كلنا نتعامل مع مفهوم الملكية يومياً، فنحن نتحدث عن “هاتفي” أو “شقتي” ولدينا مفهوم واضح بأن الشيء المعني هو “لي” ولا حق لأي أحد آخر في التصرف فيه دون “إذني”. وغالباً ما تكون هذه التعاملات اليومية بشأن الملكية واضحة نسبياً ولا يطعن فيها أحد: فبوسعك أن تفعل ما تشاء بملكيتك ويحق لك التمتع بأي فوائد تنجم عن ملكية الشيء المعني. ومع ذلك، فقد تكون الحقوق المرتبطة بما هو “ملكيتك” معقدة، خصوصاً عندما يأتي الأمر إلى الأرض أو المباني أو الموارد العامة والتي ترتبط بقضايا من قبيل استخدام الأرض، وقوانين البناء، والمصلحة العامة، والتي تُضفي غموضاً على فكرة الملكية. فمثلاً، ماذا يجري عندما تنوي بناء شرفة مطلة على الشارع في “شقتك”؟ فإذا كانت الشقة “لك” تماماً، ينبغي أن تتمكن من القيام بما يحلو لك. ولكن عندما تحظر أنظمة التخطيط إنشاء الشرفة بسبب تعديها على الحق العام في الطريق أو إذا اشتكى جارك لأن الشرفة تأثر على خصوصيته، فعندها نبدأ بتقدير القيود على الحق بالملكية، وكيف أن استخدام شخص ما لملكيته قد يشكل انتهاكاً لحق شخص آخر بملكيته.
ونظراً لتعقيد مفهوم الملكية، لا يوجد تعريف شامل للحق بالملكية. ويتعين على الحكومات والمجتمعات المحلية أن تحدد تعريفها لهذا الحق، ونتيجة لذلك، فإن التعريف يتغير باستمرار. وثمة تغييرات في الثقافة والقيم والأيدولوجيا وهي تؤثر على الحق بالملكية. ويتنوع التعريف من مكان إلى آخر ومن جيل إلى آخر. فالحق في الملكية في نيوزيلندا التي تحظى فيها الملكية الخاصة بحماية قوية، يختلف كثيراً عن الحق في الملكية في كوريا الشمالية، حيث تعود جميع الممتلكات تقريباً للدولة. وتختلف حقوق الملكية في ظل النظام الاشتراكي اختلافاً كبيراً عنه في ظل الأنظمة الليبرالية الديمقراطية. وحتى ضمن القاهرة، قد تكون حقوق الملكية للأفراد الذين يعيشون في المستوطنات السكنية غير الرسمية (العشوائيات) محل خلاف أكثر منها في حالة الشقق المملوكة في حي المهندسين أو هليوبوليس.
وفي الخطاب المتعلق بحقوق الإنسان الدولية، يأتي ذكر الحق في الملكية في المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي ينص على أن “لكل فرد حق في التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره. ولا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً”. مع ذلك، هذه هي الوثيقة العالمية الوحيدة التي تذكر الحق في الملكية. ولا تذكر أي من المواثيق والإعلانات الدولية الأخرى هذا الحق بسبب الخلاف المحيط به. ويزعم بعض الباحثين أنه لا يمكن اعتبار الحق في الملكية حقاً إنسانياً عندما يكون بوسع الحكومات حرمان المواطنين من هذا الحق بصفة شرعية. ويقول باحثون آخرون أن الحق في الملكية هو حق حاسم الأهمية للتطور الحر والكامل لكل فرد.
تضمن معظم الدساتير الوطنية الحق في الملكية بشكل أو بآخر، إلا أنها تحتفظ للدولة بالحق في وضع قيود على الحق بالملكية أو تجريد الأفراد من ملكيتهم طالما أن هذا التجريد لا يجري “اعتباطياً” وأنه يجري لخدمة “حاجة عامة” أو “لمنفعة عامة أو مصلحة اجتماعية”. ويصبح الأمر، كيف يمكن للمرء تعريف وحماية وتعزيز المفهوم الجماعي للملكية والمصلحة العامة، من قبيل إنشاء نظام مواصلات جماهيري حضري، أو بناء حدائق أو مراكز شباب، أو حماية البيئة (بما في ذلك المجاري المائية في المناطق الحضرية)، والصحة العامة عندما تكون الأراضي قليلة والملكية الخاصة راسخة.
شهدت مصر خلافات بشأن الحق في الملكية. فأثناء الحكم الاستعماري، سيطرت العائلة الحاكمة على البلد من خلال احتكار مساحات زراعية واسعة، وقد حافظ الاستعمار البريطاني على هذه السيطرة. وبعد الاستقلال في عام 1952، نفذ مجلس قيادة الثورة بقيادة الرئيس محمد نجيب والرئيس جمال عبد الناصر، إصلاحات في ملكية الأراضي إذ وزعا الأراضي على الفلاحين، مما قيد الحق في الملكية الخاصة. وكجزء من البرنامج السياسي الاشتراكي والسياسة الخارجية، أمم عبد الناصر ممتلكات أجنبية كبيرة من قبيل شركة قناة السويس والأراضي والمشاريع التجارية المملوكة من قبل الأقليات.
وقد تغيّر اتجاه البندول نحو الملكية الخاصة مرة أخرى في عقد السبعينات أثناء سياسة الانفتاح التي انتهجها الرئيس السادات، والتي شجعت الاستثمار وخففت القيود التي فرضتها قوانين الإصلاح الزراعي التي أقرت أثناء حكم عبد الناصر. وفي عقدي الثمانينات والتسعينات، وتحت ضغط من المجتمع الدولي لخصخصة الاقتصاد المصري، عمل الرئيس حسني مبارك على خصخصة القطاع العام، مما أدى غالباً إلى إثراء المحاسيب والمؤيدين السياسيين.
شهدت قضية الحق في الملكية مزيداً من التعقيد في مصر، وخصوصاً في القاهرة، بسبب الإنشاءات غير الرسمية، والتي تشكل 65 في المئة من البيئة المعمورة في القاهرة.[1] وقد أُنشئت العديد من الشقق والبنايات بصفة غير قانونية على الأراضي الزراعية أو في الأراضي الصحراوية المحيطة التي كانت مملوكة للدولة أو الجيش. ونتيجة لذلك، ثمة نسبة كبيرة من السكان لا يملكون سند ملكية قانونية بأملاكهم. فهل هذه العقارات ملك لهم أم أنه يحق للحكومة إخلاؤهم؟ ومن الواضح أن الواقع معقد هنا. ففي معظم الحالات، تمكن المواطنون من البقاء في بيوتهم ومشاريعهم التجارية لأن التشريد الجماعي للناس من المناطق غير الرسمية هو أمر مستحيل. مع ذلك، عندما توجد مصالح متعارضة بالأرض، وعادة ما تكون هذه المصلحة هي مصلحة أصحاب مشاريع البناء الأغنياء أو المخططين الحكوميين، غالباً ما تسارع الحكومة لتشريد الناس. وبالنسبة لـ 65 في المئة من المدينة، هل من الإنصاف أن يتحدد حقهم بالملكية بموجب مصالح النخبة الغنية؟
يضمن الدستور المصري الجديد الحق في الملكية. وتُلزم المادة 21 الدولة بحماية الملكية بكافة أنواعها، وتنص على أن “تكفل الدولة الملكية المشروعة بأنواعها العامة والتعاونية والخاصة والوقف، وتحميها؛ وفقاً لما ينظمه القانون”.
وتقيم المادة 24 الصلة على نحو صريح بين الملكية الخاصة وبين الاقتصاد الوطني. كما أنها تحدد قيوداً على ملكية الأرض وتضمن حق الدولة في الحصول على الأراضي الخاصة “للمنفعة العامة” فقط. وتنص هذه المادة على أن “الملكية الخاصة مصونة، تؤدي وظيفتها الاجتماعية في خدمة الاقتصاد الوطني دون انحراف أو احتكار، وحق الإرث فيها مكفول، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون وبحكم قضائي؛ ولا تُنزع إلا للمنفعة العامة، ومقابل تعويض عادل يُدفع مقدماً. وذلك كله وفقاً لما ينظمه القانون”.
وللأسف، تترك هاتان المادتان إمكانية الإخلاء القسري مفتوحة، وتخفقان في الإقرار بالحقوق المتناقضة للناس الذين يعيشون في المناطق غير الرسمية.
تفترض معظم المناقشات حول حقوق الملكية بأن الدولة يجب أن تقر هذه الحقوق وتفرضها. ومع ذلك، ثمة حركة تُعارض هذا المفهوم التقليدي لحقوق الملكية، وهي تزعم بأن الملكية ليست حقاً على الإطلاق، وإنما هي وظيفة اجتماعية. وتقر هذه الوظيفة الاجتماعية للملكية بتأثير ملكية العقار واستخدامه على المجتمع المحلي ككل. وتقر بأن ثمة التزام على أصحاب العقارات بخدمة المجتمع المحلي من خلال الاستخدام البنّاء لثرواتهم. ويتمثل التزام الدولة بالتدخل من خلال فرض الضرائب أو المصادرة عندما يظل العقار غير مستخدم.
وضمّنت العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وأوروبا عناصر من هذه الوظيفة الاجتماعية للملكية في أنظمتها القانونية. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 14(2) من دستور ألمانيا لسنة 1949 على أن “الملكية تنطوي على واجبات. ويجب على استخدام الملكية أن يخدم الرفاه العام”. أما المادة 19(24) من دستور شيلي، فتنص على أن القانون فقط هو ما يحدد أسلوب امتلاك العقارات واستخدامها، والتمتع بها والتخلص منها، والقيود والالتزامات المستمدة من وظيفتها الاجتماعية. وهذه الوظيفة تتضمن جميع متطلبات المصلحة العامة للأمة، والأمن القومي، والاستخدام العام والصحة، والمحافظة على التراث البيئي.
وتضمن المادة 183 من دستور البرازيل حقوق الأفراد الذين يحتلون عقاراً خاصاً، والذين أمضوا في المكان أكثر من خمس سنوات. وتنص المادة 182 على أن “البلدية تنفذ سياسة التطوير الحضري وفقاً للتوجيهات العامة التي يضعها القانون، وتهدف إلى تنسيق التنمية الكاملة للوظائف الاجتماعية للمدينة وضمان رفاه سكانها”.
وفي عام 2001، أقرت البرازيل قانون المدينة لفرض تنفيذ المادتين 182 و 183 من الدستور وفرض الوظيفة الاجتماعية للملكية، وذلك من خلال إيلاء الأولوية للمصالح الاجتماعية قبل حقوق الأفراد بالملكية، وإنهاء المضاربات على العقارات التي تستفيد منها المصالح الخاصة من الاستثمارات العامة.
وليست الوظيفة الاجتماعية للملكية مفهوماً غريباً في مصر والمجتمعات الإسلامية الأخرى. ويقر القانون الإسلامي التقليدي بأن للملكية بعداً اجتماعياً، وأنه ثمة التزام واضح على مالكي العقارات نحو المجتمع المحلي.أما أشهر هذه الممارسات فهي الزكاة التي تتطلب من الأفراد منح اثنين في المئة من ثروتهم لأغراض خيرية، وثمة ممارسات أخرى أيضاً. ويحظر القانون الإسلامي الربا، والمضاربات، واكتناز الموارد وإخفائها، وذلك لإبقاء الثروة في حالة حركة ولتجنب تركيز الثروة في يد عدد قليل من الناس. وختاماً، يتماشى المفهوم الإسلامي للملكية مع جهد العمل. وبخصوص الأرض، تتحدد الملكية بالتطوير والاستخدام. وإذا قام شخص بتحويل أرض غير منتجة إلى أرض منتجة، فأنه يكتسب حق ملكيتها. وحالما يُكتسب هذا الحق، فإن المالك لا يفقده من جراء عدم الاستخدام، ولا يسقط هذا الحق إلا إذا استخدمها شخص آخر استخداماً منتجاً. وعندما تطور القانون الإسلامي، كانت هذه الأحكام تنطبق غالباً على حيازة الأرض الزراعية، ولا يتطلب الأمر كثيراً من الخيال لنرى كيف يمكن أن تنطبق على المناطق الحضرية لإعمال الاستخدام المفيد للمجتمع للعقارات في المدن.
وفي البلدان التي تبنّت الوظيفة الاجتماعية للعقار وجعلتها ضمن النظام القانوني، نشأت حوارات حول كيفية قياس الوظيفة الاجتماعية للملكية. فمن يحدد معنى الاستخدام المنتج للملكية؟ ومن يجب أن يستفيد من المصادرة الاجتماعية للأراضي المملوكة؟
وثمة مجال واسع للحوار حول الحق في الملكية، ودور الملكية، والتوازن بين الحقوق الخاصة بالملكية وبين الأبعاد الاجتماعية للملكية. وقال العديد من الباحثين أن مسار نمو القاهرة غير مستدام، وأن المضاربة في الأراضي وصلت مستويات عالية، وأن نمو المستوطنات غير الرسمية يشير إلى سعي الناس للتعويض عن هذه الظاهرة. ونحن نزعم بأن نمو القاهرة ليس فقط غير مستدام، وإنما غير منصف جوهرياً. وهذه القضايا خلافية، وثمة بلايين الدولارات تحت المحك في سوق العقارات في القاهرة، كما أن حياة ملايين الناس مهددة. ولكن مهما كانت الظروف، ومهما كانت الضغوطات أو المصالح، فإننا عندما نفكر في الحق في الملكية في القاهرة نعتقد أن سكان القاهرة سيتداولون بهذه المسائل في المستقبل القريب وسينظرون في حلول مبتكرة جديدة لهذه الأسئلة الصعبة.
[1] Séjourné, Marion. 2009. “The History of Informal Settlements.” In Cairo’s Informal Areas Between Urban Challenges and Hidden Potentials, edited by Regina Kipper and Marion Fischer. German Technical Corporation (GTZ).
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments