يرتبط الإرث الثقافي المصري شديد الثراء ارتباطاً لا ينفصم بهوية الأفراد في هذا البلد وجماعاته وبهوية البلد ككل؛ فهو إرث ماضينا الجماعي الذي تناقلته الأجيال السابقة حتى وصل إلينا. ولكن ما الذي يعنيه “الحق” في التراث وما السبب في كونه عنصراً ضرورياً من عناصر بناء مدننا واستدامتها وتحسين أوضاعها؟ لنرى ما تقوله واحدة من أفضل الصياغات تعبيراً في تعريفها “للحق في التراث” المتهرب نوعاً ما من قيود التعريف:
[هو] حق الجميع، منفردين أو مجتمعين، في الاستفادة من التراث الثقافي والمساهمة في إثرائه؛ [ويشتمل أيضاً على] مسؤولية الجميع، منفردين أو مجتمعين، في احترام الميراث الثقافي للآخرين بقدر احترامهم لميراثهم الخاص، وبالتالي احترامهم للميراث المشترك [...]. وقد تكون ممارسة الحق في التراث الثقافي خاضعة فقط لتلك القيود التي تعتبر ضرورية في المجتمع الديمقراطي من أجل حماية الصالح العام وحقوق الآخرين وحرياتهم. (اتفاقية مجلس أوروبا الإطارية بشأن قيمة التراث الثقافي للمجتمع (2005).
تعود جذور الحق في التراث إلى المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) على الرغم من عدم وروده لفظ التراث الثقافي صراحة في هذه المادة التي تنص على أن “لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية، وفى الاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدم العلمي وفى الفوائد التي تنجم عنه”. وفي عام 1965، تبنى المجلس الدولي للآثار والمواقع الميثاق الدولي لصون الآثار والمواقع وترميمها (ميثاق البندقية)، الذي أقر بأهمية الحفاظ على المعالم التاريخية، بل وعلى البيئة المحيطة بها.
لعب الميراث الثقافي في مصر دوراً حاسماً في تعبئة المجتمع الدولي باتجاه الاعتراف بالقيمة العالمية للتراث الثقافي والحاجة إلى العمل الجماعي لحمايته من أجل الأجيال المستقبلية. فعندما قررت مصر بناء السد العالي بأسوان أواخر خمسينيات القرن الماضي، كان من الممكن لفيضان النيل أن يُغرق معبدي رمسيس الثاني وأبي سمبل ومعبد إيزيس بجزيرة فيلة. وتحت إلحاح حكومة مصر والسودان أطلقت اليونسكو حملة عالمية لإنقاذ هذه المعالم. وبفضل الدعم الذي بلغت قيمته 80 مليون دولار بين عامي 1960 و1980، تم بكل عناية تفكيك هذه المعابد ونقلها ومن ثم إعادة تجميعها على أرض جافة. وسجل نجاح هذه الحملة سابقة في التعاون الدولي في مجال الحفاظ على التراث وحمايته وتوّج بولادة اتفاقية حماية التراث العالمي سنة 1972. يوجد في مصر ستة مواقع للتراث العالمي متواجدة داخل حدود أراضيها بما في ذلك مدينة القاهرة التاريخية وأهرامات الجيزة. وتعهدت مصر، بصفتها دولة طرفاً في الاتفاقية بالحفاظ على مواقع التراث العالمي المصرية وحمايتها بل وبالحفاظ على تراثها الثقافي الوطني (اليونسكو، غير مؤرخ).
وتعتبر البيئة المعمورة في مصر جزءاً من التراث الثقافي أيضاً. فقد بنى الحكام والنبلاء الأثرياء من الحقب السابقة المساجد والأضرحة والجامعات والقصور في القاهرة، بيد أن بعضاً من هذه المباني أصبح اليوم يقع ضمن أحياء سكنية ذات كثافة سكانية ويتخلله مناطق تضج بالنشاط التجاري والصناعي. لكن ظل الحفاظ على المباني التاريخية يواجه تحديات مالية في أغلب الأحيان، فبُنيت معالم جديدة فيما أُهملت أخرى. ومع تنامي الحركة السياحية في العقود القليلة الماضية، بدأت الحكومة المصرية والمجتمع الدولي في ترميم الكثير من المناطق الزاخرة بالتراث وتجديدها نظراً ’لأهميتها‘ بالنسبة للاقتصاد السياحي.
وكان هذا التوتر بشأن التراث الثقافي للبلد والأدوار الملائمة التي ينبغي أن تتولى القيام بها السلطات العامة والأموال العامة والمجتمع المدني والجهات الفاعلة من القطاع الخاص والمواطنون على صعيد حماية هذا التراث والحفاظ عليه والاحتفاء به سبباً في بروز نقاشات كثيرة تناولت قضايا التراث الثقافي لبلدنا على مستوى الداخل المصري. وأما على المستوى العالمي، فقد أفضت هذه النقاشات والقضايا المعقدة إلى نشوء مفهوم “الحق في التراث”. وتؤمن مبادرة تضامن بضرورة أن تبادر المؤسسات المسؤولة عن حماية التراث المصري إلى فتح حوار مع المجتمعات المحلية من أجل تعريف تراثها الثقافي وتسخير خبرات المجتمعات المحلية ومواردها للمساعدة في حماية هذه التراث. وبما أن الحق في التراث قائم بمستوييه الفردي والجماعي، فإن لكل فرد ومجتمع محلي الحق في التمتع بتراثه الثقافي إضافة إلى التراث الثقافي للآخرين، ولكنه مسؤول أيضاً عن احترام تنوع تراثه الثقافي وحمايته.
وفي الوقت الذي تبزغ فيه مصر من فترة انتقالية سياسية، لا يدع الدستور المصري الجديد لعام 2012 مجالاً للشك فيما يتعلق بحق الدولة في الحفاظ على “التراث الثقافي الوطني ونشر الخدمات الثقافية” (المادة 46، الدستور المصري الجديد، 2012). وتستحضر مواد الدستور التي تشير إلى التراث بصورة رئيسية أهمية حماية اللغة العربية وأن تكون لها الأسبقية في البلاد [المادتان 12، 60] وحماية القيم الأخلاقية والثقافة العربية دون أن تبيّن على نحو محدد ممّ تتألف. والنقطة الأهم، لم يحدد الدستور بدقة من الذي يقرر معالم التراث في مصر، وما إذا كان ذلك التحديد سيقوم على تصور شمولي أم إقصائي.
وفي مسح أجريناه على دساتير أخرى حول العالم، وجدنا أن الدولة، في معظم هذه الدساتير، هي الجهة الفاعلة الرئيسية على صعيد حماية البيئة التراثية والحفاظ عليها وتعزيزها، ولكن دون الإتيان على ذكر جهات فاعلة أخرى محتملة (القطاع الخاص والمؤسسات الدينية والمجتمع المدني). وتؤكد المادة 213 من الدستور الجديد على أهمية أن تُعنى الحكومة “بحماية التراث الثقافي والمعماري للمصريين”. ومع ذلك، يظل القرار بيد مسؤولين رسميين غير منتخبين وبيروقراطيين فيما لا يتم إشراك جماعة المواطنين فعلياً في اتخاذه بأي شكل. ومن هنا تتساءل مبادرة تضامن كيف يمكن للحق في التراث والمداولات العامة الدائرة حول معناه أن يشكل سبيلاً نحو التحول الديمقراطي. فمن شأن تبني مفهوم أوسع للتراث أن يمنح المواطنين الحق في التفاعل مع المدينة واستخدامها وأن يكونوا جزءاً منها من خلال اهتمامهم بالمشهد العمراني للمدينة وتقديره وصونه.
نحن ندرك أن الحق في التراث الثقافي، لاسيما في جانبه المتعلق بالبيئة المعمورة، قد يتعارض مع بعض الحقوق الأخرى التي تعمل مبادرة تضامن على تعزيزها. على سبيل المثال، هل ينبغي أن تكون الدولة قادرة على أن تقرر أن شيئاً ما له أهمية أو صبغة تاريخية ومن ثم تجريد صاحب الملكية الخاصة من حقه في إجراء تعديل على أرضه أو تطويرها؟ وما هي القوانين والإجراءات البيروقراطية الواجب تطبيقها إذا ما تعارضت السلامة السكنية في المباني التاريخية مع الأهمية التاريخية للبناء؟ هل ينبغي لأحد أذرع الدولة إغلاق أسواق أو صناعات محلية نشطة وهدمها على نحو قسري إذا كانت النواحي الجمالية لها أو وجودها يتعارض مع الحساسيات أو الاهتمامات المفترضة للسياح التي يقوم على تعزيزها ذراع آخر من أذرع الدولة؟
وفي بعض الأحيان، يطرح التعارض بين الحق في التراث والحق في السكن قضايا شائكة على مستوى الفرد والدولة (وهيئاتها البيروقراطية المختلفة والمتنوعة). وتبقى الضغوطات الاقتصادية المزدوجة المتمثلة في ندرة الأراضي والطلب على السكن تشكل تهديدات مستمرة على المباني التاريخية في القاهرة.
ينبغي أن يمنح الحق في التراث الناس القدرة بصفة جماعية على تعريف معنى التراث وتحديد قيمته في الحاضر وفي المستقبل. وفي الوقت ذاته، تحتاج حماية التراث إلى آليات تحول دون استغلال المناطق أو الأبنية التاريخية من أجل المصلحة الذاتية السياسة أو المالية. وعلى الرغم من الدور الحاسم الذي تلعبه الحكومة في تعزيز الحق في التراث، إلا أن المسؤولية عن حماية التراث والمحافظة عليه تقع على عاتق الجميع. وبالتالي يتعين على الحملات الإعلامية العامة أن تبين للمواطنين أفضل الممارسات في مجال المحافظة على التراث وتعزيزه وأن تستكشف آفاق النُهُج المتبعة في حماية التراث المصري وصونه وبصورة خاصة على نطاق المجتمع. ومن هنا يتضح أن حق عموم الناس في التراث لا يقع ضمن مسؤولية الحكومة وحدها، بل هو أيضاً من مسؤولية الأفراد والقرارات التي يتخذونها على نحو تشاوري وجماعي.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments