وفقاً لسيمز وأبو اللغد (2010) “في السبعينيات، عندما كانت القاهرة ثلث ما هي عليه اليوم … كانت وسائل النقل الحكومية تُغطي 86٪ من جميع رحلات المركبات.” غير أنه مع زيادة الطلب على النقل بسبب التوسع العمراني وظهور المدن الجديدة لم يكن من المستطاع أن يتم التوسع في نظام النقل العام بنفس المعدل. إن هذا الازدياد في الطلب يُمثل تحديات متنامية لصانعي السياسات ويُترجم إلى مشاكل النقل المختلفة التي من أبرزها الازدحام الدائم والتأخر والحوادث المرورية. وأكثر من كونها مجرد مصدر إزعاج، فإن تلك المشاكل لها آثار بيئية واقتصادية واجتماعية سلبية ملموسة. إن أهداف التنمية المستدامة مادة 11.1، إذ تقر بالحق في وسائل النقل العام الملائمة والتنقل في المناطق الحضرية، تنص على “توفير إمكانية الحصول على نظم نقل آمن، وبأسعار معقولة ومتاحة ومستدامة للجميع، وتحسين السلامة على الطرق، لا سيما من خلال التوسع في وسائل النقل العام، مع الاهتمام بصفة خاصة باحتياجات الفئات التي هي عرضة للضرر، النساء والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن بحلول عام 2030″ (الأمم المتحدة، 2015). ولكي يتحقق ذلك، فإن الحكومات وصانعي السياسات حول العالم يسعون لتطبيق استراتيجيات لزيادة شبكات النقل العام وتحسين إدارة التنقل في المناطق الحضرية وتوفير وسائل النقل العام، وتوطيد المشاركة الشعبية وسبل الإتاحة. وحيث أن عدد السكان مستمر في الزيادة وهذه المشاكل تتفاقم، فإننا نؤمن أن الآن هو أفضل وقت لتناول قضايا التنقل في المناطق الحضرية.
إن سلسلة ندوات مستقبل مصر الحضري مبادرة مشتركة بين مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية (CEDEJ بالفرنسية) وبرنامج لأمم المتحدة المستوطنات البشرية (UN-Habitat) و برنامج التنمية بالمشاركة في المناطق الحضرية (PDP) التابع للوكالة الألمانية للتعاون الدولي GIZ وهي تهدف إلى خلق منصة مفتوحة لتبادل المعلومات والخبرات والممارسات الفضلى التي تتعلق بتحديات التنمية الحضرية في مصر. الندوة الرابعة التي عُقدت في 29 مايو 2016 في المعهد الفرنسي ركزت على قضية التنقل في المناطق الحضرية في ضوء التوسع العمراني السريع والنمو السكاني المرتفع الذي تشهده مصر حالياً.
استضافت الندوة متحدثين من الحكومة والوكالات الإنمائية الدولية والمجتمع المدني والقطاع الخاص والأكاديميين الذين تناولوا هذه القضية من المستويات ووجهات النظر والنهج المختلفة. بدأت الندوة بمناقشة حول وضع سياسات التنقل في المناطق الحضرية. وقد قام الدكتور أشرف العبد المدير التنفيذي للبرنامج في وكالة التعاون الدولي اليابانية (JICA) في العرض التقديمي بشرح تفصيلي للنتائج التي توصلت إليها دراسة النقل في منطقة القاهرة الإقليمية (CREATS) التي أجرتها وكالة التعاون الدولي اليابانية في 2001/2002. وسلط الضوء على الثغرة في مجال التنفيذ حيث العديد من الخطط والمشاريع لا تتحقق بسبب الإجراءات المطولة لإصدار التراخيص والأفتقار إلى جهود التنسيق وعدم كفاية الميزانيات وعيوب في نهج الجهات المانحة وغير ذلك من الأسباب. ولحل هذه المشاكل فقد اقترح أن يكون هناك إصلاح مؤسسي ونهجاً مختلفاً لإدارة القطاع العام بحيث يترك مجالاً أكثر شمولاً للتخطيط ويضع وزناً أكبر على عمليات الرصد والتقييم. وقد خلُص إلى أن تركيزنا يجب أن يتحول من تمكين “تنقل المركبات” إلى “تنقل الأشخاص” مع إعطاء اهتمام أكبر لنظم النقل العام الموجهة نحو المواطن المُستخدِم وتحسين إدارة متطلبات الحركة المرورية. وبالإضافة إلى ذلك سلط الضوء على الحاجة الماسة لإيجاد حلول متكاملة والتي هي أكثر من مجرد إنشاء المزيد من الطرق.
وقد توصلت سلمى مُسلّم، مسؤولة برامج في برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، إلى استنتاجات مماثلة. وركزت في عرضها على الصلات القائمة بين التخطيط العمراني وأنماط استخدامات الأراضي والطلب على وسائل المواصلات. وألمحت إلى أن الزحف العمراني يصبح ممكناُ بسبب الاستثمارات في إنشاء الطرق والتي ينتج عنها تنقل موجه إلى المواصلات ووسائل النقل الغير رسمية. إن هذا لا يسهم فقط في الازدحام ولكن أوقات السفر الأطول تؤدي إلى ازدياد البصمة البيئية للمدن وتؤثر على البيئة بصورة سلبية. وقد دعت إلى التغيير للنموذج الذي يُفضل تركز النمو العمراني في مساحات قريبة من بعضها عوضًا عن الانتشار الواسع في مناطق متباعدة، ويفضّل دمج المجتمعات العمراني بالمدينة على التفرقة. ودعت أيضاً لإدخال التكنولوجيات التي تناسب بلدان جنوب الكرة الأرضية، مثل أنظمة النقل السريع (BRT) لأنها سريعة التنفيذ ومجدية من حيث التكلفة. وبالإضافة إلى ذلك شددت على الحاجة إلى ترشيد المؤسسات الحضرية وأطر الإدارة.
وقامت ليلى نسيري، الباحث في مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية، بعرض طريقة تغييُر سياسات وأولويات النقل على مر الزمان وقدمت للجمهور عرض مقارن لتاريخ وتطور نظام المترو في القاهرة وباريس.
وانتقالاً الى تقييم الوضع والأنشطة الحالية في قطاع النقل، قام المهندس سامي أبو زيد، رئيس “الادارة المركزية لتخطيط هياكل البنية الأساسية” في الهيئة العامة للتخطيط العمراني، بعرض الإجراءات ووجهات النظر الحكومية. وسلط الضوء على مشاكل التنقل في القاهرة مثل الازدحام المروري المزمن، وارتفاع معدلات الحوادث المتعلقة بالمرور، والتعريفات والدعم المالي، بالإضافة إلى نقاط الضعف المؤسسية. وبعد ذلك قدم استراتيجية التنقل الحضري في منطقة القاهرة الكبرى وأولويات الحكومة في هذا القطاع. وأكد على أهمية تنفيذ الاستراتيجيات وتفعيل المشاريع المقترحة في أرض الواقع. وبالإضافة إلى ذلك سلط الضوء على البنية التحتية للنقل المُزمع تنفيذها في العاصمة الادارية الجديدة ووسائل النقل العام التي سوف تربطها بالقاهرة الكبرى.1 بينما قام ممثل آخر للحكومة وهو المهندس خالد فاروق، رئيس “جهاز تنظيم النقل بالقاهرة الكبرى”، بتقديم أعمال الجهاز الذي عُهد إليه بمهمة التخطيط والمراقبة وإصدار التراخيص ووضع التعريفات ومعايير التشغيل. ويمكن اعتبار “جهاز تنظيم النقل بالقاهرة الكبرى” مثالاً لاستراتيجيات لم تتحقق بالكامل بما أنه لم يتولى مسؤولياته الكاملة بعد على الرغم من أنه أُنشئ بموجب مرسوم رئاسي عام 2010.
بالإضافة إلى الجهود الحكومية فإن المنظمات الدولية تنشط في تنفيذ مشاريع في قطاع النقل. وأوضح أحمد بدر من الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) أن الوكالة وضعت خطط لمشاريع مختلفة بناءاً على نتائج دراسة أُجريت على النقل الحضري في الإسكندرية بواسطة شركة EGIS في الفترة من 2013 إلى 2016. وقد قامت وزارة النقل باختيار مشروع تحديث ترام الرمل للتنفيذ، ومن المتوقع أن يتكلف 300 مليون يورو.
مثال آخر هو مشروع استدامة النقل في مصر (STP)، والذي يتم تنفيذه بواسطة جهاز شئون البيئة بالتنسيق مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وقد أوضح الدكتور أحمد أنور المسؤول الفني لمشروع استدامة النقل أن الهدف من هذا المشروع هو الحد من تزايد استهلاك الطاقة وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري من قطاع النقل. وسوف يتم تحقيق هذا من خلال تقديم وسائل نقل عام تكون على درجة عالية من الجودة والتكامل، وزيادة نسبة استخدام وسائل النقل غير الآلي، وإدخال نظام لإدارة حركة المرور، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة في النقل الصناعي، وتعزيز القدرة المؤسسية للنهوض بتنمية قطاع النقل المستدام. وقد انتهى المشروع حالياً من إنشاء ثلاثة خطوط للحافلات التي تربط بين القاهرة والمدينتان الجديدتان 6 أكتوبر والشيخ زايد. وعلى مستوى المحافظة فقد تم إجراء تجربة رائدة بإنشاء ممرات للدراجات وتحسين الأرصفة في الفيوم والمنوفية لتشجيع استخدام وسائل النقل غير الآلي.
لقد تطرق المتحدثون إلى نطاقات مختلفة، مما سمح أن يكون لدينا منظور مقارن. ركز أحمد الضرغامي عرضه على مستوى المحليات وقدم بحث الدكتوراه الخاص به المعني بتنقل الأطفال في عزبة الهجانة – وهي واحدة من أكبر المناطق اللارسمية سكانًا في القاهرة الكبرى.
وفي الختام قدمت الندوة عدد من المداخل المبتكرة لمعالجة القضايا التنقل في المناطق الحضرية في مصر. وقد سلط أنطوني خوري مدير عام شركة أوبر- مصر الضوء على كيفية أن التقدم التكنولوجي يفتح آفاقاً جديدة من أجل تحسين إمكانية الوصول والمساهمة في تخفيف الازدحام، وعلى وجه الخصوص الخدمة الجديدة للتشارك في السيارات والتي سوف تطلقها أوبر قريباً، أوبربول.
وبالإضافة إلى ذلك المبادرة المحلية مواصلة للقاهرة التي تهدف إلى رسم خرائط توضح جميع الوسائل الرسمية وغير الرسمية للنقل العام والتي يوجد احتياج كبير إليها لملء الفجوة المعلوماتية الموجودة، وهذا سوف يجعل تنقل القاهريين بوسائط النقل العام المعقدة أسهل. ، وكان حديث تحالف دراجات القاهرة يهدف الى تشجيع الناس على ركوب الدراجات أكثر كبديل لوسائل النقل الآلية، وقدم خطة لإنشاء تطبيق للهواتف الذكية لتلبية احتياجات راكبي الدراجات. وأخيراً فإن آمنة الساعي من مؤسسة حلم أكدت على أن الإتاحة هي حق يجب أن يُمنح للأشخاص ذوي الإعاقة بقدر ما يُمنح للأفراد الأصحاء، وأن أي خطط حضرية أو خطط لوسائل النقل ينبغي أن تأخذ جميع شرائح المجتمع في الحسبان.
ملاحظات ختامية
يمكننا رصد خط مشترك واضح طوال الندوة؛ وهو ما أكد عليه غالبية المتحدثين عن أهمية التحول بعيداً عن التوجه الذي يركز على إنشاء مزيداً من الطرق لمعالجة مشاكل التنقل، والذي قد ثبت فشله في مصر والخارج. لقد آن الآوان للتركيز على احتياجات السكان. ولفهم هذه الاحتياجات ورصد التقدم الذي نحرزه فإنه من المهم تقديم بيانات ودراسات عن القطاع يمكن الوثوق بها وفي الوقت المناسب وربطها بالاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية الأشمل.
في حين أن الندوة قد سلطت الضوء على بعداً هاماً ولكنه كثيراً ما يتم إغفاله ألا وهو الإتاحة والتنقل للأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أنه هنالك أبعاد أخرى كان من الممكن مواصلة مناقشتها. وكما أشارت عن حق الدكتورة دينا شهيب في ملاحظاتها الختامية، يجب أن تلعب أبعاد مثل النوع والسن دوراً هاماً في تصميم وتخطيط البنية التحتية وأنظمة نقل آمنة ومتاحة ومستدامة. وإضافة إلى هذا فمن المهم جداً أن يتم تحليل الآثار الاجتماعية والاقتصادية لوسائط النقل الجديدة والبديلة على أصحاب المصلحة الحاليين في قطاع النقل.
وقد ذكر الكثيرمن المتحدثين الحاجة إلى التوسع في شبكة النقل العام. كان المترو يُمثل 17٪ من وسائل النقل الآلية في عام 2001 على الرغم من أن الخطوط العاملة آنذاك كانت خط ونصف خط، وفي عام 2000 أكثر من 36٪ من الرحلات كانت سيراً على الأقدام، في حين أن السيارات الخاصة (بما في ذلك سيارات الأجرة) كانت تُمثل 14٪ فقط من جميع رحلات الآلية وغير الآلية (سيمز وأبو اللغد، 2010). هذا يوضح بجلاء ارتفاع الطلب على شبكات النقل العام والحاجة الملحة للتوسع فيهم. وعلى حد تعبير سلمى مُسلّم ، فإننا بحاجة إلى تبني استراتيجية تحسين للقطاع تعتمد على الحد من طول الرحلة والحاجة إلى التنقل، وذلك من خلال تخطيط متكامل لاستخدامات الأراضي وتنظيم الطلب على النقل، والتحول إلى وسائل النقل غير الآلية ووسائل النقل العام، وتحسين كفاءة الطاقة والارتقاء بالبنية التحتية للطرق.
لقد أعربت الندوة عن توصيات مماثلة لتلك التي وردت في دراسة البنك الدولي عام 2014 عن ازدحام المرور في القاهرة وكانت الدراسة قد أبرزت أربع توصيات رئيسية هي: أهمية الاستثمار في شبكات النقل الجماعي بدلاً من الطرق الحضرية، والتركيز على حلول لإدارة المرور مثل تنفيذ مخططات إدارة الممرات، وإعادة النظر في الأسعار لتعكس التكلفة الحقيقية لاستخدام الفراغ العام من خلال على سبيل المثال البدء في فرض رسوم على انتظار السيارات في الشارع، وأخيراً تعزيز قدرة “جهاز تنظيم النقل بالقاهرة الكبرى”، حيث أنه من المهم أن تكون هناك مؤسسة واحدة مسؤولة لضمان سلامة وفعالية الاجراءات المتخذة.
وأخيراً ولكن الأكثر أهمية كما أوضح صوت من بين الحاضرين، فإن صناع السياسات والمخططين في حاجة إلى صياغة رؤية قابلة للتطبيق تضع أولويات محددة لقطاع النقل في القاهرة، بحيث لا تكون تكرار لأخطاء الماضي بدون تمييزولكن بدلاً من ذلك تتحرك في الاتجاه الصحيح لتحقيق حق الشعب في وسائل نقل آمنة وبأسعار في متناول اليد ويمكن لجميع الفئات الوصول إليها وأخيرًا مستدامة.
المصادر
سيمز وأبو اللغد (2010)
Sims, D. and Abu-Lughod, J. (2010). Understanding Cairo. Cairo: The American University in Cairo Press. Sutton, K. and Fahmi, W. (2001). Cairo’s urban growth and strategic master plans in the light of Egypt’s 1996 population census results. Cities, 18(3), pp.135-149.
الأمم المتحدة (2015)
United Nations (2015). “Transforming Our World: The 2030 Agenda for Sustainable Development,”A/RES/70/1. LINK.
روابط ذات صلة
Greater Cairo: a proposed urban transport strategy
Cairo Traffic Congestion Study
1. أعلنت الحكومة المصرية في مارس 2015 عن عزمها بناء عاصمة إدارية جديدة شرق القاهرة لتخفيف الازدحام وازدياد تعداد السكان في القاهرة. ومن المتوقع إن المشروع الذي يتكلف 45 مليار دولار سوف يستغرق من خمس إلى سبع سنوات لإكماله وسوف يُشييد على أكثر من 700 كيلو متر مربع.
الصورة المُستخدمة من هبة منون، مُستخدمة بتصريح.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments