر سكانها من أن الأتوبيسات الرسمية محدودة العدد وغالباً ما تتأخر عن مواعيدها، كما أنها بطيئة. ومن ناحية أخرى، تشكل الميكروباصات غير الرسمية عبئاً مالياً على الركاب إذ تتفاوت أجرة الركوب بحسب الجهة التي تشغل الميكروباص، وغالباً ما يُنظر إليها على أنها خطيرة بسبب ممارسات السائقين في القيادة المتهورة. أما الإعلانات عن الخطط بربط المدن الجديدة من قبيل مدينة الشيخ زايد ومدينة السادس من أكتوبر (غرب القاهرة الكبرى) بوسط البلد في القاهرة عبر خط حديدي كهربائي و/أو خط مترو، فلم تتبلور على أرض الواقع. ونتيجة لذلك، باتت السيارات الخاصة شرطاً أساسياً لسهولة التنقل بين المدن الجديدة وبين القاهرة، مما يجعلها خياراً ملائماً ومريحاً لمعظم السكان الأغنياء الذين يملكون سيارات خاصة. وإضافة إلى صعوبة الوصول إلى المدن الجديدة من قبل السكان الذين لا يملكون سيارات خاصة، تشكل هذه المدن عبئاًعلى شبكة المواصلات القائمة في القاهرة. ورغم نجاح بعض المدن الجديدة في إقامة قاعدة اقتصادية، إلا أنها لم تستقل عن القاهرة. وهذا ينعكس في حقيقة أن جزءاً كبيراً من سكان المدن الجديدة يعملون في القاهرة، ويُقدر عدد رحلات الناس من مدينتي السادس من أكتوبر والشيخ زايد بحوالي 238,000 رحلة يومياً، مما يضيف إلى ازدحام القاهرة والتلوث البيئي فيها (GOPP 2012).
نقص التخطيط الاستراتيجي
تبدو خطط ومشاريع المواصلات الحالية وكأنها ظرفية ولم تجرِ بناء على تفكير معمق، ودون أي دراسات جدية للتقييم وتحديد الجدوى (Sims 2010). ويمكن عزو نقص التخطيط الاستراتيجي الطويل الأجل إلى عدد من العوامل. فأثناء مقابلة مع الدكتور أحمد موسى، وهو خبير في تخطيط المواصلات، أوضح أن تخطيط المواصلات في القاهرة يستند إلى دراسة جرت في عامي 1991 و2001 حول خطوط المترو أجرتها مجموعة سيسترا الهندسية الفرنسية، إضافة إلى دراسة المواصلات في القاهرة الكبرى التي أجرتها الوكالة اليابانية للتعاون الدولي.[3] ومع ذلك فإن تنفيذ المشاريع التي تتضمنها الخطة هو أمر شبه مستحيل نظراً لعدم وجود هيئة مركزية يمكنها التخطيط ووضع أولويات المشاريع ومن ثم إحالتها إلى وكالة أخرى لتنفيذها. ومع وجود كلا من وزارة النقل والمواصلات ومحافظة القاهرة كجهتين مسؤولتين عن التخطيط ومزودتين للخدمات، أصبحت أدوار التخطيط والتنفيذ مشوشة وبات التخطيط الاستراتيجي المتكامل والطويل الأجل أمراً صعباً.
أما القضية الثانية فتتعلق بالتمويل، إذ يعتمد مشغلو وسائل المواصلات الرسمية على موازنة الدولة. وعادة ما يتنافسون مع الوزارات والدوائر الأخرى للحصول على الأموال المحدودة التي تخصصها الدولة، مما يجعل التمويل محدوداً. ونتيجة لذلك، تزداد صعوبة التخطيط الاستراتيجي الطويل الأجل، ويركز مشغلو خطوط المواصلات على العمليات اليومية بدلاً من الخطط الطويلة الأجل.
وختاماً، أكد تقرير صادر عن البنك الدولي (2000) أنه لا يوجد سوى قدرة محدودة لدى الهيكل الإداري الحالي للتخطيط الاستراتيجي الطويل الأجل للمواصلات. وتحديداً، زعم التقرير بأن ثمة عدد كبير من شرطة المرور إلا أنهم غير مدربين، في حين يعاني مكتب تنظيم المرور من قلة الموظفين. وكشفت الحوارات مع الأوساط الأكاديمية أن عدم كفاية الموظفين هو مشكلة تتعلق بالميزانية والالتزام، وليست مشكلة هيكلية أو مؤسسية، إذ ينتج نظام التعليم المصري العديد من مهندسي المواصلات المؤهلين، وتظل مؤهلاتهم دون استغلال (المرجع السابق).
ظلت المنظمات الدولية المانحة تدعو منذ مدة طويلة إلى إجراء إصلاحات مؤسسية وإقامة وكالة تنسيق. وظهرت هذه الدعوى للمرة الأولى في عام 1987، ثم تجددت في العقدين اللاحقين عبر مجموعة من الدراسات (DRTPC 2009). ومع ذلك، ظلت الجهود لإقامة وكالة إشراف تنسيقية دون طائل، فكما أوضحنا أعلاه، من الصعب جمع الوكالات المتعددة التي ينبغي تنسيقها والتي تخضع لسيطرة سلطات متعددة وجعلها تخضع لهيئة إشرافية واحدة (المرجع السابق).
ويمثل تأسيس جهاز تنظيم النقل بالقاهرة الكبرى مثالاً جيداً بخصوص المسألة أعلاه. فقد تأسس الجهاز بموجب مرسوم رئاسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 نتيجة لتوصية من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي. فقد تم تكليف جهاز تنظيم النقل بالإشراف على قضايا المواصلات في إقليم القاهرة الكبرى، وضمان التنسيق الفعال والكفاءة في تخطيط وتنفيذ الاستثمارات في القطاع. ورغم أن الجهاز تأسس قبل أكثر من أربع سنوات، إلا أنه لم يقم لغاية الآن سوى بعقد اجتماعات للجهات صاحبة المصلحة وإجراء بعض التحليلات. وعلى الأرجح أن السبب في هذا الوضع هو أن جزءاً من ولاية الجهاز تتداخل مع أنشطة هيئات أخرى قائمة. وقد أعلن وزير النقل والمواصلات، الدكتور جلال سعيد، أن الوزارة أدركت هذه المشكلة وأنه سيتم تفعيل جهاز تنظيم النقل قريباً عبر مرسوم رئاسي جديد كي يتمكن الجهاز من النهوض بمسؤولياته. وكما أكد خبراء المواصلات في عدد من المؤتمرات المتخصصة التي عقدت في هذه السنة، من قبيل مؤتمر المستقبل العمراني لمصر، أو مؤتمر المواصلات المستدامة في مصر، يمثل موقع جهاز تنظيم النقل بالقاهرة الكبرى في الهيكل الإداري الحكومي كهيئة تابعة لوزارة النقل والمواصلات عقبة أمام نهوضه بدوره بفاعلية، إذ أن عمل الجهاز سيحتم عليه النهوض بمسؤوليات تابعة حالياً لوزارة النقل والمواصلات أو لهيئات أخرى من مستواها . ومن المحتم أن ذلك سيدفع تلك الهيئات إلى مقاومة التخلي عن مسؤولياتها لمصلحة الجهاز الجديد. وبالتالي، يعتقد البعض أنه من الضروري أن يرتبط الجهاز بهيئة أعلى من الوزارة في تراتبية الهيكل الحكومي، من قبيل رئاسة الوزراء أو الرئاسة.
من غير الواقعي أن نتوقع بأنه يمكننا إعمال الحق بالتنقل الحضري الكافي في إقليم القاهرة الكبرى دون زيادة كبيرة في الاستثمار في هذا القطاع. مع ذلك، من الضروري أيضاً أن نتعامل مع مشاكل المواصلات على أنها أكثر من مجرد مشكلة تقنية تتطلب حلولاً تقنية كثيفة الاعتماد على الاستثمار، وأن ننظر إلى مشاكل المواصلات على أنها تحديات سياسية أيضاً. تتصل مشاكل التنقل التي تواجهها القاهرة الكبرى – ومعظم المدن المصرية – اتصالاً كبيراً بكيفية وضع الأولويات، واتخاذ القرارات، وتنفيذ الخطط. فالحلول المتعلقة بالمواصلات هي حلول مجتزأة وظرفية في الوقت الحالي. وليس ثمة معايير واضحة لوضع الأولويات أو تخصيص الأموال. ورغم الاعتماد الكبير على المواصلات العامة والسير على الأقدام كأسلوب رئيسي للتنقل في المدينة، تظل الاستثمارات تتركز على السيارات الخاصة. وقد تم تخصيص 18% فقط من إنفاق الموازنة العامة للمواصلات في عامي 2015/2016 لوسائل المواصلات العامة (المترو والأتوبيس والترام)، في حين تم تخصيص 24% للطرق المحلية والجسور. فهل هذه هي أفضل الحلول لتعزيز الحق بالتنقل الحضري الكافي وإقامة مدينة تتسم بسهولة الوصول إلى مرافقها للجميع بصرف النظر عن القدرة البدنية أو المالية أو العمل أو النوع الاجتماعي لأي من المواطنين؟ وبالمثل، يُنفق 91.8% من الميزانية العامة للمواصلات على تحديث المترو و8.2% فقط للأتوبيس العام. ويظل من غير الواضح لماذا تُتخذ هذه القرارات الاستثمارية وكيف تُتخذ.
ولا يشكل هذا الأمر مفاجأة نظراً لنقص التمثيل الديمقراطي الحقيقي والدرجة العالية من المركزية، مما لا يتيح مجالاً كبيراً للمخططين والأكاديميين والمعماريين لتحديد نتائج عمليات التخطيط مع السلطات. وعادة ما تُتخذ القرارات المركزية دون اعتبار كبير للمعايير المجتمعية والاقتصادية والبيئية، وبمدخلات قليلة من الجهات صاحبة المصحلة، واهتمام غير كافٍ للحلول البديلة (World Bank 2000). وفي الواقع، غالباً ما تظل مشاريع إعادة التطوير والمواصلات أمراً “سرياً”، ولا يعرف بأمرها أحد حتى تبدأ أعمال الإنشاء (Sims 2010). لذا، من الضروري تأسيس عمليات شفافة لصناعة القرارات تتضمن معايير واضحة، من قبيل الفاعلية من حيث الكلفة، والعوائد الاقتصادية والاجتماعية، والتأثيرات البيئية، لتحديد أولويات الاستثمار (World Bank 2006). ومن المهم بالقدر نفسه أيضاً تشجيع مشاركة جميع الجهات صاحبة المصلحة في عملية اتخاذ القرارات لضمان تخطيط تكاملي فعلاً.
[1] لمزيد من المعلومات حول تكامل خدمات المواصلات، انظر: التقرير السنوي الثامن عشر لمجلس الوزراء وقراراته، 1971.
[2] مقابلة أجريت مع الدكتور أحمد موسى في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
[3] مقابلة أجريت مع الدكتور أحمد موسى في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
Cascetta, Ennio, Francesca Pagliara, and Andrea Papola. 2007. “Governance Of Urban Mobility: Complex Systems And Integrated Policies.” Advances In Complex Systems, 10 (2), 339-354.
Cook, David B. 1985. “Transport Problems in Cairo”. In The Expanding Metropolis: Coping with the Urban Growth of Cairo, edited by Ahmet Evin. Singapore: Concept Media/Aga Khan Award for Architecture.
General Organization of Physical Planning (GOPP). 2012. “Greater Cairo Urban Planning Strategy.”
Metge, Hubert. 2000. World Bank urban transport strategy review: The case of Cairo, Egypt. Washington DC: World Bank Group. http://documents.worldbank.org/curated/en/937421468262537412/World-Bank-urban-transport-strategy-review-the-case-of-Cairo-Egypt-executive-summary
Sims, David. 2010. Understanding Cairo: The Logic of a City Out of Control. Cairo: The American University in Cairo Press.
Development Research and Technological Planning Centre (DRTPC). 2009. “Research Study on Urban Mobility in Greater Cairo: Trends and Perspectives.” https://planbleu.org/sites/default/files/publications/greater_cairo_final_report_0.pdf
World Bank. 2000. “Cairo Urban Transport Note.”
World Bank. 2006. “Greater Cairo: a Proposed Urban Transport Strategy.” http://documents.worldbank.org/curated/en/892401468258874851/Egypt-Greater-Cairo-a-proposed-urban-transport-strategy
الصورة ملتقطة من قبل بروك رينولدز
تحرير الصور: تضامن – مبادرة التضامن العمراني في القاهرة
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments