إن الحق في مستوى معيشي لائق هو حق يضمن حصول كل فرد وبشكل غير مشروط على “مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاه له ولأسرته” (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 25)، والتي عنى بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 على أنها تشمل الغذاء، والملابس، والإسكان، والرعاية الطبية، وغيرها من الخدمات الاجتماعية وكذلك الحق “في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمُّل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه”. كما أدرج الإعلان أيضاً أحكاماً خاصة لحماية الأمهات والأطفال. ويتوافق إعلان القاهرة لحقوق الإنسان بدوره مع هذه النصوص علاوة على إدراجه أيضاً الحق في التعليم ضمن الحق في “العيش الكريم” (1990، المادة 17 (ج)).
كما أدرجت العديد من الاتفاقيات الدولية الأخرى، ومصر من الأطراف الموقعة عليها، الحق في مستوى معيشي لائق، كما هو الحال في “العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: (1966، المادة 11) و”اتفاقية حقوق الطفل” (1989، المادة 25).
وإذا حاولنا إيجاد تعريف لعبارة “الحق في مستوى معيشي لائق” فسنجد أن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ أنه مجموعة من الحقوق وليس حقاً واضحاً، فضلاً عن تشابكه مع الحقوق المتصلة بتكافؤ الفرص، مثل تلك التي تحظر السخرة أو عمالة الأطفال. وإضافةً إلى ما سبق، ماذا تعني كلمة “لائق” في الأساس؟ ثمّة باحثون معنيون في هذا المجال اختصروا كلمة “لائق” في الماديات الأساسية، إذ عرّفوا “مستوى معيشي لائق” على أنه “العيش فوق خط الفقر”. ونجد بدورنا هذا الأمر إشكالياً للغاية، إذ ثمة مئات الآلاف من سكان القاهرة يعيشون فوق خط الفقر، ولكنهم في الوقت نفسه غير قادرين على نيل الرعاية الصحية أو السكن الملائم أو المرافق العامة أو الغذاء أو التعليم. ونرى على أنه يجب تعريف كلمة “لائق” في سياق متصل بالوقت والمكان، والنظر إليه على أنه معيار يعمل جنباً إلى جنب مع محاولة زيادة ثروات المجتمع ككل.
ولكيلا نتوسع أكثر في المناقشة حول هذا الحق، سنحاول بدلاً من ذلك الاقتصار على الجوانب المتصلة بمهمة “مبادرة تضامن”. فعلى سبيل المثال، فإن من الأمور الأساسية للحق في مستوى معيشي لائق هو “الحق في السكن” (وما يتصل به من توفير المرافق العامة من قبيل خدمات المياه والصرف الصحي). وقد تناولنا الحق في السكن في موضع آخر (متوفر على موقعنا الإلكتروني)، بالتالي سنركز هنا على باقي المكونات الأخرى المتصلة بالحق في مستوى معيشة لائق.
إذا لم تتمكن مدينة ما من توفير الغذاء الكافي لسكانها فستنهار هذه المدينة، إذ سينزل الجياع إلى الشوارع، وسيتوقف النشاط الاقتصادي، وقد تسقط حكومات نتيجةً لذلك. وقد شهدت أعمال شغب “انتفاضة الخبز” لعام 1977 تظاهر مئات الآلاف من الناس في جميع أنحاء مصر ضد السياسات التي فرضها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الرامية إلى إنهاء الدعم عن المواد الغذائية الأساسية. وليس من قبيل المصادفة أن تكون المطالبة بالخبز هي أول مطلب من مطالب ثورة يناير 2011 الرئيسة الثلاثة. ولطالما اعتُبر الخبز بأنه يمثل رمزاً لباقي القضايا الاقتصادية الأخرى، أبرزها طبعاً الحق في الحصول على الغذاء الكافي (على اعتبار أن الكثيرين من سكان مصر باتوا غير قادرين على توفير القوت لعائلاتهم). وينبغي أن يتمتع كل شخص، دون استثناء، بإمكانية الوصول جسدياً ومادياً إلى الطعام الكافي في جميع الأوقات. ويقع على عاتق الحكومات بدورها التزام أساسي باتخاذ الخطوات الكفيلة بالتخفيف من وطأة الجوع والتقليل من شدته. ويشمل الحق في الغذاء الكافي توفير الغذاء وتوفير إمكانية الوصول الجسدية والاقتصادية إليه، وتوفّر غذاء مقبول ثقافياً.
ويؤثر الحق في الغذاء بطرق عديدة على المدن؛ ويتصل أولها بالإمداد الغذائي، إذ يجب على مصر حماية الأراضي الزراعية المحيطة بالقاهرة. فقد فقدت المدينة على مدار السنوات الأربعين الماضية مساحات هائلة من الأراضي الزراعية جراء التوسع العمراني للمدينة بشكل عام وتمدد المستوطنات غير الرسمية بشكل خاص. وبينما لا يمكن إلقاء اللوم على قاطني المساكن غير الرسمية لعيشهم فيها، على اعتبار أنه لم يكن لديهم أي بديل معقول في المدينة، يجب على الحكومة بدورها بذل كل ما في وسعها لتحسين وضع الإسكان في القاهرة للحد من فقدان هذا المورد الطبيعي الثمين.
أما الأمر الثاني فهو الأسواق، إذ تعد الأسواق العامة واحدة من أهم وظائف المدينة. ويجب أن تتوفر للأحياء إمكانية الوصول إلى أسواق تبيع مواداً غذائية ذات جودة وبأسعار معقولة. وخلال تطور المدينة، كان ثمة ضغوط عقارية كبيرة على الأسواق غير الرسمية لإضفاء الطابع الرسمي عليها، مما يؤثر بدوره على أسعار المواد الغذائية. لكن إضفاء الطابع الرسمي في حد ذاته ليس أمراً سيئاً، لكن على الدولة اتخاذ تدابير لحماية المستهلكين من الطفرات في أسعار المواد الغذائية على مستوى المجتمع وكذلك على مستوى البلاد.
إن الحق في العمل هو حق كل فرد في الحصول على فرصة لكسب الرزق من أجل إعالة نفسه وأسرته. وفي حين أن الحق في مستوى معيشة لائق هو حق غير مشروط وينطبق على الجميع بلا استثناء بصرف النظر عن مساهماتهم الاقتصادية في المجتمع، فإن العمل في الوقت نفسه هو ما يجعل معظم الأفراد قادرين على الحصول على مستوى معيشي لائق. وثمة تأثيرات اجتماعية للحق في العمل؛ ومن الصحيح أن هذه التأثيرات تختلف بين مهنة وأخرى بشكل كبير، إلا أن جميع الأفراد العاملين بأجر يحظون باحترام كبير في مجتمعاتهم ولديهم إحساس أقوى بتقدير الذات مقارنةً بأولئك الذين يعانون من البطالة. كما يشعر الأفراد الذين يكسبون عيشهم بأنفسهم بالرضا بسبب قدرتهم على إعالة أنفسهم ومن يعتمدون عليهم.
وقد لعبت الحركات العمالية دوراً مهماً في صياغة السياسات المتصلة بالحق في العمل في مصر، إذ كان لها دور مهم جداً في تطبيع الاحتجاجات ضد نظام مبارك في نظر الجمهور في أوائل عام 2000. كما بات للحركات العمالية دور بارز على الصعيد الوطني بعد ثورة 2011. وقد قامت الحركات العمالية في الماضي بالاحتجاج ضد خصخصة مؤسسات الدولة التي بدأت مع سياسة الانفتاح التي انتهجها الرئيس أنور السادات، إلا أن معدلها تراجع بشكل مستمر، وصولاً إلى التسعينيات، بسبب اتحاد النقابات العمالية المصري الذي تديره الدولة، وهو الاتحاد النقابي القانوني الوحيد في مصر، فضلاً عن قيام الحكومة باستخدام القوة المفرطة أحياناً. وكان متوسط عدد الاحتجاجات السنوية في مصر بين عامي 1988 و1993 حوالي 27 احتجاجاً على الرغم من استمرار عمليات الخصخصة على قدم وساق في ظل حكومة مبارك، بما في ذلك اتفاقية إعادة الهيكلة لعام 1991 مع صندوق النقد الدولي. لكن ارتفع الرقم إلى 118 بين عامي 1998 و2003 مع تسارع جهود الخصخصة ووصل إلى 265 احتجاجاً بحلول عام 2004 مع تولي أحمد نظيف رئاسة الوزراء وتشكيله ما اعتبر أنه “حكومة رجال الأعمال”. وتوسعت الحركة ضد سياسات نظيف في نهاية المطاف حتى وصلت إلى كل جزء من القوى العاملة في مصر: من جميع القطاعات والمهن والخدمات العامة والنقل والمهنيين وموظفي الحكومة (Beinin, 2012). وخلال الفترة بين عامي 2007 و2010، بلغ معدل الاحتجاجات في السنة الواحدة حوالي 626 احتجاجاً، وكان ذلك من أبرز الأمور التي مهدت لثورة 2011 (Abdalla 2012).
إن الحق في المياه النظيفة مضمون بشكل تلقائي ضمن الحق في الغذاء الكافي والسكن الملائم والصحة، إذ لا يمكن تحقيق تلك الحقوق من دون الحصول على مياه صالحة للشرب، ومن دون المياه النظيفة لا يتحقق الحق في مستوى معيشة لائق. وينص التعليق العام رقم 15 “للجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” على أن “يشمل الحق في الماء حريات وحقوقاً في آن معاً. وتتضمن الحريات الحق في مواصلة الاستفادة من الإمدادات الموجودة للمياه اللازمة لإعمال الحق في الماء، والحق في عدم التعرض لما يعرقل ذلك، مثل الحق في عدم التعرض لوقف تعسفي لإمدادات المياه أو تلوثها. وبالمقابل، تتضمن الحقوق الحق في نظام للإمدادات بالمياه وإدارتها يتيح التكافؤ في الفرص أمام الناس للتمتع بالحق في الماء.”.
ولطالما كان التوزيع العادل للمياه وندرتها تحدياً دائماً للدولة المصرية. فبين عامي 2007 و2008، شهدت مصر حوالي 40 احتجاجاً دُعيت “انتفاضة المياه” كانت مرتبطة بتوزيع مياه الشرب (Reem 2007). كان ثمة أكثر من 20 ألف شخص في منطقة العبور في مدينة الإسماعيلية يعانون من ندرة المياه آنذاك. واضطر 40 ألف مواطن من البوت وعيسى ودمياط إلى استخدام مياه قناة السويس الملوثة للاستحمام والاستخدام المنزلي. كما عانى أطفال من أبو رديس، جنوب سيناء، من مرض جلدي لاستحمامهم بالمياه الملوثة نتيجةَ شح المياه. وقد منحت الحكومة المصرية شركة كندية للبتروكيماويات 105 مليون متر مكعب من المياه النظيفة مقابل 3 ملايين جنيه فقط في السنة (Ismail 2008). وبينما يحصل معظم سكان القاهرة على المياه الصالحة للشرب، إلا أن جودتها تتعرض في الغالب للخطر، لا سيما في القرى النائية وفي المناطق السكنية غير الرسمية. (لمزيد من التفاصيل حول مبادرة لتوفير مياه شرب مأمونة، انظر دراسة الحالة التي أجريناها بخصوص قرية ناهيا.)
ثمة مواد متعدد في الدستور المصري (2012) تتناول عناصر مختلفة من الحق في مستوى معيشي لائق:
وهناك بالفعل فجوة بين ما وعد به الدستور والواقع في مصر؛ وعليك أن تتذكر هنا أن الدستور وثيقة معيارية ترسم ملامح ما يجب أن تكون عليه مصر. وضع في اعتبارك أيضاً أن الحق في مستوى معيشي لائق لا يتطلب من الدولة توفير مستوى معيشي لائق، بل القيام بإجراءات لمساعدة المواطنين الأفراد على تحقيق هذا الحق.
لكن كيف يمكن للدولة فعل هذا؟ يمكنها ذلك عبر ثلاثة طرق. الأولى، تلتزم الدولة المصرية باحترام هذه الحقوق أولاً من خلال التأكد من عدم وجود أي قيود حكومية تعرقل الحصول على السكن أو الغذاء أو الرعاية الصحية أو التعليم أو غير ذلك من الخدمات الاجتماعية. (بمعنى آخر، ألا تزيد الأمور سوءاً). ويعني هذا إيقاف عمليات الإخلاء القسري وإغلاق المدارس والمستشفيات العامة وهدم المجتمعات المحلية. ثانياً، يجب على الحكومة حماية هذه الحقوق من خلال منع الجهات غير الحكومية، من أفراد أو جهات مجتمعية أو شركات خاصة أو مستثمرين أجانب أو الجيش، من انتهاك حقوق المواطنين الآخرين. (لا تدع الآخرين يزيدون الأمور سوءاً). ويعني هذا فرض قيود على الأمور الملوثة، وتطبيق قوانين تقيّد استخدام الأراضي، واحترام ملكية مالكي الأراضي لأراضيهم، والحفاظ على الأمن في الأماكن العامة، وإنهاء الفساد. وأخيراً، يجب على الحكومة اتخاذ الخطوات الكفيلة بإنفاذ هذه الحقوق من خلال تهيئة البيئة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يمكن من خلالها تحقيق الحق في مستوى معيشي لائق. (تحسين الأمور). وبعبارة أخرى، المزيد من البرامج التي تعزز تكافؤ الفرص في التعليم، والتوزيع العادل للخدمات الحكومية، ومبادرات الأجور الصالحة للعيش، إلخ.
يعد الحق في مستوى معيشي لائق أحد الحقوق الرئيسة التي ناضل المصريون من أجلها في العقود القليلة الماضية. كما أنه مجال يشارك فيه المجتمع المدني بنشاط. ويتطلب التمتع بمستوى معيشي لائق جعل السكن، والغذاء، والرعاية الصحية، والنقل، وما إلى ذلك ميسوراً. وتعتبر تكلفة المعيشة المرتفعة في المناطق الحضرية مثل القاهرة، مقارنةً بالدخل السنوي للفرد، مصدر قلق كبير للمصريين القاطنين فيها. ولطالما مثّل توفير مستوى معيشي لائق في مصر تحدياً، فضلاً عن اختفاء أي إشراف ضد انتهاك هذا الحق، إذ لا يوجد أي إجراء قانوني في مصر للشكاوى الشخصية حول انتهاك الحق في مستوى معيشي لائق. وبينما تنص المادة 68 من الدستور بوضوح على أن الحصول على السكن اللائق والمياه النظيفة والغذاء الصحي هي حقوق أساسية، فإنها لا توضح كيف يمكن للأفراد تحميل السلطات مسؤولية توفير هذه الحقوق وعدم انتهاكها. ومن نافلة القول إن الحق في التمتع بمستوى معيشي لائق لا يزال تحدياً للمجتمع المصري مع وجود الكثير من التحديات الاجتماعية والاقتصادية وعدم وجود إجراءات قانونية واضحة لمحاسبة المسؤولين.
Abdalla, Nadine. 2012. “Egypt’s Workers: From Protest Movement to Organized Labor.” Stiftung Wissenschaft und Politik (SWP) Comments 30. October 2012. Retrieved from http://www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2012C32_abn.pdf (Last accessed: June 25, 2013)
Beinin, Joel. 2012. “The Rise of Egypt’s Workers.” The Carnegie Papers. Carnegie Endowment for International Peace. http://carnegieendowment.org/files/egypt_labor.pdf (Last accessed; June 27, 2013)
Ismail, Abdel-Mawla. 2008. “Drinking Water Protests in Egypt and the Role of Civil Society.” In Reclaiming Public Water: Achievements, Struggles and Visions from Around the World, edited by Brid Brennan. Third Edition. Corporate Europe Observatory.
Leila, Reem. 2007. “Parched and protesting.” Al-Ahram Weekly. 2-8 August 2007, Issue No. 856. Retrieved from http://weekly.ahram.org.eg/2007/856/eg10.htm (Last Accessed June 24, 2013)
World Food Programme. 2013. “The Cost of Hunger in Egypt: Implications Child Undernutrition Social Economic Development.” World Food Programme series of The Cost of Hunger in Africa (COHA). June 2013. Retrieved from http://documents.wfp.org/stellent/groups/public/documents/ena/wfp257981.pdf (Last accessed: June 24, 2013).
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments