مع تزايد أشكال انعدام العدالة الاجتماعية والمكانية في المدن الكبرى حول العالم، بات السؤال بشأن ’لمن تنتمي المدينة؟‘ مطروحاً على نحو أقوى من أي وقت مضى (أدومايتيس، 2013). وتواصل الدولة ترحيل عائلات تسكن في مناطق غير رسمية بذريعة تنفيذ مشاريع عامة أو حماية السلامة العامة، مما يمثل إحدى القضايا الرئيسية للنزاع بين قاطني تلك المناطق وبين الدولة. وفي أعقاب الانهيار الصخري الذي وقع عام 2008 وأودى بحياة أكثر من 200 شخص من قاطني منطقة الدويقة بمنشية ناصر، وهي مستوطنة عشوائية تقع شرقي القاهرة، أنشأت الحكومة المصرية صندوق تطوير المناطق العشوائية لمعاينة أحوال رصيد المساكن في المساحات غير الرسمية وتصنيفها.
وحدد الصندوق عدداً من المنازل في منطقة إسطبل عنتر بعزبة خير الله، وهي واحدة من أكبر المستوطنات غير الرسمية في القاهرة، إضافة إلى عدد آخر من المنازل في الدويقة بوصفها منازل غير آمنة، وبالتالي قام الصندوق بنقل الأسر التي تعيش فيها إلى بيوت بديلة في مشروع مساكن عثمان، وهي منطقة حديثة تقع ضمن مدينة السادس من أكتوبر التي تعتبر من أحدث التجمعات العمرانية في مصر. بيد أن كثيراً من العائلات التي نُقلت إلى مساكن عثمان وجدت خلال أقل من سنة أن المعيشة هناك تكبدها تكاليف اقتصادية واجتماعية لا طاقة لها بها، مما دفعها إلى العودة إلى حيِّها القديم، عزبة خيرالله. وتطرح تجربة هؤلاء السكان أسئلة عديدة بشأن السياسات العمرانية التي تستند إلى الإخلاء وإعادة التوطين كوسيلة ’لتحسين‘ المناطق العشوائية: هل تعوِّض هذه السياسات السكان بشكل منصف عن التكاليف التي يتكبدونها خلال عملية الإخلاء وإعادة التوطين؟ وهل تُلبي هذه السياسات الحق في المسكن الملائم؟ والأهم من ذلك كله، هل تكون تجربة الناس، في مجملها، بعد نقلهم إلى مساكن جديدة إيجابية أم سلبية؟
لا يُعتبر ترحيل السكان ظاهرة نادرة الحدوث في مصر. ففي الفترة الواقعة بين عام 1997 وعام 2013، جرى نقل ما يزيد عن 40,000 عائلة تعيش في مناطق حضرية، وقد نُقل معظمها من مناطق واقعة داخل المدينة إلى مناطق في محيطها (شوكت 2013، كما استشهد به ثونك 2015). فإذا اعتبرنا أن متوسط عدد أفراد الأسرة المصرية يتراوح ما بين أربعة إلى ستة أفراد، فهذا يعني أن عدداً لا يُستهان به من الأشخاص – من 160,000 إلى 240,000 – مهددون في رفاه عيشهم. لا تنحصر خسائر السكان المنقولين إلى مناطق جديدة بالتكاليف الظاهرة للعيان مثل خسارة المنزل والأرض ونفقات الرحيل، بل تتعداها إلى خسارة شبكات العلاقات الاجتماعية القيّمة والأموال التي استثمروها في منازلهم ومجتمعاتهم المحلية والأنشطة الاقتصادية المجاورة لتلك المنازل والمجتمعات. تبقى هذه التكاليف غير الظاهرة محجوبة عن صانعي السياسات في أغلب الأحيان، وبالتالي يتحملها السكان المنقولون وحدهم لدرجة تضع أمام الأسر المنقولة تحديات أصعب من تلك التي كانت تواجهها قبل الانتقال من مسكنها القديم. لذلك قد يقع عدد كبير جداً من المستفيدين، للأسف، ضحية لسياسات نقل السكان.
أجرت مبادرة تضامن مقابلات مفصّلة مع ثماني عائلات عادت إلى عزبة خيرالله بعد أن كانت قد نُقلت إلى مساكن عثمان. وعلى الرغم من قلة عدد المقابلات إلا أنها دلت على وجود تجارب مشتركة تنطبق على أسر كثيرة، وقد سمع فريق الباحثين التابع لمبادرة تضامن من كثيرين آخرين ممن مروا بظروف مماثلة. سنعمل من خلال هذه الإحاطة المتعلقة بالسياسات على: (1) تقديم لمحة مختصرة عن سياسات إعادة التوطين العمراني في مصر والممارسات المعمول بها على هذا الصعيد، (2) معاينة النُهُج القائمة في مجال تقدير التكاليف المرتبطة بإجلاء السكان ونقلهم إلى موقع آخر، (3) الاستفادة من النتائج التي تم استخلاصها من المقابلات لبيان الطيف الكامل للتكاليف التي تكبدها السكان من جراء سياسات الإجلاء والنقل إلى مساكن جديدة. تتمثل الغاية من هذه الإحاطة في وضع التجارب التي مرَّ بها هؤلاء الذين تم ترحيلهم من عزبة خيرالله إلى مساكن عثمان في سياقها الصحيح ضمن الإطار الخاص بالحق في السكن الملائم وتوضيح جميع الطرق (وهي كثيرة) التي تترك فيها سياسات النقل أثراً سلبياً على حياة السكان المرحّلين.
طبّقت الحكومة المصرية مبدأين في سياساتها العمرانية سعياً إلى مأسسة الإخلاء وإعادة التوطين كإجراء عام للتعامل مع المناطق العشوائية: يتمثل المبدأ الأول في اعتبار المناطق غير الرسمية على أنها مشكلة يجب الحد منها أو إزالتها، والثاني هو وجوب توجيه النمو العمراني نحو مناطق الصحراء وبعيداً عن المدن القائمة والأرض الزراعية (تضامن، 2015). ورغم أن الأرقام الدقيقة ليست معروفة، يُقدر أن نصف سكان المناطق الحضرية في مصر، أي نحو 16 مليون شخص على مستوى البلد بأكمله، يعيشون في مستوطنات غير رسمية من قبيل عزبة خيرالله. بل إن مقارنة بيانات التعداد السكاني لعامي 1996 و2006 ترفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في مناطق غير رسمية في القاهرة وحدها إلى 67 بالمائة (سيمز، 2012). وعلى الرغم من هذا الانتشار، تعاني المناطق غير الرسمية من نقص التمويل وسوء مستوى الخدمات العامة المقدمة فضلاً عن التهميش الذي يعاني منه قاطنوها. لا تقر النُهُج الحكومية في تعاملها مع المناطق غير الرسمية على أنها السمة الغالبة على المدن المصرية، وهذا هو الواقع، بل كمساحات تقع على المحيط الخارجي للمدن والمجتمع وتناصبهما العداء. وبناء عليه، تميل السياسات العمرانية إلى تحبيذ إعادة التوطين في مدن جديدة على الارتقاء بأحوال الأبنية والبنى التحتية القائمة في المناطق غير الرسمية وتحسينها.
تقوم الحكومة، في العموم، بتوصيف إعادة التوطين من منظور الصحة والسلامة العامة، كما في حالة عزبة عنتر، حيث تم المضي في الإجلاء القسري للسكان باسم المخاطر البيئية. ويستخدم صندوق تطوير المناطق العشوائية أربع درجات لتصنيف سلامة المناطق غير الرسمية وفقاً لدرجة إلحاح التدخل.
ولكن في أغلب الأحيان، تختلف إجراءات الصندوق الموضوعة عن الممارسة الفعلية على أرض الواقع. فنظام التصنيف المعمول به من الصندوق يتطلب من الحكومة إعطاء الأولوية في إعادة التوطين إلى السكان المعرضة سلامتهم للخطر الأكبر. ومع ذلك، قام الصندوق في بعض المناطق بإخلاء السكان الذين يعيشون في مناطق تصنيفها من الفئة 2 “سوء جودة السكن” قبل إخلاء سكان يعيشون في منطقة تصنيفها من الفئة 1 “مناطق تشكل خطراً على الحياة” (تضامن، 2015). بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تُستهدف بالإخلاء أو إعادة التوطين أو إعادة الإسكان المناطق الواقعة على أراض عالية القيمة، وذلك أكثر من المناطق الواقعة على أراضٍ أقل قيمة، وبصرف النظر عن درجة تصنيف السلامة. لذا نرى أن منطقتي ماسبيرو وبولاق القريبتين من وسط البلد في القاهرة ظلتا مستهدفتين لمدة سنوات عديدة بمشاريع كبرى لإعادة تطويرهما (تضامن، 2015). وغالباً ما تكون الرغبة في تجميل المدينة أو اجتذاب الاستثمارات أو الاستفادة من إخلاء الأراضي عالية القيمة هو ما تستند إليه قرارات الحكومة بشأن تحديد المناطق الواجب إعادة توطين سكانها وموعد القيام بذلك، وليس واجب حماية السكان وتحسين أحوالهم.
دشنت الحكومة في سبعينيات القرن الماضي سياسة المجتمعات العمرانية الجديدة في محاولة لإعادة توزيع السكان بعيداً عن المناطق العمرانية القائمة الواقعة على الشريط الضيق المحاذي لوادي النيل، وتأمين السكن للفئات منخفضة الدخل كبديل عن المناطق غير الرسمية، والتخفيف من حدة بعض المشكلات التي تواجهها المناطق العمرانية في مصر. وفي الوقت الذي يمكن للمدن الجديدة أن توفر فيه رصيداً من المساكن أجود من تلك الكائنة في المناطق غير الرسمية، تبقى مساوئ هذه المدن الجديدة أكثر من حسناتها. ففي معظم الأحيان، تخفق المجتمعات العمرانية الجديدة في مصر في توفير السكن الذي يفي بالمعايير الأساسية للسكن الملائم؛ فهي واقعة في ضواحي المدن بعيداً عن فرص العمل والمراكز التجارية مع ضعف إمكانية الوصول إلى المرافق الأساسية والخدمات العامة والمواصلات. ونظراً للمشقات طويلة الأمد التي يفرضها نقل السكان إلى مدن جديدة، فشلت سياسة المجتمعات العمرانية الجديدة إلى حد كبير في تحقيق الهدف المنشود منها. وبالتالي، تواصل المناطق غير الرسمية في المناطق العمرانية القائمة نموها لأن قاطنيها يجدون أن هذا النوع من السكن يلبي احتياجاتهم أكثر من الانتقال إلى مدن جديدة في الصحراء. وفي الوقت الحاضر، شيدت الحكومة 23 مجتمعاً عمرانياً جديداً في شتى أنحاء مصر وتعتزم بناء خمسة مجتمعات جديدة (تضامن، 2015)، ولكن أخفقت معظم هذه المناطق في اجتذاب عدد السكان المنشود.
من العوامل الرئيسية المؤثرة في عدم فاعلية سياسات الإخلاء وإعادة التوطين المعمول بها في مصر عدم أخذها بعين الاعتبار النطاق الكامل للخسائر التي يتكبدها السكان المنقولون خلال عملية الإخلاء والرحيل إلى الموقع الجديد، إضافة إلى التكاليف التي يتكبدونها على المدى الطويل في معرِض التأقلم مع الحياة في الأماكن التي نقلوا إليها. ربما كانت مصفوفة انتهاكات حقوق الأرض والسكن، التي وضعتها شبكة حقوق الأرض والسكن التابعة للتحالف الدولي للموئل سنة 2005 (في إطار صياغة منهجية عامة لمجموعة أدواتها المتعلقة برصد حقوق الأرض والسكن)، هي النهج الأكثر شمولاً في تقدير النطاق الكامل للتكاليف المُتكبدة جراء الإخلاء والنقل. يستند هذا النهج استناداً تاماً إلى إطار قائم على حقوق الإنسان، وبصفة خاصة على الحق في السكن الملائم، ويأخذ في حسبانه طيفاً واسعاً من التكاليف المباشرة وغير المباشرة والحالية وطويلة الأمد التي قد تنتُج عن كل مرحلة من مراحل العملية. وتشتمل التكاليف على قيمة الأصول في المجتمع المحلي السابق (قبل الإخلاء) والتكاليف التي تحدث حال نشوء خطر الإخلاء والتكاليف المُتكبدة أثناء عملية الإخلاء ومن ثم تلك الناشئة بعد الإخلاء. ومن أبرز نقاط قوة هذا النهج أخذه في الحسبان التكاليف المادية وغير المادية على حد سواء. فبالنسبة للتكاليف القابلة للقياس، كقيمة الأرض أو الدخل الضائع، يُسجل في المصفوفة قيمتها الاقتصادية المحددة. أما بالنسبة للخسائر غير القابلة للحساب، من قبيل خسارة الشبكة الاجتماعية التي أقامها المرء أو إضعافها، تُسجَّل الخسارة في المصفوفة بصيغة نصية. وبالتالي، تشمل البنود المندرجة ضمن عملية حساب التكاليف هذه قيمة الأصول الاقتصادية التي تملكها الجماعات التي يتم ترحيلها، بما في ذلك المنازل ومخزون المواد والدواجن والحيوانات والأرض والمنافع المبنية وما إلى ذلك، قبل الترحيل وبعده، والأصول الاجتماعية التي أُسست في المجتمع الجديد والتي يتم تأسيها في المجتمع الجديد، بالإضافة إلى تكاليف عملية الإخلاء بحد ذاتها مضافة إلى الزيادة في تكلفة المعيشة التي تتحملها الجماعات بعد ترحيلها. وفيما يلي العناصر الأساسية لمصفوفة الخسائر المترتبة على انتهاك حقوق السكن:
تقوم مصفوفة شبكة حقوق الأرض والسكن بتقدير أكثر من 250 بنداً مختلفاً تمثل تكاليف وخسائر مرتبطة بالإجلاء والنقل. وفيما يلي بعض من البنود الرئيسية للخسائر المادية وغير المادية المشمولة بالمصفوفة، علماً بأن تقديم لمحة شاملة عن كل بند من هذه التكاليف لا يقع ضمن نطاق اختصاص هذه الإحاطة:
الخسائر المادية
الخسائر غير المادية
عند دراسة تكاليف ترحيل سكان عزبة خيرالله إلى مساكن عثمان مع الرجوع إلى أنواع التكاليف المحددة في المصفوفة سيتضح لنا جيداً النطاق الكامل للخسائر التي تكبدها هؤلاء السكان، وبصورة أعم، ستتضح لنا ملامح فشل السياسات المصرية المتعلقة بالإخلاء وإعادة التوطين.
قبل أربعين سنة، كانت المنطقة الواقعة شمال المعادي والمعروفة حالياً باسم عزبة خيرالله هضبة صخرية جرداء. وفي أوساط السبعينيات من القرن الماضي، أقام الفقراء المهاجرون من مدن الدلتا والصعيد فوق هذه الأرض الخلاء حتى من الطرق والبنى التحتية والخدمات. وكان المهاجرون قد جاءوا إلى القاهرة بحثاً عن عمل لكن ليس لديهم القدرة على شراء مسكن في المدينة أو استئجاره، فعمدوا إلى بناء منازلهم من الحجارة المتوفرة في الموقع (تضامن 2016-ب). واليوم أصبحت عزبة خيرالله واحدة من أكبر المناطق غير الرسمية في القاهرة إذ يُقدر عدد سكانها بنحو 650,000 نسمة (تضامن، 2013). ونظراً لكون العزبة واقعة على مرتفع صخري قريب من مركز المدينة ومطلّ على قلعة صلاح الدين والأهرامات وحتى على النيل من ناحية حدودها الغربية، فإن موقعها يعدُّ ممتازاً وبالتالي قيمة أرضها عالية. وتوفر هذه المنطقة لقاطنيها فرصاً اقتصادية متعددة ومستوى عالٍ من التماسك الاجتماعي وإمكانية ممتازة لاستخدام وسائل المواصلات. وعلى الرغم من سوء مستوى الخدمات العامة فيها ظلت عزبة خيرالله مجتمعاً متكاملاً تتوفر فيه معظم الخدمات الأساسية بفضل الجهود التعاونية للسكان والنضال على الصعيدين البيروقراطي والقضائي (تضامن، 2013).
عقب الانهيار الصخري الذي وقع في قسم الدويقة، قرر صندوق تطوير المناطق العشوائية اعتبار عددٍ من المنازل الواقعة على أطراف المرتفع الصخري غير آمنة للسكن. وبالتالي بدأت الحكومة في عملية إجلاء السكان ونقلهم إلى مبانٍ سكنية بديلة في مساكن عثمان. وكان المشروع القومي للإسكان قد بدأ بأعمال الإنشاء في مساكن عثمان عام 2005 لتوفير المسكن للعائلات محدودة الدخل. والاسم الرسمي لهذه المنطقة هو “الأولى بالرعاية” غير أنه شاعت الإشارة إليها باسم إحدى الشركات التي تعاقدت على بناء الوحدات السكنية فيها –وهي شركة عثمان أحمد عثمان (أصبح اسمها الآن شركة المقاولون العرب). تقع مساكن عثمان على أرض صحراوية نائية على مسافة 40 كيلومتراً من عزبة خيرالله ذات الموقع المركزي، وكثيراً ما توصف بأنها “مدينة أشباح”، كما هو الحال مع كثير من المجتمعات العمرانية الجديدة في مصر، بسبب بقاء عدد كبير جداً من مساكنها فارغاً (تضامن،2016-ب).
وبرز عدد من المشكلات أثناء عملية نقل السكان. إذ رفض بعضهم أمر الإخلاء، ونظراً لغياب الدقة في حفظ السجلات من طرف الصندوق استطاع البعض إساءة استخدام النظام. ونتيجة لذلك، انتهى المطاف بالحكومة إلى توفير المسكن لبعض السكان الذين لم يكن من المراد إجلاؤهم عن عزبة خيرالله ولم تستطع بالمقابل تزويد المسكن لبعضهم الآخر من الذين أُخلوا منها بالفعل. وبالرغم من هذه القضايا تابع الصندوق العمل في الإخلاء وإعادة التوطين سنة 2013.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2015، أظهرت المقابلات التي أجرتها مبادرة تضامن مختلف الطرق التي أدت بها إعادة التوطين القسرية في مدن جديدة إلى إثقال كاهل السكان الذين تم نقلهم بأعباء كبيرة كانت في أغلب الأحيان كفيلة بجعل حياتهم في موقع الجديد غير ممكنة. وفي الوقت الذي شكل فيه الرحيل إلى مساكن عثمان حلاً فورياً للخروج من الظرف الخطير الذي هدد منازلهم في عزبة خيرالله، إلا أنه فرض عليهم تكاليف إضافية غير مباشرة على المدى الطويل فكانت تكلفتها عليهم في النهاية ثقيلة جداً لدرجة أن بعضهم عاد إلى حيِّه السابق. وفي بعض الحالات، كانت الحكومة قد أزالت بالفعل منازل بعض العائدين الأصلية مما اضطرهم للبحث عن مكان جديد للعيش. وتشتمل التكاليف المباشرة وغير المباشرة والمادي وغير المادية التي تكبدها السكان من جراء إجلائهم ونقلهم إلى موقع جديد على ما يلي:
التكاليف المباشرة
المنازل: لم يتلقَ أي من السكان الذين تمت مقابلتهم أية تعويض نقدي عن منزله القديم (سواء أكانوا مالكين أم مستأجرين). وفي بعض الحالات، أزالت الحكومة المنازل القديمة مما نتج عنه خسارة الاستثمار الذي وضعوه في منازلهم دون تعويضهم عنها. وعندما عادت عائلات إلى عزبة خيرالله، لم يتمكن معظمها من العودة إلى بيوتها القديمة لأنها لا زالت على قائمة الإزالة في محافظة القاهرة. وكان عدد كبير من الذين قابلتهم مبادرة تضامن يملكون منازل بنوها بأنفسهم لكنهم أُجبروا على التحول إلى مستأجرين عند عودتهم إلى عزبة خيرالله. وعلى سبيل المثال، هناك امرأة كانت تعيش في بيت من طابقين قبل الإخلاء ثم اُضطرت إلى استئجار دار من غرفة واحدة لها ولأسرتها والاشتراك في الحمام مع عائلات أخرى بعد العودة من مساكن عثمان. ويُظهر هذا التدهور في الظروف المعيشية لهذه السيدة ليس فقط أهمية الرصيد المتوفر من مختلف أنواع المساكن وحجمها وقيمتها، بل أيضاً أهمية المنافع المرتبطة بها والصعوبات الاجتماعية التي ينطوي عليها سوء أوضاع السكن.
الرحيل: بالإضافة إلى عدم تلقي كل الذين قابلناهم أي تعويض عن منازلهم القديمة، قالوا جميعاً إنه توجَّب عليهم دفع مبلغ 200-250 جنيه (وهو مبلغ يُعتبر كبيراً بالنسبة لبعضهم) مقابل ترحيل مقتنياتهم من عزبة خيرالله إلى مساكن عثمان.
المسكن البديل: توجب على من قابلناهم دفع مبلغ 500 جنيه كقسط أول مقابل العيش في شققهم في مساكن عثمان، بالإضافة إلى دفعات شهرية تتراوح من 126 جنيه إلى 150 جنيه. ولم يكن الأجرة الشهرية مختلفة كثيراً عما كان يدفعه السكان في عزبة خيرالله.
التكاليف غير المباشرة
الدخل: ذكرت جميع العائلات التي قابلناها أن دخلها انخفض بأكثر من النصف لدى نقلها من عزبة خيرالله إلى مساكن عثمان. ويعمل معظم أرباب الأسر الذين تمت مقابلتهم كعمال مياومة أو في قطاعات غير رسمية وبالتالي كانت قدرتهم على تحقيق الدخل تعتمد اعتماداً كبيراً على الموقع. فعندما تم نقل هذه العائلات إلى مساكن عثمان، فقد معظم كاسبي القوت الأساسيين من أفرادها أعمالهم أو اضطروا للسفر يومياً إلى عزبة خيرالله. وحتى بعد العودة إلى عزبة خيرالله من جديد، وجد كثير من هؤلاء صعوبة في استعادة عملهم كنجارين أو عمال مياومة أو باعة متجولين.
رداءة مستوى الخدمات العامة: على الرغم من حداثة عهد هذا المشروع الإسكاني، كان تجهيزه أسوأ من أن يلبي الاحتياجات اليومية للسكان وكانت بنيته التحتية كثيرة المشاكل ومستوى جودتها متدنٍ وصيانتها ضعيفة. وعانت بعض العائلات من عدم الثقة في إمدادات المياه وسوء خدمة الصرف الصحي. واضطر السكان إلى شراء المياه بتكلفة 5-6 جنيهات يومياً بسبب عدم الثقة في المياه الواصلة إلى المنازل. إضافة إلى ذلك، كان يتعين عليهم دفع قسط أسبوعي لصيانة شبكة الصرف الصحي. أما خدمات الصحة العامة فكانت بالكاد تتوفر في مساكن عثمان. وقال أشخاص ممن يعانون من مشكلات صحية مزمنة إنهم كانوا مضطرين للسفر إلى مناطق قريبة من بيوتهم القديمة في عزبة خيرالله للحصول على الرعاية الصحية.
تكاليف المأكل: أتاحت مساكن عثمان لساكنيها خيارات قليلة على صعيد شراء الأغذية مقارنة بعزبة خيرالله. إذ قالت العائلات التي تمت مقابلتها إن تكاليف المأكل الشهرية الخاصة بها تضاعفت بعد انتقالها إلى مساكن عثمان وإن هذه العائلات كانت تضطر للسفر إلى أماكن أخرى لشراء المواد الغذائية بسبب محدوديتها في مساكن عثمان. وبالتالي، يتكبد السكان مصاريف تنقل عالية تضاف إلى أسعار الأغذية العالية أصلاً.
المواصلات: قال جميع الذين تمت مقابلتهم إنهم يعانون من زيادة هائلة في تكاليف المواصلات بعد انتقالهم إلى مساكن عثمان؛ إذ صعدت تكاليف المواصلات من 2-4 جنيهات للشخص الواحد يومياً إلى أكثر من 10 جنيهات لكل رحلة مما تسبب في عبء مالي إضافي بالنسبة للذين يسافرون يومياً إلى عزبة خيرالله للعمل.
الطيور والدواجن: كان كثير من الذين قابلتهم مبادرة تضامن يربون دواجن في بيوتهم القديمة، كالوز والبط، وبالتالي كانوا يعتمدون عليها كدخل إضافي عند تعرضهم لأزمة مالية أو عند نقص المواد الغذائية. ولم تكن المساكن البديلة في مساكن عثمان ملائمة لتربية الدواجن فخسر هؤلاء دواجنهم وخسروا الدخل الذي يمكنها أن تنتجه عوضاً عن خسارتهم لمصدر غذائي مهم غني بالبروتينات بعد انتقالهم إلى مساكنهم الجديدة.
التكاليف غير المادية
الشبكات الاجتماعية القائمة: ذكرت معظم العائلات التي تمت مقابلتها إنها كانت تعتمد في عزبة خيرالله على جمعيات الادخار الجماعية (الجمعيات) واقتراض المال من الجيران القريبين والأقرباء في حالات الطوارئ. أما في مساكن عثمان، وبعد أن تم انتزاع هؤلاء الأشخاص من بين أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم أصبح ذلك غير ممكن لأنهم لا يشعرون بنفس المستوى من الثقة تجاه جيرانهم الجدد سيما وأن الثقة هي ما تعتمد عليه أنشطة الادخار وطرق الاقتراض غير الرسمية.
تمثل العائلات الثماني التي قابلتها مبادرة تضامن عينة صغيرة الحجم من العائلات التي تأثرت بالإجلاء وإعادة التوطين في مصر. ومع ذلك تظل تجربتها والتكاليف التي حددتها تمثل الخسائر التي تتسبب بها السياسات على الناس الذين تسعى هذه السياسات نفسها إلى تحقيق الفائدة لهم. وكما هي الحال بالنسبة لعزبة خيرالله، تشكل المجتمعات المحلية المقرر إخلاؤها وإعادة توطين سكانها موطناً لبعض أشد مواطني المدن المصرية فقراً. ويكون مثل هؤلاء المواطنين قابلين بصفة استثنائية لتكبُّد العديد من التكاليف التي يتحملها عموماً أبناء الجماعات المعاد توطينها. وتشكل الشبكات الاجتماعية، بوجه خاص، “أداة مهمة للبقاء بالنسبة لفقراء المدن الذين يتوجب عليهم دوماً [التغلب على] … التذبذبات وحالة انعدام اليقين” (إيفيرت، 2001: 456؛ كما استشهد به ثونك، 2015). وهكذا فإن ترحيل سكان المناطق غير الرسمية عن أحيائهم وعن مختلف مصادر الدعم الاجتماعي المتاح لهم قد تكون له آثار مدمرة على قدرتهم على الاحتفاظ بمستوى لائق لنوعية الحياة.
تجسِّد عزبة خيرالله إرثاً طويلاً لمواطنين يعملون سوية من أجل النهوض بأحيائهم ومحاربة إهمال الدولة لهم والدفاع عن حقهم في المدينة (تضامن، 2013). ونتيجة لذلك، أتاح المستوى العالي من التماسك الاجتماعي والثقة المتبادلة للسكان الاعتماد على الشبكات الاجتماعية في الأوقات الصعبة، وذلك من خلال الادخار الجماعي والاقتراض على سبيل المثال. لقد أدى انتزاع المواطنين من بيوتهم في اسطبل عنتر ونقلهم إلى مساكن عثمان إلى حرمانهم من جوانب تفوق مجرد قيمة منازلهم – فقد توجب عليهم دفع أثمان متعددة لا تظهر بالوضوح نفسه ويتعذر قياسها.
وطالما اعتمدت السياسات العمرانية للحكومة المصرية على الإخلاء وإعادة التوطين كوسيلة لحل المشكلات التي تواجهها المناطق غير الرسمية، سيعاني سكان هذه المناطق وستفشل السياسات العمرانية. ومن شأن نهج حكومي يعتمد بدلاً من ذلك على الارتقاء بمستوى المناطق غير الرسمية أن يوفر إمكانية تحسين المناطق السكنية مع تحميل السكان الحد الأدنى من التكاليف والتمزق الاجتماعي والمادي. يشير تعبير الارتقاء، أو التنمية في المكان الأصلي، إلى إحداث تحسن تدريجي في المباني والبنى التحتية القائمة دون إزالة المنازل أو تمزيق النسيج العمراني أو تهجير السكان (ديل ميسترو و هنشير، 2009). وكانت الحكومة المصرية قد رصدت ميزانية قيمتها 33.2 بليون جنيه مصري لاستثمارات هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في المدن الجديدة عن السنة 2015/2016. وللمقارنة، بلغت ميزانية وزارة الدولة للتطوير الحضري والعشوائيات (وهي وزارة ما عادت موجودة) لنفس السنة 0.6 بليون جنيه. وهذا التباين الهائل يسلط الضوء على الثغرة في الإنفاق على المدن الجديدة مقابل الارتقاء بالمساكن والخدمات في المناطق العمرانية القائمة.
وبدلاً من الاستمرار في السياسة المرهِقة المتمثلة في نقل السكان إلى مدن جيدة بعيدة وناقصة الخدمات، تعكف مبادرة تضامن على إجراء بحث حول التكاليف المتوقعة المرتبطة والعائدات الاجتماعية لسيناريو بديل عن هذه السياسة: أي الاستثمار في تنمية المكان الأصلي بعزبة خيرالله على نحو متزايد وبمشاركة السكان المحليين. وكما هو شأن جميع السياسات العامة، من الأهمية بمكان تحليل التكاليف العامة والخاصة المترتبة على التخفيف من آثار مشكلات رصيد المساكن غير الآمنة أو المتدهورة والخدمات السيئة في عزبة خيرالله، وذلك على نحو واقعي ومفصّل. ثمة معلومات عامة كافية وتحليلات حديثة تبرهن على أن النقل القسري للسكان وبناء المزيد من المدن الجديدة قد لا يزيد عن كونه حلاً وهمياً وغير فعال أهدر قدراً هائلاً من الموارد العامة وفاقم من صعوبة التحديات الكبيرة التي يجسدها السكن والخدمات العامة غير المناسبيّن، بدلاً من تحسين شروطها. ونحن على قناعة بأن الدارسات المقبلة التي ستجريها مبادرة تضامن ستميط اللثام عن استراتيجيات أكثر اقتصادية وأقل تمزيقاً للعرى الاجتماعية على صعيد التنمية في المكان الأصلي، على المديين القصير والطويل، من أجل تحسين مستوى معيشة السكان ومواجهة التحديات العمرانية في كثير من مناطق القاهرة. فتابعونا.
دو بليسيس، جين. 2011. ”أن تخسر منزلك: تقييم تأثير الإخلاء من المنزل.“ مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية.
إيفيرت، مارغريت. 2001. ”الإخلاء من المنزل وحقوق الإنسان: النزاعات على الأراضي في بوغوتا، كولومبيا.“ المنظمة الدولية لموئل من أجل البشرية، 453-471. doi:10.1016/s0197-3975(01)00015-7.
التحالف الدولي للموئل. 2005. ”شبكة حقوق الأرض والسكن. مصفوفة خسائر انتهاكات الحق في السكن.“ [بيانات]. http://www.hlrn.org/spage.php?id=p2s#.XfFLPpNKjOR
.شوكت، يحيى. 2013.”إعادة التوطين والتطوير العمراني في مصر: 1997 حتى 2013.“ بالرجوع إليه من
http://blog.shadowministryofhousing.org/2013/10/1997-2013.html
سيمز، ديفيد. 2012. فهم القاهرة: منطق مدينة خارجة عن السيطرة. القاهرة، مصر. مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
تضامن. 2016-أ. ” سياسة المدن الجديدة في مصر: أثر متواضع وعدالة غائبة.“ مبادرة التضامن العمراني في القاهرة.6 مايو 2016. بالرجوع إليه من https://bit.ly/2EK5tWF
تضامن. 2016-ب. ” مساكن عثمان.“ مبادرة التضامن العمراني في القاهرة. 5 مايو 2016. بالرجوع إليه من http://www.tadamun.co/?post_type=city&p=7626#.XcsKLpJKjjA
تضامن. 2015. ” جهود دون التوقعات: مقاربات الحكومة في التعامل مع المناطق العشوائية.“ مبادرة التضامن العمراني في القاهرة. 22 يناير 2015. بالرجوع إليه منhttp://www.tadamun.co/approaches-to-urban-development/#.XcsJIJJKjjB
تضامن. 2013. ”عزبة خير الله والصراع على الأرض: ضمان حيازة الأرض.“ مبادرة التضامن العمراني في القاهرة. 25 ديسمبر 2015. بالرجوع إليه منhttp://www.tadamun.co/?post_type=initiative&p=2738#.XfPZs5NKjs0
ثونك، فريدريك. 2015. ”إعادة التفكير بنقل السكان في سياق المناطق غير الرسمية: تحليل نقدي للعمليات ونوعية الحياة: حالة اسطبل عنتر.“ أطروحة ماجستير في التطور العمراني المتكامل والتصميم المستدام. جامعة عين شمس وجامعة شتوتغارت.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments