يقع هذا المقال ضمن سلسلة مقالات تنشرها مبادرة تضامن حول مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالإسكان والتنمية الحضرية المستدامة- الموئل الثالث لعام 2016. انظر أيضاً:
الدليل الإرشادي للموئل الثالث: قراءة للعمران المصري من منظور أجندات الموئل
الدليل الإرشادي لمؤتمر الأمم المتحدة الثالث المعني بالإسكان والتنمية الحضرية المستدامة (الموئل الثالث)
في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، تجمّع أكثر من 40 ألف مشارك من 167 بلداً مختلفاً في كيتو بالإكوادور لحضور مؤتمر الأمم المتحدة الثالث المعني بالإسكان والتنمية الحضرية المستدامة، أو ما عُرف بالموئل الثالث. وضم المؤتمر خبراء في التخطيط العمراني ومهندسين معماريين ونشطاء ومعنيين بالتطور العمراني ومنظمات غير حكومية ومواطنين وممثلين عن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وتوِّج المؤتمر بالاتفاق حول وثيقة الخطة الحضرية الجديدة –وهي وثيقة بالسياسات والمبادئ والالتزامات المتفق عليها فيما يتعلق بالتوسع العمراني المستدام في القرن الحادي والعشرين. وتهدف وثيقة الخطة الحضرية الجديدة إلى رسم مسار لسياسة عمرانية تتسم بشمول الكافة والتشاركية وتقديم المصلحة العامة على المصالح الفردية. وتناصر هذه الوثيقة كثيراً من الحقوق والمبادئ المندرجة تحت عنوان الحق في المدينة وترى أن المدن بنيت لتأدية الدور الاجتماعي المقصود منها وليس لجني الأرباح. بيد أن هذه الخطة ليست ملزمة، مما يجعلها ضعيفة فيما يتعلق بالوسائل المادية للتنفيذ والإنفاذ، فضلاً عن كونها تشجع على جملة من الأولويات العامة بل والمتناقضة أحياناً. ومع شروع الحكومات في وضع استراتيجيات وطنية لتحقيق أهداف الخطة الحضرية الجديدة وصياغتها بوضوح، فإن تقييم السياسات الحكومية الحالية وتحديد أفضل الممارسات والإخفاقات والتأثيرات وتحديد العوامل السياسية التي ترتكز عليها المبادرات الحكومية باتت اليوم شؤوناً مهمة أكثر من أي وقت مضى. وقد شاركت الحكومة المصرية في الموئل الثالث، فيما قدمت وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية، في فعاليات مختلفة، رؤية الحكومة بخصوص التوسع العمراني في السنوات المقبلة. غير أن الحكومة المصرية قدمت نهجين مختلفتين تماماً وغير متوافقين فيما يبدو لإدارة التحديات المتعلقة بالتنمية العمرانية للبلاد: نهج مألوف يرتكز بقوة على المشاريع الإنشائية والعمرانية الكبرى، وآخر يبتعد عن أسلوب العمل المعتاد ويركز على المناطق الحضرية القائمة والارتقاء بمستوى المستوطنات غير الرسمية في عين المكان الذي تقوم عليه. وهذا الاختلاف بين النهجين يثير التساؤلات بشأن الفجوة بين التزامات مصر الخارجية تجاه الأهداف والمبادئ التي تضمنتها الخطة الحضرية الجديدة وممارساتها الفعلية. فهل هناك دوائر في الحكومة المصرية تعتمد نهجين مختلفين في مقاربتها للتنمية العمرانية؟ وهل تقدم الحكومة دعماً متساوياً لهذين النهجين عند توزيعها لمخصصات الميزانية؟ والأهم من ذلك، هل تصنع الالتزامات التي تتعهد بها الحكومة المصرية في مناسبات كالموئل الثالث أي فرق حقيقي على صعيد تطوير السياسات التي تسعى إلى تطبيقها؟ لقد حضر موظفون من مبادرة تضامن جلسات مؤتمر الموئل الثالث، وفيما يلي ملاحظاتهم: في يوم الأربعاء، 18 تشرين الأول/ أكتوبر، تحدث في المؤتمر ممثل عن وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية حول “مشاريع التنمية الوطنية الداعمة للتوسع العمراني المستدام” شأنه شأن نظرائه من السودان وماليزيا والعراق. وشرح المندوب المصري في محاضرته التي كانت بعنوان “إطار للتوسع العمراني المستدام في مصر” معالم سياسة التنمية العمرانية الوطنية الرامية إلى الحد من الكثافة السكانية في المناطق الحضرية القائمة “وضمان جذب الناس إلى المناطق الداخلية للمشاريع بعيداً عن السواحل وضفاف النهر من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية في إعادة توزيع السكان”. وحدد المتحدث في كلمته ما وصفها بأنها أكثر تحديات التنمية العمرانية الوطنية إلحاحاً في مصر، وهي: (1) حقيقة أن 90% من السكان يشغلون فقط 7% من أراضي البلاد، و(2) التمدد الحضري غير الرسمي. ومن ثم شرح الوزير خطة لتطوير 4 ملايين فدان (16.8 مليون كيلومتر مربع) من الأراضي الصحراوية (1.5 مليون فدان في المرحلة الأولى من المشروع) إلى مشاريع إسكان صحراوية جديدة وأرض زراعية.
وتابع المندوب في شرح العديد من المشاريع الضخمة لتنمية الصحراء والمدن الجديدة: العاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة العلمين الجديدة، وبورسعيد الشرقية. ولم يتطرق المندوب بتاتاً للكيفية التي سيتسنى بها لهذه المشاريع الكبرى المقترحة مساعدة مصر على التغلب على تحديات التنمية الوطنية التي ذكرها آنفاً في محاضرته، أو لمَ ستحقق هذه المشاريع نجاحاً أكبر من مشاريع المدن الجديدة السابقة التي فشلت، أو كيف خططت مصر لتمويل بنائها. بالمقابل، عرض المندوب مجموعة من الرسومات للنتائج المتوقع صدورها عن المشاريع.
وبعد يوم واحد من محاضرة وزارة الإسكان حول مشاريع استصلاح الأراضي في مصر، تحدث في المؤتمر مندوب آخر عن الوزارة، هو الدكتور أحمد درويش إلى جانب متحدثين من وزارة الإسكان في النيجر والوكالة الألمانية للتعاون الدولي (أو ما يعرف اختصاراً بـ “GIZ”)، ضمن إحدى فعاليات المؤتمر بعنوان (آفاق تحسين سبل الرزق من خلال العشوائيات الشاملة للجميع والارتقاء بالمستوى الحضري في أفريقيا). ويشغل الدكتور درويش منصب وكيل وزارة الإسكان إلى جانب ترؤسه لصندوق تطوير المناطق العشوائية. وفي تحوّل واضح في اللهجة عن المحاضرة السابقة، التي وضعت مشاريع البناء واستصلاح الأراضي الكبرى في مركز الخطة الحضرية المصرية، سلّط الدكتور درويش الضوء على تحسين المناطق غير الرسمية القائمة باعتباره الأولوية الكبرى للجهود التي تبذلها الوزارة والصندوق.
وبدأ درويش حديثة قائلاً إن “الحق في سكن ملائم وآمن وصحي إلى جانب الكرامة والعدالة الاجتماعية، هي قيم مكفولة في الدستور المصري لسنة 2014″. ومن ثم تابع الحديث لمناقشة عدد من الأنشطة –والقسم الأعظم منها يتعلق بتحسين أحوال المناطق الحضرية القائمة في القاهرة في عين المكان- التي يتولى القيام بتنفيذها الصندوق والوزارة من خلال الشراكة المبرمة مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي. وتتلخص مهمة هذا المشروع المشترك، ويدعى البرنامج الإنمائي التشاركي، وهو مشروع تبلغ قيمته 49 مليون يورو، هي تحقيق “التنمية العمرانية والاجتماعية-الاقتصادية في المستوطنات غير الرسمية بالتعاون مع كافة أصحاب المصلحة”.ومن ثم حدد درويش عدداً من المبادئ الأساسية في البرنامج الإنمائي التشاركي، وهي: العدالة المكانية والتخطيط التشاركي وحوكمة المدن الشاملة للجميع، واستدامة المجتمعات المحلية، والتنمية في عين المكان، والشفافية – وجميع هذه المبادئ غاب تماماً عن المحاضرة الأولى للوزارة.
وأجرى الصندوق والوكالة الألمانية معاً ’تقييماً تشاركياً للاحتياجات‘ في تسع مستوطنات غير رسمية للتعرف مواطن العجز الأكثر استعجالاً عند قاطنيها. وبناء على النتائج التي خرجت بها هذه التقييمات نفذ الشريكان أكثر من 250 إجراءً على نطاق ضيق بما في ذلك إجراء تحسينات على إدارة المخلفات الصلبة (تم تنفيذها بصورة مشتركة مع جامعي مخلفات غير رسميين)، ورفع قدرات البنية التحتية في ثلاث محافظات، وصياغة سياسة للتأقلم مع التغير المناخي بغية تعزيز القدرة على تحمل الحرارة المفرطة. ويقدم البرنامج الإنمائي التشاركي، إضافة إلى تنفيذه المباشر للمشاريع، منحاً للمشاريع الصغيرة ومتوسطة الحجم بهدف تحسين الظروف المعيشية مع التركيز على المواطنين المهمشين وذوي الإعاقة.
ومن ثم شرح الدكتور درويش للحاضرين بالتفصيل تصنيفات صندوق تطوير المناطق العشوائية للسكن غير الآمن. وبحسب الصندوق، يوجد في مصر حالياً 351 منطقة “غير آمنة” يسكنها نحو 850,000 مصري. ويتمثل الهدف الذي يضعه الصندوق نصب عينيه في إزالة جميع المناطق غير الآمنة بحلول عام 2018. وفيما يتعلق بترحيل السكان ونقلهم إلى أماكن أخرى، أوضح درويش بأن الصندوق لا يقوم بترحيل السكان من منازلهم إلا إذا كان ذلك ضرورياً بشكل قاطع، وأنه، في حال تم ذلك، يبذل الصندوق كل جهد ممكن لنقلهم إلى أقرب نقطة ممكنة إلى منازلهم. واختتم الدكتور درويش بإعطاء فكرة مختصرة عن ’الاستراتيجية الوطنية‘ المصرية الخاصة بالمستوطنات غير الرسمية وعرض فيلماً عن مشاريع الصندوق التي يجري تنفيذها حالياً في المناطق ’غير الآمنة‘.
تطرح هاتان المحاضرتان نموذجين مختلفين تماماً بل ومتناقضين في وجوه كثيرة على صعيد السياسات العمرانية على الرغم من كونهما أُلقيتا من قبل المسؤوليّن اللذين انتدبتهما وزارة الإسكان المصرية ليمثلا حكومة بلادهما في الموئل الثالث. فالمشاريع الكبرى لاستصلاح الأراضي وتنمية الصحراء، كمشروع العاصمة الإدارية الجديدة، تتجاهل المناطق الحضرية القائمة والقطاع السكاني الهائل الذي يعيش فيها. ويسود العمل بنهج المشاريع الضخمة هذا في مصر منذ عقود على الرغم من إخفاقه إلى حد كبير في تحقيق المراد. أما مشاريع تحسين الأحوال في عين المكان، كما هي الحال بالنسبة للبرنامج الإنمائي التشاركي، فإنها تضع السكان والمناطق الحضرية وكافة التحديات ذات الصلة في صميم جهود التنمية. والسؤال: أين تقف الخطة الحضرية الجديدة فيما يتعلق بالرؤى والمبادئ التي تسترشد بها النُهُج المختلفة؟
تعتبر سياسات تحسين الأحوال في عين المكان، مثل البرنامج الإنمائي التشاركي، أكثر اتساقاً بكثير مع روح الخطة الحضرية الجديدة التي تعزز إشراك الجميع والتنوع والسياسات التي تضع الإنسان في مركز اهتمامها وتعيب على المضاربة العقارية. وتلزم هذه الخطة الدول بتطبيق الأنظمة المنبثقة عن السياسة الخاصة بالأراضي التي تعطي الأولوية لحماية حقوق سكان المناطق الحضرية واحتياجاتهم على المصالح الربحية للمطورين وشركات الأعمال والشركات العقارية.
الخطة الحضرية الجديدة، 111- “وسنشجع وضع لوائح ملائمة وقابلة للتنفيذ في قطاع الإسكان، بما في ذلك، حسب الاقتضاء، قوانين بناء مرنة، ومعايير، وتراخيص تطوير، ومراسيم لاستغلال الأراضي، ولوائح تخطيط، ومكافحة ومنع المضاربة والنزوح والتشرد وعمليات الإخلاء القسري التعسفية، وضمان الاستدامة والجودة ويسر التكلفة والصحة والسلامة والتزويد بالتسهيلات والكفاءة في استخدام الطاقة والموارد، والقدرة على الصمود”. (الجمعية العام للأمم المتحدة 2016، 15).
وتقر الخطة الحضرية الجديدة بدور القطاع الخاص في التنمية العمرانية واستغلال الأراضي لغايات الربح الاقتصادي، ولكن ضمن سياق يُطبَّق فيه نظام قائم على سياسة الاستغلال المتخصص للأراضي لمنع الأثر الكارثي من قبيل سوق العقارات المتحرر من القيود الذي طورته مصر، على سبيل المثال. وتعزز الخطة ممارسات المشاركة وتوزيع المكاسب المترتبة على ارتفاع قيمة الأرض وتحذر من استحواذ القطاع الخاص وحده على المكاسب المتأتية من الأراضي.
137- وسنعمل على تعزيز أفضل الممارسات من أجل جمع وتقاسم الزيادة في قيمة الأراضي والممتلكات المتأتية نتيجة عمليات التنمية الحضرية، ومشاريع الهياكل الأساسية والاستثمارات العامة. ومن الممكن القيام، حسب الاقتضاء، بتطبيق تدابير من قبيل السياسات المالية المتصلة بالمكاسب لمنع الاستيلاء على الأراضي من جانب القطاع الخاص فقط، فضلاً عن منع المضاربة في الأراضي والعقارات. وسنعزز العلاقة بين النظم المالية والتخطيط الحضري، فضلاً عن أدوات الإدارة الحضرية، بما في ذلك سوق الأراضي. وسنعمل على ضمان ألا تؤدي الجهود الرامية إلى توليد نظام مالي قائم على الأراضي إلى استخدام غير مستدام للأراضي واستهلاك غير مستدام. (الجمعية العام للأمم المتحدة 2016، 18)
وفي هذا السياق، يتناقض التركيز المصري المستمر على المشاريع الضخمة والأعمال العقارية المدفوعة بغايات تحقيق الربح كأساس لسياسة التنمية العمرانية مع الالتزامات التي قطعتها مصر على نفسها من خلال توقيع الخطة الحضرية الجديدة في الموئل الثالث. بالمقابل، تجسد مشاريع من قبيل البرنامج الإنمائي التشاركي وما ينبثق عنه من مبادرات الكثير من المبادئ التوجيهية التي حددتها الخطة الحضرية الجديدة كأساس للسياسة العمرانية السليمة والمنصفة اجتماعياً والمستدامة. وتعطي الخطة الأولوية لاحتياجات الجماعات المحلية المهمشة التي تعاني من نقص في الخدمات ولمصالحها، وتعزز مشاركة جميع أصحاب المصلحة في جميع أعمال التخطيط والتنفيذ والإجراء، وتؤكد على قيمة الأرض من منطلق وظيفتها الاجتماعية وليس الربحية.
13- “ونحن نتوخى مدناً ومستوطنات بشرية تحقق ما يلي:
(أ) تأدية وظيفتها الاجتماعية، بما في ذلك الوظيفة الاجتماعية الإيكولوجية للأرض، من أجل التوصل تدريجياً إلى الإعمال الكامل للحق في السكن الملائم كعنصر من عناصر الحق في مستوى معيشي لائق، ودن تمييز، وإتاحة مياه الشرب المأمونة والميسورة التكلفة وخدمات الصرف الصحي للجميع، فضلاً عن كفالة استفادة الجميع على قدم المساواة من المنافع العامة والخدمات ذات الجودة في مجالات مثل الأمن الغذائي والتغذية والصحة والتعليم والهياكل الأساسية والتنقل والنقل والطاقة ونوعية الهواء وأسباب المعيشة”. (الجمعية العام للأمم المتحدة 2016، 4).
ولا يتناقض التركيز المصري المستمر على المشاريع الضخمة والأعمال العقارية المدفوعة بالرغبة في تحقيق الربح كأساس لسياسة التنمية العمرانية مع الكثير من المبادئ التوجيهية للخطة الحضرية الجديدة وحسب، بل يمثل أيضاً نموذج للسياسات التي ثبت فشلها الذريع في هذا المضمار. فمشاريع مثل العاصمة الإدارية الجديدة تكاد لا تقدم شيئا ًيّذكر لمساعدة الجماعات الأكثر تهميشاً ومعاناة من نقص الخدمات وهي، بالمقابل، تحتكر مخصصات الميزانية وتشجع على المضاربات. وقد عجزت التجمعات التي أُقيمت بتخطيط من الدولة، وهي معروفة باسم المجتمعات العمرانية الجديدة، في اجتذاب السكان إليها والاحتفاظ بهم، ناهيك عن الارتفاع الصاروخي في تكاليف السكن، واستمرار الظروف المعيشة غير الملائمة في المناطق غير الرسمية منقوصة الخدمات، ومتنامية الحجم، في القاهرة. (لمزيد من المعلومات، انظر تضامن 2015، “سياسة المدن الجديدة في مصر: أثر متواضع وعدالة غائبة“
على الرغم من الدعم الظاهري الذي أعربت عنه الحكومة في الموئل الثالث لنماذج تحسين الأحوال في عين المكان، إلا أن نفقات الميزانية الحكومية الفعلية تناقض ذلك بما تعكسه من تحبيذ المؤسسات الواضح والجارف لمشاريع الإنشاءات الجديدة والتوسع في الصحراء. فقد وجدت شركة 10 طوبة في تحليل لميزانية البيئة المعمورة في مصر للسنة 2015/2016، أن 30% من ميزانية البيئة المعمورة للسنة المالية 2015/2016 مخصص لـ 31 مدينة جديدة يقطنها 2% فقط من سكان مصر، أي بواقع 15,537 جنيهاً مصرياً للشخص الواحد. بالمقارنة، تم إنفاق 29% من ميزانية البيئة المعمورة في مناطق قائمة (أكثر من 200 مدينة و4000 قرية) حيث يعيش 98% من السكان، أي بمعدل إنفاق للفرد الواحد يساوي 322 جنيهاً مصرياً فقط (Khalil and Shawkat 2016). كذلك، اجتذبت مشاريع الإنشاءات الجديدة في مصر تمويلات هائلة من مستثمرين أجانب. ففي آذار/ مارس 2015، أطلقت الحكومة المرحلة الأولى من مشروع العاصمة الإدارية الجديدة بتكلفة متوقعة تبلغ 45 مليار دولار أمريكي، تعهدت شركة تشاينا فورتشين آند لاند ديفيلوبمنت بعشرين ملياراً منها، سبقه استثمار آخر بقيمة 15 مليار دولار من شركة صينية أخرى مملوكة للدولة مما يغطي 35 ملياراً من أصل 45 مليار دولار اللازمة لاستكمال المرحلة الأولى من المشروع (Osborne 2016). ويقول الموقع الإلكتروني الرسمي للمشروع إن بناء العاصمة الجديدة سيشتمل على 1.1 مليون وحدة سكنية، و1.75 مليون وظيفة دائمة، وإن عدد السكان المستهدف هو 5 مليون نسمة. ويشتمل المشروع أيضاً على خطط لبناء مطار أضخم من مطار هيثرو، وناطحات سحاب شاهقة، وحديقة بمساحة تبلغ ضعف مساحة السنترال بارك، وحديقة ملاهي تنافس ديزني لاند. إن العمل جارٍ بمشروع العاصمة الجديدة وسط مخاوف من أن يكون مصير هذه الخطة الطموحة مماثل لمصير مشاريع البناء الأخرى في الصحراء الواقعة حول القاهرة ومن أن ينتهي المطاف بالعاصمة الجديدة كمدينة أشباح وليس كحاضرة مزدهرة كما يتخيلها المشروع (Kirk 2016).
وبالمقابل، تحصل المشاريع التي تركز على تحسين أحوال المناطق الحضرية الحالية في عين المكان، مثل البرنامج الإنمائي التشاركي، على قسم ضئيل من الميزانية التي تحصل عليها مشاريع البناء في المدن الجديدة. ويحصل البرنامج الإنمائي التشاركي إلى حد كبير على تمويل ميزانيته الحالية البالغة 49 مليون يورو من مانحين خارجيين (وزارة التعاون الاقتصاد والتنمية الألمانية الاتحادية، والاتحاد الأوروبي، ومؤسسة بيل آند ميلينيا غيتس).
تهيمن مشاريع التوسع الضخمة في الصحراء، بكل تأكيد، على إنفاق الميزانية في مصر، ولكن هذا لا يعني أن الدعم لتحسين أحوال المناطق الحضرية القائمة في عين المكان غائب تماماً عن مسرح السياسات العمرانية المصرية. فثمة دلائل على بعض التحولات الإيجابية في السياسات، ولو كانت ضئيلة، في دوائر حكومية معينة خلال السنتين الماضيتين. فعلى سبيل المثال، استشار صندوق تطوير المناطق العشوائية جهات معينة بالتطور العمراني –من ضمنها مبادرة تضامن- لدى قيامه بإعداد استراتيجيته المتعلقة بتحسين أحوال المناطق غير الآمنة وغير المخططة في عين المكان، فضلاً عن إبدائه مؤخراً تفضيله للتنمية في عين المكان على النهج السائد السابق القائم على نقل السكان إلى مكان بعيد عن أحيائهم الأصلية. وعلى نفس المنوال، تعكف محافظة القاهرة حالياً على إعداد استراتيجيتها الخاصة للتعامل مع المناطق غير الرسمية وهي استراتيجية تعزز التنمية في عين المكان داخل المدينة، وذلك بالتعاون مع هيئات حكومية أخرى مثل وزارة الإسكان. ومن البرامج الأخرى التي تؤكد على هذه النقطة في الآونة الأخيرة، مشروع إسكان أسمرات، وتحسين أحوال منطقة الشهباء بمنشية ناصر، والمشروع الذي ينفذه الصندوق في تل العقرب في القاهرة التاريخية.
إذن لماذا لم يتم توسيع نطاق سياسات التحسين في عين المكان وتعميمها؟ أولاً، وربما كان السبب الأهم، تجلب المشاريع العقارية والإنشائية الضخمة أموالاً طائلة (من مستثمرين أجانب في أغلب الأحيان) وعقود إنشاء يتم توزيعها بين أصحاب المصلحة الأقوياء والنافذين. ويعمل بناء مدن جديدة على تشغيل المصريين ويوفر العقود لعدد من القطاعات ويسهم في النمو الاقتصادي المصري، وهي جوانب مهمة من أجل استمرارية جذب الاستثمارات الأجنبية. وسواء أنجحت مثل هذه الجهود في مواجهة التحديات الحضرية (وهي غالباً ما لا تنجح) أم لا، هناك كثيرون ممن هم جاهزون للاستفادة منها. وثمة عامل أساسي آخر وهو أن عدم الاستقرار المؤسسي والطبيعة التراتبية للهيكل المؤسسي الحكومي يجعل معارضة ممارسات السياسات القائمة عملاً صعباً على صانعي السياسات الأفراد. إذ تم، مثلاً، نقل صندوق تطوير المناطق العشوائية بين عدد من الوزارات عدة مرات، وهو الآن تابع لوزارة الإسكان، ولكن ربما لا توجد بيد الصندوق القوة أو الموارد الكافية لمعارضة التزام الوزارة ببناء مدن أو عواصم جديدة.
الآن وقد انتهى الموئل الثالث ووقّعت مصر الخطة الحضرية الجديدة، هل يقدم هذا الالتزام أية حوافز أو يخلق أي ضغط يدفع الدول على تطبيق أطر سياساتية ومبادرات حضرية تتماشى مع المبادئ التوجيهية والأولويات المنبثقة عن هذه الخطة؟ ذكرنا سابقاً أن الخطة الحضرية الجديدة اتفاقية غير ملزمة، ولكنها وثيقة سياسية ترتكز في النهاية على التبليغ الذاتي من أجل قياس مدى التقدم الوطني باتجاه تحقيق أهدفا الخطة. غير أنها تظل مع ذلك تمثل التزاماً ما. وتشترك الخطة الحضرية الجديدة أهداف التنمية المستدامة في كثير من الأولويات، وتشكل إلى جانب اتفاقية باريس بشأن التغير المناخي ركيزة أساسية من ركائز خطة عام 2030.
وقد لا تمتلك الخطة الحضرية الجديدة، بحد ذاتها، السلطة التي تخولها إلزام الدول بإجراء إصلاحات هيكلية في سياساتها الحالية، لكنها خلقت بكل تأكيد بيئة أكثر تدقيقاً لفحوى تدخلات السياسات العمرانية على كافة المستويات. ووفرت الخطة أيضاً منصة عامة يمكن من خلالها للتطور العمراني المسؤول حشد الدعم من أجل تطبيق تدخلات حضرية سليمة. وبينما تشرع الحكومات في صياغة استراتيجيات وطنية ترمي إلى تحقيق الأهداف المنصوص عليها في العمليات الدولية الرئيسية التي تؤلف خطة عام 2030 ومن ثم تطبيق تلك الاستراتيجيات، فإنها ستكرس، بلا شك، قدراً أكبر من الاهتمام لتلك الاتفاقيات التي تطبق عمليات تدقيق أقوى، كأهداف التنمية المستدامة واتفاقية باريس بشأن التغير المناخي (COP 21). وسيكون لتعزيز الروابط بين الخطة الحضرية الجديدة وغيرها من الخطط القوية سياسياً دور مهم في ضمان اكتساب جذب القضايا الحضرية الاهتمام بفعل حشد الجهود وراء أهداف التنمية المستدامة. وسوف تتطلب مساءلة الحكومات عن تعهداتها التي قطعتها بالتوقيع على واحد أو أكثر من هذه العمليات الثلاث (مصر موقعة عليها جميعاً) فهماً تفصيلياً لتدخلات التوسع العمراني السابقة والجارية حالياً من قبل الحكومة فضلاً عن جهودها على صعيد السياسات ونجاحاتها وإخفاقاتها. يعني ذلك إبقاء عين النقد مفتوحة على سياسات الحكومة والتأثيرات التي تتركها والمستفيدين منها وآليات التمويل التي تعتمدها والمؤسسات السياسية والاجتماعية المعنية بها والنتائج التي تفضي إليها هذه السياسات. وسوف يتعين على صانعي السياسات والمجتمع المدني والمواطنين والمنظمات الدولية –وأي طرف له مصلحة في التطور الحضري المستدام- جمع البيانات المحلية الموثوقة والمصنفة ونشرها من أجل تقييم الاحتياجات ومواطن القصور على صعيد تقديم الخدمات والبنية التحتية على المستوى المحلي، وتحديد السياسات الرديئة وأفضل الممارسات، وتشخيص العقبات التي تحول دون المبادرات السليمة على صعيد السياسات الحضرية حيثما وجدت. وتعمل مبادرة تضامن، على سبيل المثال، على المساعدة في صياغة ممارسات وسياسات أكثر شمولاً للجميع وأكثر إنصافاً وواقعية وابتكاراً وتشجيع مثل هذه الممارسات والسياسات وذلك من أجل تحقيق الأهداف التي تضمنتها الخطة الحضرية الجديدة وغيرها من العمليات الكبرى المتعلقة بالسياسات مثل أهداف التنمية المستدامة.
والذي يعنيه هذا بالنسبة لمصر، النظر لما هو أبعد من الاعتبارات الفنية المتعلقة بحسابات عددية من قبيل الكثافة السكانية وإجمالي الناتج المحلي، مع إمعان النظر والتفكير في المرتكزات السياسية التي استندت إليها السياسة الحضرية التي واصلت إخفاقها على مرِّ السنوات الثلاثين الماضية. ويعني هذا أن نتساءل عن سبب تخصيص الحكومة قدراً كبيراً جداً من الموارد لمبادرة من المرجح ألا تحقق الأهداف المرجوة للتطور الحضري المستدام؟ وكيف سيعمل ضخ مليارات الدولارات في عاصمة جديدة مسرفة وذات طابع مغرق في الحداثية في تلبية احتياجات أولئك الذين يسكنون في القاهرة والذين يعيش ثلثهم في بيوت محرومة من ضرورات أساسية من قبيل المياه المأمونة والصرف الصحي؟
ولكن مصر تبدو عازمة على مواصلة العمل بنموذج المشاريع الضخمة وتنمية الصحراء. لذا يتعين على المجتمع المدني والمعنيين بالتطور الحضري وكل من له مصلحة في المستقبل الحضري لمصر رصد وتحليل الأثر الحقيقي لمثل هذه السياسات والأسس السياسية التي تقوم عليها، على امتداد عملية صياغة خطط التوسع العمراني ووضع تفاصيلها الدقيقة في السنوات المقبلة. وينبغي على مبادرة تضامن وغيرها التشجيع على تبني آليات تساعد في الحد من الآثار المدمرة التي قد تتركها هذه المشاريع على جوانب من قبيل يسر تكلفة السكن وشمول الكافة على مستوى التطوير الحضري، وتشجيع السياسات الرامية إلى الحد من الاستثمارات المسكونة بروح المضاربة، والحيلولة دون ارتفاع أسعار المساكن، وإعادة استثمار المكاسب المتأتية من تطوير الأراضي في تحسين أحوال السكن الاجتماعي والمستوطنات غير الرسمية. وينبغي عليها أيضاً التشجيع على توسيع نطاق مشاريع من قبيل البرنامج الإنمائي التشاركي والضغط على الحكومة من أجل إدراج مبادرات مشابهة لهذا البرنامج ضمن أفضلياتها المؤسسية.
Al-Aees, Shaimaa. 2016. “Egypt Invests EGP 43bn in Real Estate Sector over 30 Months: Housing Minister.” Daily News Egypt, October 31, 2016. https://wwww.dailynewssegypt.com/2016/10/31/579450/.
Khalil, Amira and Yahia Shawkat. 2016. “The Built Environment Budget FY 2015/16: An Analysis of Spatial Justice in Egypt.” http://www.10tooba.org/en/?p=172.
Kirk, Mimi. 2016. “Egypt’s Government Wants Out of Its Ancient Capital.” Citylab, October 13, 2016. https://www.citylab.com/equity/2016/10/egypt-cairo-capital-city-move/503924/.
Osborne, Samuel. 2016. “Chinese Developers to Build Egypt’s New Capital City.” Independent UK, October 11, 2016. https://www.independent.co.uk/news/world/middle-east/chinese-developers-build-egypt-new-capital-city-cairo-a7355886.html.
Participatory Development Programme in Urban Areas. 2016. “GIZ supports the Egyptian Delegation Participation in The Third United Nations Conference on Housing and Sustainable Urban Development (Habitat III).” http://www.egypt-urban.net/giz-supports-the-egyptian-delegation-participation-in-the-third-united-nations-conference-on-housing-and-sustainable-urban-development-habitat-iii/
Shawkat, Yahia. 2015. “Egypt’s Deregulated Property Market: A Crisis of Affordability.” Middle East Institute. May 5, 2015. https://www.mei.edu/publications/egypts-deregulated-property-market-crisis-affordability
United Nations General Assembly. 2016. “Outcome document of the United Nations Conference on Housing and Sustainable Urban Development (Habitat III).” https://sustainabledevelopment.un.org/?page=view&nr=1411&type=13&menu=1634.
Writing top-quality essays for the best prices is what we do. We are dedicated to provide you with the best assistance and service https://seogrot.com/best-college-essay-writing-services/.
مصدر الصورة الرئيسية: Habitat3.org
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments