كان نموذج تخطيط النقل القديم يُركز على تحقيق الحد الأقصى من المسافات التي يقطعها السكان آخذين في الإعتبار قيود الوقت والمال. وبالتالي كان الهدف هو زيادة سعة تدفق الحركة المرورية. وكان تقييم كفاءة النظام يتم على أساس السرعة والقدرة على تحمل التكاليف ومدى الملائمة لوسائل النقل الآلية. وكان يُنظر إلى مشاكل التنقل بشكل منعزل بواسطة هيئات مختلفة تعمل بصورة منفصلة مما أدى إلى حلول مفككة حيث كان حل مشكلة واحدة في كثير من الأحيان يؤدي إلى تفاقم مشكلة أخرى. مثال على ذلك هو عندما تقوم هيئة النقل بتوسيع الطرق، فإن هذا يحفّز على التنقل بالمركبات مما يؤدي إلى تفاقم استهلاك الوقود والعواقب البيئية المرتبطة به.
إن تخطيط النقل يشهد حالياً نقلة نوعية. النموذج الجديد لتخطيط النقل يدرك أن التنقل ليس هدفاً في حد ذاته. فقد أعلن موئل الأمم المتحدة أن الهدف الأسمى “هو الإتاحة الكاملة لوسائل نقل آمنة ونظيفة وبأسعار في متناول الجميع، وهذا بدوره يمكن أن يوفر سبل الوصول إلى الفرص والخدمات والسلع والمرافق.” وبالتالي يمكن تقييم وتحديد التنقل الحضري المستدام من خلال سهولة الوصول إلى المدينة بالنسبة لسكانها دون تمييز على أساس العمر والجنس والقدرة البدنية أو المستويات الاقتصادية.
هذا النموذج الجديد يرُكز أكثر على تخطيط النقل للناس، وأهدافه الأساسية هي الارتقاء بسبل الإتاحة ونوعية الحياة، وتعزيز الاستدامة البيئية والمالية، بالأضافة إلى العدالة الاجتماعية. وهى تشجع المخططين أن يتغلبوا على القيود السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمادية للتحرك.
في سبيل التوجه نحو مفهوم سهولة الوصول فضلاً عن الترحل المادي لتعريف وقياس التنقل، ينبغي علينا أن ندرك الدور المحوري لنظم النقل المتطورة في تحقيق الأهداف الإنمائية. وقد تم الإقرار بذلك في أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة في المقصد 11-2 والذي يسعى إلى “إتاحة إمكانية الوصول إلى نظم نقل مستدامة وآمنه وبأسعار معقولة والتى يمكن للجميع الوصول اليها، وتحسين السلامة على الطرق، لا سيما من خلال التوسع في النقل العام، مع إعطاء اهتمام خاص للفئات الأكثر احتياجاً: النساء والاطفال والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن” بحلول عام 2030.
هذا المقصد لا يساهم فقط في الهدف 11 من أهداف التنمية المستدامة “جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة وآمنة ومرنة ومستدامة”، ولكنه وثيق الصلة بمعظم الأهداف. على سبيل المثال، هدف 3 يهتم بضمان حياة صحية، والعمل على تحقيق الرفاه للجميع في كل الأعمار. وقد أوضحت مؤشرات التنمية في أوغندا أن تخفيض معدل وفيات الأمهات وصل إلى 80٪ بفضل استراتيجيات النقل والإحالة الطبية بجانب بعض التدخلات. ويمكن للمخططين، أيضًا، المساهمة في تحقيق الهدف 5 المعني بتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين النساء والفتيات. وذلك من خلال ضمان مستوى معين مقبول لمختلف وسائل النقل، على سبيل المثال، تأمين سلامة النساء والفتيات بداخلها، فيما عدا ذلك سوف يصعب عليهن استخدام وسائل النقل.
ويَعتبر مجلس البلديات والمناطق الأوروبية التنقل الحضري المستدام حق من حقوق الإنسان، معلناً أن “الحق في التنقل هو حق عالمي لجميع البشر، وهو ضروري للتحقيق العملي والفعال لمعظم حقوق الإنسان الأساسية الأخرى.” من خلال الإرتقاء بوضعية التنقل في المناطق الحضرية إلى حق من حقوق الإنسان، فإن المجلس يضع التنقل الحضري في مكانة أكثر من كونه مجرد وظيفة ومحفز اقتصادي ويضعه على نفس مستوى القضايا الأخرى المحورية للوفاء بحقوق الإنسان.
لقد أقر الدستور المصري حرية التحرك كحق في المادة 42، وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يناقش التنقل في المناطق الحضرية ولا وسائل النقل العام. وبغض النظر عن تداخل شتى أشكال وسائل النقل العام الرسمي وغير الرسمي في القاهرة الكبرى، فإن أنظمة النقل الخاصة والعامة تُبدي أوجه قصور كبيرة تنعكس في خدمات غير ملائمة مع تدهور نوعيتها خاصة بالنسبة للفقراء في المناطق الحضرية، الذين غالباً ما يضطرون إلى الاعتماد على سبل نقل منخفضة الجودة وغير آمنة. واحدة من القضايا الرئيسية التي تواجه منطقة القاهرة الكبرى هو الارتفاع الكبير في معدل حوادث الطرق الذي يفوق معدلات المدن الكبرى المماثلة. وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، كانت هناك 15،516 حادثة مرورية في مصر في عام 2012 فقط، ونتج عنها 21،620 حالة إصابة و6،431 حالة وفاة من جراء حوادث المرور (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 2012). وهذا يُترجم إلى معدل قومي يبلغ حوالي 1.8 حادثة / ساعة، و1.5 إصابة ووفاة / ساعة في القاهرة فقط. هذه الأرقام في ازدياد مستمر إذ كانت هناك 9،086 حالة وفاة في عام 2013 بسبب حوادث المرور، وتشير التوقعات إلى أنه من المتوقع أن تصل إلى 20،000 حالة عام 2020 (منظمة الصحة العالمية، 2009). ويُقدر الخبراء أن تكلفة حياة المواطن المصري المتوسط بالنسبة للمجتمع والاقتصاد تتراوح بين مليون و3 ملايين جنيه (منظمة الصحة العالمية، 2009). وبدمج كلاهما، فإن التقدير المتحفظ يكون أكثر من 6 مليارات جنيه خسائر بسبب وفيات حوادث المرور سنويًا. وبالنظر إلى المشاة على وجه التحديد فإن النسبة المئوية للمشاة وراكبي الدراجات في الإصابات والوفيات الناجمة عن الحوادث المرورية تتراوح بين 20٪ إلى 75٪ من إصابات حوادث الطرق في مصر (إبراهيم وآخرون، 2012).
كما هو موضح في تقرير صادر عن البنك الدولي (2006) فإن من أبرز القضايا الأخرى الهامة التي تواجه العاصمة هى الازدحام المروري المزمن، والتي غالباً ما يتصدى لها المخططون عن طريق إنشاء المزيد من الطرق. وهذا، كما تمت مناقشته من قبل، يزيد من تفاقم المشكلة. إن الازدحام المروري في القاهرة الكبرى، أكثر من كونه مجرد مصدر ازعاج، له تكاليف اقتصادية وبيئية عالية بسبب إهدار الوقت والوقود فضلاً عن زيادة الانبعاثات. وفي إحصائية كثيراً ما يُستشهد بها، أن 47 مليار جنيه أو 3.6٪ من إجمالي الناتج القومي لمصر يُفقد بسبب الازدحام المروري، 19٪ منها يُمثل الآثار الصحية المرتبطة بتلوث الهواء الناتج عن وسائل النقل (البنك الدولي، 2014). ويعد تلوث الهواء في القاهرة الكبرى مصدر قلق بالغ على البيئة والصحة العامة، والذي يسببه إلى حد بعيد المصادر المتحركة لتلوث الهواء والتي تشمل المركبات والمعدات الزراعية والمستخدمة في الإنشاءات. وعلى الرغم من الجهود الناجحة للحكومة لخفض تلوث الهواء، في عام 2009 كان مستوي تركيز الملوث PM10 – الذي يسهم في خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي – في القاهرة الكبرى ضعف المواصفات القياسية المصرية وحوالي سبع مرات أكثر من معايير منظمة الصحة العالمية. وقد وُجد أيضاً أن ملوثات أخرى مثل أكاسيد النيتروجين فوق مستويات منظمة الصحة العالمية.
وعلى مستوى الإدارة، فإن مسؤولية قطاع النقل مجزأة بين سلطات عديدة وهي غير منسقة إلى حدٍ كبير وغالبًا غير مؤهلة بصورة كافية للتعامل مع قضايا التنقل المُعقدة في المناطق الحضرية في القاهرة. هذه المشاكل تتعاظم من جراء عدم كفاية الموارد المالية وذلك غالبًا ما يؤدي إلى استثمارات غير كافية في نظام النقل العام تحديدًا. وهذا يترجم على المستوى القومي إلى نظم نقل عام شبه معدومة خصوصًا في المناطق الريفية والمدن الصغيرة، حيث توجد هيئتان للنقل العام فقط في كل أنحاء الجمهورية وهما تعملان في الإسكندرية والقاهرة.
من المهم تحديد العوامل التي تُسهم في التنقل الملائم في المناطق الحضرية من أجل التغلب على العوائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمادية للتحرك في القاهرة الكبرى وترسيخها كحق لسكان المدينة. بناءً على تعريفات التنقل الحضري المستدام التي طرحتها الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية وأهداف التنمية المستدامة فقد قمنا بوضع المعايير الآتية للتنقل الملائم في المناطق الحضرية: أن يكون في متناول الجميع، ومتوافر (يبيّن المسارات الممكنة وزمن التواتر)، إمكانية الوصول إليه (يشمل سهولة استخدام وسائل النقل العام بواسطة المستخدمين بغض النظرعن عمرهم ونوع الجنس وقدراتهم البدنية، بالإضافة إلى توافر معلومات عن الرحلات)، ومدى قبوله (التي تتعلق بمعايير النقل أو بالراكب حيث، على سبيل المثال، قد يُحجم بعض الأشخاص عن استخدام وسيلة نقل معينة لعدم توافر الأمن الشخصي أو لغير ذلك من الأسباب)، والسلامة (المعنية بالحد من الإصابات والوفيات على الطرق وتحسين الطرق وسلامة المشاة)، والاستدامة البيئية (تتعلق بالتكاليف والآثار البيئية المرتبطة بالنقل الحضري).
إن استخدام تلك المعايير لإعادة تعريف تحديات التنقل تحث على شكلٍ من أشكال التخطيط يكون أكثر تكاملاً وشموليًا حيث تُؤخذ في الاعتبار مجموعة متنوعة من الآثار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. بالإضافة، فإن إعادة التعريف هذه توسع مدى استيعابنا لوسائل النقل من مجرد كونها مركبات آلية إلى وسائل أكثر حيوية مثل المشي وركوب الدراجات.
هذه السلسلة من المقالات تهدف إلى دراسة أبعاد التنقل الملائم والمستدام في المناطق الحضرية المختلفة بشكل دقيق للوصول إلى فهم أفضل لمشهد التنقل في المناطق الحضرية، وللإسهام في النقاش حول “الحق في التنقل الملائم” في القاهرة الكبرى. وبالتالي نحن نهدف إلى:
• دراسة الجهات المختلفة في قطاع النقل وكذلك دراسة الإطار المؤسسي الذي يعملون من خلاله، وذلك نظرًا لأهمية وجود مؤسسات تعمل بصورة جيدة من أجل إنشاء وصيانة أنظمة تنقل ذات جودة عالية في المناطق الحضرية.
• تحليل كيفية اتخاذ القرارات الاستثمارية لقطاع النقل، وتعقب تدفق الأموال وتقييم تخصيص الموارد في قطاع النقل بشكل نقدي.
• دراسة الروابط الوثيقة بين تخطيط النقل والتخطيط الحضري.
• استخلاص الدروس المستفادة من المدن المماثلة في جميع أنحاء العالم، وإعادة تصور الحلول لقطاع التنقل الحضري في القاهرة الكبرى.
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. (2012)
CAPMAS, 2012. “Early Report on Vehicle and Train Accidents – Year 2012.” Central Agency for Planning and Mobilization And Statistics. June 2013 Publication.
جيهان ابراهيم، هانا داي، جون مارك هيرشون، ماجد السطوحي. (2012)
Ibrahim, J., Day, H.m Hirshom, J., and El-Setouhy, M., 2012. “Road Risk-perception and Pedestrian Injuries Among Students at Ain Shams University, Cairo, Egypt.” Injury & Violence Journal. Vol 4(2). pp. 65-72
منظمة الصحة العالمية. (2009)
WHO, 2009. “Eastern Mediterranean Status Report on Road Safety – Call for action.” WHO Regional Office for the Eastern Mediterranean.
البنك الدولي. (2006)
World Bank. (2006). Greater Cairo: a Proposed Urban Transport Strategy.
البنك الدولي. (2014)
World Bank. (2014). The Cairo Congestion Study Executive Note.
مصدر الصورة المختارة: Els (2009), Creative Commons
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments