بدأ تنفيذ برنامج إعادة تأهيل المباني السكنية في حي الدرب الأحمر عام 2000 من قبل صندوق الآغا خان للثقافة[1] بالتعاون مع الحكومة المحلية ووكالات مانحة دولية، في محاولة ترمي إلى استكمال الجهد الذي تحقق بإنجاز مشروع حديقة الأزهر عام 2004 على الجانب الشرقي من المدينة الأيوبية التي شُيدت في القرن الثاني عشر الميلادي، أو ما يُعرف بالقاهرة التاريخية.[2] وقد اعتَبرت السلطات الحكومية والمنظمات الدولية برنامج إعادة التأهيل هذا بوصفه من بين أفضل الممارسات؛ إذ أطلق مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية هذه الصفة على المشروع في عام 2008. كما يعتبره المهنيون وقاطنو المنطقة مشروعاً للنهضة العمرانية نجح في إيقاف التدهور المتواصل سواء على صعيد انسحاب الاستثمارات من الحي أو على صعيد أوضاع هذا الحي – وهو واحد من أفقر أحياء القاهرة – مع الحفاظ على نسيجه العمراني ومنع إجلاء سكانه. وبذلك يمثل المشروع خطوة باتجاه الابتعاد عن النُهُج التقليدية التي تركز على الحفاظ على المعالم التاريخية في مصر والتوجه نحو نهجٍ يأخذ في اعتباره الحفاظ على المنطقة ككل.
يدمج هذا المقال بين الأدبيات المنشورة ووثائق داخلية ولقاءات أُجريت مع مهندسين معماريين شاركوا في العمل بهذا المشروع، وهو يسعى إلى تقديم رؤية داخلية مطّلعة فيما يتعلق ببرنامج إعادة تأهيل المباني السكنية، رؤية لا تركز فقط على نتائج هذا العمل، بل أيضاً على التحديات والثغرات التي برزت على امتداد عملية التنفيذ.
قبل أقل من قرنين من الزمان كان حي الدرب الأحمر واحداً من أكثر أحياء القاهرة ثراءً. وقد اشتُهر، ولا زال، بالمعالم الإسلامية التي تزخر بها أنحاؤه.[3] وعندما بدأ تنفيذ برنامج إعادة تأهيل المباني السكنية في هذا القسم التاريخي الذي لا تتعدى مساحته 1.2 كيلومتراً مربعاً، كان قاطنوه البالغ عددهم 100,000 نسمة من بين الفئات الأشد فقراً في المدينة، حيث هبطت مستويات متوسط الدخل إلى ما دون 500 جنيه مصري شهرياً عام 2005 وفقاً لاستقصاء أجراه صندوق الآغا خان للثقافة. وكانت المنطقة تعاني من قصور في الصيانة والبنية الأساسية، هذا بالإضافة إلى تدهور شديد في المعالم الأثرية للمنطقة ورصيدها من المساكن.
كشفت دراسة مسحية مرجعية لمنطقة الدرب الأحمر جرت عام 2003 أن ما معدله 22% في المئة من الوحدات السكنية غير مجهز بمراحيض خاصة مما يضطر قاطنيها لاستخدام دورات مياه عامة مشتركة. علاوة على ذلك، كانت المطابخ في 51% من المنازل محرومة من وجود مصدر دائم للمياه، فيما احتوى 32% من المساكن على غرف تفتقر للتهوية. واشتكى ما يزيد عن ثلث السكان (39%)، ممن شملتهم هذه الدراسة، من مشكلات ذات صلة بالصحة كضعف البصر والروماتزم والأمراض الصدرية. إضافة إلى ذلك، أبلغ بعض السكان عن خشيتهم من انهيار المبنى الذي يقيمون فيه – حيث اشتكى 27% من سكان المنطقة من “تدهور الحالة الإنشائية” للبناء (شهيب، 2003).
وكانت الظروف المعيشية في هذا الحي تتدهور بشكل مضطرد نظراً لرحيل الكثير من ساكنيه عنه، الأمر الذي أسهم في خسارة المجتمع لأصول اجتماعية واقتصادية قيِّمة. وتُعزى هذه الخسارة خطئاً في أغلب الأحيان إلى زلزال عام 1992، لكن الحقيقة أن الدرب الأحمر كان قد فقد ما نسبته 50% من سكانه قبل ذلك في الفترة الواقعة بين أواسط السبعينيات إلى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي وفقاً للتعداد السكاني الوطني.
هناك العديد من العوامل التي تقف وراء سوء الحال في الدرب الأحمر. أول هذه العوامل استمرار فرض قيود على التخطيط عفا عليها الزمن. وقد لعب الإطار المؤسسي للإدارة العمرانية دوراً في الظروف العاثرة التي تعاني منها منطقة الدرب الأحمر، شأنها في ذلك شأن كثير من المناطق التي استمرت أوضاعها في التدهور في قلب المدينة. وهذا لا يقتصر على قدرة السكان وحدهم على الاستثمار في الإسكان في المنطقة، بل على استثمارات السلطات المحلية أيضاً. لقد تجاهل المخطط العام للقاهرة لعام 1973 النسيج التاريخي لهذه المنطقة حيث كان من المقرر أن تخترق طرق سريعة رئيسية منطقة الدرب الأحمر ، وكان من المقترح بموجب هذه العملية هدم بعض المعالم التاريخية المسجلة رسمياً، وهذا يتناقض بوضوح مع المواثيق الدولية لصون المدن التاريخية (مثل ميثاق واشنطن لعام 1973 وميثاق بورا الأسترالي لعام 1999، الصادرين عن المجلس الدولي للمعالم والمواقع الأثرية) التي وضعت المبادئ التوجيهية المتعلقة بالعلاقة بين صون المعالم التاريخية والفضاء العام والحفاظ على النسيج العمراني المحيط بتلك المعالم، ومواجهة التحديات التي تعترض سبيل خطط صون المواقع الكائنة في مناطق حضرية شديدة الكثافة السكانية، كما هي حال المواقع في مصر. واستند المخطط العام لسنة 1973، على نحو لا يخلو من التناقض، إلى أنظمة وضعها المجلس الأعلى للآثار الذي أُنشأ بهدف حماية المعالم الأثرية. فبموجب هذه الأنظمة، يجب إحاطة المعالم القائمة بمنطقة عازلة تُمنع فيها كافة أنواع الإنشاءات أو التطوير. وبالتالي، سُمح للنسيج العمراني المحيط بهذه المعالم بالاندثار تاركاً وراءه حيزاً خالياً يُفترض فيه أن يحمي المعالم الأثرية. وكان من شأن التنفيذ الكامل لهذا المخطط، لو حدث، أن يؤدي إلى تدمير مساحات كبيرة من النسيج العمراني للدرب الأحمر بغية “الحفاظ” على السور الأيوبي المجاور لها. ولكن لحسن الحظ، لم يتم تنفيذ هذه المخطط مطلقاً، لكنه مع ذلك تسبب في تدهور متواصل على صعيد سحب الاستثمارات وعلى صعيد حالة المنطقة بسبب منع سكانها من البناء أو إعادة بناء منازلهم فيها (إبراهيم، 2011).
ثانياً، كان 78 في المئة من اتفاقيات تأجير الوحدات السكنية في الحي خاضع لقانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن، الذي تُدفع بموجبه إيجارات زهيدة –غالباً أقل من 10 جنيهات مصرية في الشهر (شهيب، 2003). ونتيجة لذلك، كانت حجم الاستفادة المالية للملاكين من عقاراتهم محدوداً، مما قلل الحافز لإجراء الصيانة المطلوبة. في واقع الأمر، ونظراً لانخفاض قيمة الإيجارات، كان من الأجدى للمالك مالياً أن ينهار البناء ومن ثم تُباع الأرض. ومن ناحية أخرى، لم يقم كثير من المستأجرين والمالكين بإجراء الصيانة اللازمة بسبب القيود المالية. لقد حال تدني دخل معظم قاطني الحي (سواء أكانوا مستأجرين أم مؤجرين) دون استفادتهم من أنظمة الإقراض التقليدية بغية إصلاح وحداتهم السكنية ومبانيهم وصيانتها. وأظهرت نتائج الدراسة المسحية المرجعية التي أُجريت عام 2003 أن مستوى متوسط الدخل في حي الدرب الأحمر كان أقل من المتوسط الوطني بنحو 17 مرة تقريباً (شهيب، 2003).
لقد تبلور إدراك منذ البداية أنه لا يمكن فصل مشروع حديقة الأزهر عن المبادرات التنموية الأخرى في مجتمع الدرب الأحمر المجاور لها، من قبيل المشاريع الاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب إعادة تأهيل عدد من المعالم والأبنية التاريخية. وبالتالي، كان برنامج إعادة تأهيل المباني السكنية واحداً من خمسة برامج (هي تحديداً، إعادة تأهيل المباني السكنية، والبنية الأساسية والفضاء المفتوح، والتوظيف، والخدمات الاجتماعية، والقروض الصغيرة) أُطلقت عام 1998 بهدف عكس اتجاه عملية التدهور هذه وتحسين الظروف المعيشية في حي الدرب الأحمر مع المحافظة على طابعه التاريخي. ونظراً لأن التدخلات المتعلقة بالنهوض بالجانب المادي لا تشكل سوى جانباً واحداً من الحل، لم تقتصر غاية برنامج إعادة تأهيل المباني على إعادة تأهيل عدد معين من المنازل، بل سعى إلى استحداث إطار مؤسسي يدعم المجتمع المحلي في منطقة الدرب الأحمر على المستويات الفنية والمالية والقانونية والإدارية.
وقد عمل البرنامج على تحقيق ما يلي:
وضع صندوق الآغا خان للثقافة والوكالة التابعة له في مصر، أي مؤسسة الآغا خان للخدمات الثقافية، استراتيجيتهما الخاصة بإعادة التأهيل استناداً إلى دراسة عميقة لمعالم الحي ومنازله. وعليه، فقد اتُّبعت في السنوات الأولى من المشروع منهجية تصاعدية (من أسفل إلى أعلى). واشتملت الاستقصاءات على مسح نوعي من أجل رسم خريطة لأساليب الحياة وأنماط الأنشطة اليومية في حي الدرب الأحمر بالإضافة إلى معرفة الشيء الذي يحظى بإجلال السكان أكثر من غيره في المنطقة. ولم تشرع مؤسسة الآغا للخدمات الثقافية في مصر في عملية إعادة التأهيل الفعلي حتى عام 2002.
وتمركزت جهود المؤسسة في ثلاث مناطق عمل تتميز كل واحدة منها بطابعها الخاص واحتياجاتها وفرصها، وهي: طريق برج الظفر والمناطق المحيطة به مباشرة، وحي أصلم، ومنطقة باب الوزير وامتدادها على طول شارع الدرب الأحمر.
وقد نفذت المشروع شركة تنمية مجتمع الدرب الأحمر، وهي شركة مساهمة أُنشأت حديثاً مناصفة بين كل من صندوق الآغا خان للثقافة (50%) والصندوق الاجتماعي للتنمية (50%).[4] وإلى جانب مسؤولية الشركة عن برنامج إعادة تأهيل المباني السكنية، كانت مسؤولة أيضاً عن البرامج الاجتماعية-الاقتصادية التكميلية الأخرى بالإضافة إلى البرامج المرتبطة بالبنية الأساسية والفضاء المفتوح في المنطقة.
نُفذت أعمال إعادة تأهيل المباني السكنية من خلال عملية مؤلفة من خمس مراحل على النحو الآتي:
مرحلتا تقديم الطلبات ودراستها: خلال هاتين المرحلتين، يقوم فريق “التعبئة الاجتماعية” متعدد التخصصات والمؤلف من مهندسين معماريين وموظفي شؤون اجتماعية وموظفين ماليين بجمع البيانات من مقدمي الطلبات وتحليلها للتحقق من أهلية مقدم الطلب والمنزل المعني للمشاركة في البرنامج. ويقوم المهندس المعماري بتوثيق حالة البناء والوحدات السكنية إضافة إلى تقييم مدى قابلية البناء لإعادة التأهيل. ويجري موظف الشؤون الاجتماعية تقييماً اجتماعياً لكل منزل لرسم صورة أوضح عن قاطنيه واحتياجاتهم، فيما يجري الموظف المالي تقييما مالياً لكل منزل بحيث يقدِّر قيمة الأصول المالية للمنزل وقدرة ساكنيه على الاقتراض، إذ يشكل التضامن والمشاركة المالية الجماعية من قبل جميع سكان المبنى، كلٌ حسب قدرته، جزءاً لا يتجزأ من برنامج إعادة تأهيل المباني السكنية. ونظراً لتدني معدل الدخل الشهري في منطقة الدرب الأحمر، وفّر البرنامج لسكان المنطقة آلية إقراض تُدار من قبل وكالة الآغا خان للقروض الصغيرة. وبناء عليه، أصبح بمقدور السكان الحصول على قروض إسكانٍ ميسرة صُممت كي تتناسب واحتياجاتهم الفردية: بواقع دفعة أولى يبلغ حدها الأدنى الإجباري لجميع القاطنين 5,000 جنيه مع إمكانية زيادة قيمة هذه الدفعة وتقليل قيمة الأقساط الشهرية حسب رغبة المقترض. وعلى السكان أيضاً أن يختاروا الفترة الزمنية لسداد أقساط القرض لغاية 6 سنوات كحد أقصى (شهيب، 2012). وتتراوح نسبة الفائدة على القروض من 5% للوحدات السكنية إلى 12% للوحدات التجارية.
مرحلتا صياغة المقترحات وتقدير التكلفة: استناداً إلى المعلومات التي تم جمعها في المرحلتين الأولين، يقوم المهندسون المعماريون، بالتنسيق مع وكالة الآغا خان للقروض الصغيرة، بصياغة مقترح لإعادة تأهيل الوحدات السكنية المختارة ووضع التصاميم. ويجب أن يتضمن التصميم المقترح على المرافق الأساسية، كالمطبخ ودورة المياه، والتهوية الجيدة لجميع الغرف في كل وحدة من الوحدات السكنية.
مرحلة التنفيذ: تبدأ مرحلة الإنشاء عند توقيع العقد بين قاطني المبنى (السكان والمالكين) بصفة جماعية والجهة المنفذة لإعادة التأهيل (شركة تنمية مجتمع الدرب الأحمر).
تم تمويل المرحلة الأولى من المشروع من قبل صندوق التنمية المصري السويسري ومؤسسة فورد والصندوق العالمي للآثار وصندوق الآغا خان للثقافة. وخلال المرحلة الثانية تلقى صندوق الآغا خان دعماً مالياً لجهوده على صعيد إعادة التأهيل من الصندوق الاجتماعي للتنمية بالإضافة إلى مؤسسة فورد والوكالة الكندية للتنمية الدولية (منظمة المدن المتحدة والحكومات المحلية، 2010). وفي نهاية المطاف، توقف العمل ببرنامج إعادة تأهيل المباني السكنية عام 2009 إثر انتهاء مصادر التمويل. وجاء ذلك، بحسب لقاء أُجري مع مستشارة الإسكان في البرنامج الدكتورة دينا شهيب، تعبيراً عن “التغيير الذي طرأ على أولويات” جدول الأعمال العالمي لاهتمامات المانحين التي أخذت تتركز باضطراد على قضايا الأطفال والبرامج ذات الصلة بقضايا النوع الاجتماعي والبيئة.
على النقيض مما قد يتوقعه المرء في مثل هذه المشاريع ذات الكلفة العالية، لم يكن التمويل هو القضية الأكثر حساسية للمشروع – حتى عام 2009. بل تمثلت أهم القيود في المستندات القانونية اللازمة قبل البدء بعملية إعادة التأهيل بالإضافة إلى ضرورة إقناع مختلف الأطراف التي تشغل كل بناء من الأبنية بالتعاون مع جهود إعادة التأهيل والحصول على موافقة السلطات المحلية على إطلاق عملية إعادة التأهيل. وسوف نستعرض التحديات التي واجهها فريق البرنامج عند الحديث عن مستويات الدعم الفني والإداري.
اتّبع البرنامج نهجاً تشاركياً حيث تم إشراك المالكين والمستأجرين في عملية التصميم. وقد أسهم هذا النهج في تعزيز شعور أكبر بالملكية ونجح في تجنب معظم المشكلات الشائعة الوقوع بعد الإشغال، لكن تبيّن أيضاً أن العملية تستنزف قدراً كبيراً من الوقت والجهد. وفيما يتعلق بالوحدات المؤجرة، تمثل التحدي الأول في إقناع مالكي العقار – وخاصة إذا كان العقار مؤجراً بموجب قانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن– أنهم سيستفيدون من ترميمه. وقد نجح الفريق في التغلب على هذه العقبة عن طريق توضيح الفوائد التي سيجنيها مالك العقار. ووافق مستأجرون على المساهمة في تكاليف إعادة تأهيل وحداتهم بدلاً من المالك (انظر المزيد حول هذا أدناه) ووافقوا أيضاً على تطبيق زيادة معقولة على الأجرة بعد الانتهاء من عملية إعادة تأهيل البناء. بالإضافة إلى ذلك، سيستفيد المالكون الذين يسكنون على الأغلب في نفس البناية من خضوع مكان سكناهم لعملية الترميم إلى جانب إمكانية استفادتهم مالياً من أية وحدات غير مسكونة في البناية بعد أن كانت في السابق في حالة سيئة تحول دون عرضها في السوق.
أما التحدي الثاني فقد تمثل في إيجاد نقطة التقاء بين سكان البناية (عادة ما يكونون أكثر من ساكن واحد) فيما يتعلق بمساهماتهم المالية في عملية الترميم. وفي معظم الحالات، يسهم المستأجرون بحصة تعادل النسبة المئوية للمساحة التي يشغلونها من إجمالي مساحة البناء بصرف النظر عن كونهم مالكين أو مستأجرين. وتسهم الأنشطة التجارية أو الإنتاجية بنسبة أعلى لكل متر مربع. وتراوحت نسبة مشاركة المستأجرين في المرحلة الأولى من المشروع ما بين 8 إلى 10% تقريباً. ثم ارتفعت في المرحلة الثانية لتصل إلى نحو 30% بل و50% سنة 2009. ويعود السبب في ذلك إلى الشعبية المتزايدة التي حظي بها المشروع مما جعل مقدمي الطلبات راغبين في المساهمة في إعادة تأهيل وحداتهم السكنية بمبالغ أكبر (شهيب، 2012).
أخيراً، تمثل التحدي الثالث في إقناع المجتمع المحلي والحكومة فيما يتعلق بعدم صلاحية الأساليب التقليدية لمواجهة المشكلات الإنشائية القائمة مع التقيد بتدابير المحافظة على الأبنية. وفي هذا الصدد، نُشرت مواد معرفية من خلال تدريب فرق عمل محلية وحرفيين محليين، وتشجيع مواد وطرق البناء المناسبة، وتقديم المشورة الفنية، وإعداد كتيبات الإنشاءات.
بالمجمل، كان الفريق الاجتماعي يمضي سنة كاملة في التفاوض مع المستأجرين والمالكين من أجل ترميم منازلهم. واتخذت مرحلة البدء بالمشروع هذا الطابع بصفة خاصة. وقد استغرق ترميم المنازل الأربعة الأولى سنتين ونصف السنة. ومن ثم، وبعد تزايد الطلب على البرنامج، جرى العمل بنظام لتقديم الطلبات وانخفضت مدة التنفيذ لنحو سنة واحدة – بواقع 4 إلى 6 أشهر للتفاوض المبدئي ومراحل الإعداد ونحو 6 أشهر للأعمال الإنشائية. وخلال المرحلة الثانية طُلب من السكان الانتقال إلى مسكن آخر خلال فترة الترميم.
ذكرنا أنه من الضروري مراجعة الآليات المؤسساتية وآليات التخطيط بغية إزالة الفجوة بين الإجراءات الرسمية واحتياجات السكان. وقد بذل البرنامج جهوداً مهمة لمعالجة الأطر القانونية القائمة على مستوى الحي، وبصفة خاصة المخطط العام لسنة 1973. وقد ساعد البروتوكول المبرم مع محافظة القاهرة في تذليل الصعوبات التي اعترت هذه المساعي. وكان يتعين على الفريق بادئ ذي بدء، وقبل أن يشرع في عملية التنفيذ، التأكد لدى السلطات المحلية من عدم وجود قرارات صادرة عن هذه السلطات بهدم المباني –وهي مهمة عسيرة في ظل المستوى المتواضع للأرشفة في القسم المحلي. وبرز تعقيد إداري ثالث أثناء عملية التنفيذ، وهو صعوبة الحصول على تصاريح لتحسين المنطقة المجاورة للمباني، كتصريح تعبيد الشوارع المحيطة بالمباني، في أغلب الأحيان من جراء الدوران في متاهة النظام الإداري المحلي.
تم قياس آثار البرنامج عن طريق استطلاع لرضا جميع المستفيدين قبل التنفيذ وبعده (شهيب، 2003 و2009). وقد جرى بالمجمل إعادة تأهيل أكثر من 110 مبنى بحلول عام 2010، مما وفر ظروفاً معيشية أفضل حالاً من خلال ضمان احتواء كل وحدة سكنية على حمامات خاصة ومطابخ ومساحات معيشة وإضاءة طبيعية وإمداد بالمياه المأمونة وخدمات الصرف الصحي. وعند انتهاء العمل بالبرنامج، كان لا يزال هناك أكثر من 50 طلباً قيد البت على أمل تسجيلها في برنامج تجديد المباني السكنية، الأمر الذي يبرهن على المستوى العالي من التقبل عند المجتمع المحلي للدرب الأحمر. وقد استطاعت قروض البرنامج الصغيرة تحقيق نسبة سداد بلغت 99.6% على فترة خمس سنوات، مما يظهر بأن السكان لم يبقوا ملزمين بدين طويل الأجل لقاء الحصول على قرض لتحسين ظروف معيشتهم. يُعزى ذلك جزئياً إلى حسن تقدير موظفي المشروع الماليين لقدرة صاحب كل طلب على السداد خلال مرحلة دراسة الطلبات الأولية، حيث قدموا القروض التي تتناسب مع القدرات المالية لمقدم الطلب.
باتت نحو 285 أسرة تتمتع بوضعية حيازة آمنة بعد أن كانت في السابق مهددة بالإخلاء، وذك بفضل المفاوضات التي تمت بين المستأجرين ومالكي العقارات فضلاً عن الاتفاقات الموقعة مع السلطات العامة. وتشكل هذه المنازل رصيداً من المساكن كان معرضاً لخطر الإزالة بسبب تدهور حالتها الإنشائية (وبالتالي إجلاء سكانها عنها) ولكن تمت إعادة تأهيلها وأصبح بمقدور المستأجرين المكوث فيها.
بالإضافة إلى ذلك، أسهم المشروع في زيادة صلاحية حي الدرب الأحمر ككل للسكنى، ناهيك عن التجديدات المحددة التي أُجريت على الأبنية. ففي الوقت الذي كانت فيه شياخات أخرى كالباطنية تفقد بعض سكانها بسبب التدهور المستمر في رصيدها من المساكن، كان هناك تدفق عام لساكنين جدد إلى بنايات قديمة وجديدة في الدرب الأحمر على أساس عقود إيجار جديدة، بعضهم في الأصل من حي الدرب الأحمر (رحلوا منه ثم عادوا إليه الآن) وبعضهم الآخر من أقسام شعبية أخرى في القاهرة.[5]
في النهاية، شكلت أعمال الطلاء الداخلي وتصليحات الجدران عام 2003 النوعين المرغوبين أكثر من غيرهما من أنواع التحسينات المنزلية (72% لكل منهما)، لكن هبطت هذه النسبة إلى 48% عام 2009؛ إذ باتت التصليحات الإنشائية تحسينات منزلية مرغوبة جداً من قبل السكان في عام 2009، حيث احتلت تصليحات السقوف والسلالم المرتبة الثانية من حيث الأولوية بنسبة 52% لكل منها. وربما كان هذا التراجع في أولوية التشطيبات الداخلية ناجم عن تأثير البرنامج الذي عمل على رفع طموح سكان الدرب الأحمر بحيث صاروا يتطلعون إلى تحقيق ما هو أبعد من مجرد طلاء جدران المنزل الداخلية بطبقة جديدة من الدهان.
أدى النهج الذي اتبعه برنامج إعادة تأهيل المباني السكنية فضلاً عن تنفيذه إلى إجراء تغييرات مبتكرة على أنظمة السياسات؛ إذ عدّل المجلس الأعلى للآثار سياساته الخاصة بإزالة المباني والتي أدت في السابق إلى إجلاء مئات العائلات من منطقة الدرب الأحمر. وبناء على ذلك، راجعت محافظة القاهرة مخطط المنطقة الذي وضعته في سنة 1973 والذي كان سيفسح المجال لعمليات إزالة جماعية استناداً إلى سياسات المجلس الأعلى للآثار، كما صادقت المحافظة عام 2008 على مخطط جديد للحفاظ على النسيج العمراني للدرب الأحمر. وفي عام 2007، اعتبرالجهاز القومي للتنسيق الحضاري برنامج إعادة تأهيل المباني السكنية عملاً من أفضل الممارسات، وذلك في ’المبادئ التوجيهية للمناطق التاريخية‘ التي صدرت عن الجهاز، والتي يتعين تنفيذها على المستوى الوطني. وفي عام 2008، عدّلت محافظة القاهرة المتطلبات القانونية الخاصة بإعادة تأهيل رصيد المساكن الموجود حالياً من أجل النهوض بمستوى عملية إعادة التأهيل.
بعد انتهاء المشروع سنة 2009، دُرست عدة سبل لضمان استدامته، ومن ضمنها تحويل شركة تنمية مجتمع الدرب الأحمر إلى منظمة محلية غير حكومية. غير أن ذلك لم يتحقق أبداً على أرض الواقع بسبب محدودية الأموال المتوفرة لاستدامة البرامج الاجتماعية والإسكانية والتعليمية والمالية المرتبطة ببرنامج إعادة تأهيل المباني السكنية.
إضافة إلى ذلك، تغيرت البيئة المعمورة في القاهرة التاريخية، بالإضافة إلى كثير من المناطق العمرانية في مصر، تغيراً هائلاً في أعقاب ثورة 25 يناير. إذ أدى غياب رقابة الدولة، المنقوصة أصلاً، خلال عام 2011 إلى إزالة عدد كبير من المباني التقليدية فضلاً عن الطفرة في مخالفات البناء الفاضحة من حيث ارتفاع المباني في مختلف أنحاء القاهرة التاريخية. بالإضافة إلى ذلك، لم يتمكن كثير من المستأجرين من مواصلة تسديد الدفعات المنتظمة على حساب القروض التي تعاقدوا عليها، وذلك من جراء الانكماش الاقتصادي في السنوات التي أعقبت ذلك. ولا يزال يتعين تقييم التأثير الذي تركته الفترة من 2011-2013 على أنشطة البناء التابعة للبرنامج ومداخيل العائلات من أجل تكوين صورة أفضل عن الوضع الحالي للبيئة المعمورة وعن وضعية سداد القروض في المنطقة.
يمكن استنساخ نموذج برنامج إعادة تأهيل المباني السكنية في أحياء ومدن تاريخية أخرى يوجد فيها عدد كبير من المعالم القديمة ونسيج عمراني مماثل وأنماط حياتية مماثلة. وقد تم البدء بالفعل باستنساخ بعض من استراتيجيات البرنامج فيما بدأت أطراف أخرى بالتعلم والاستفادة من هذه المبادرة على مستويات مختلفة. فعلى سبيل المثال، تبنت الوكالة الألمانية للتعاون الدولي ووكالة الآغا خان للقروض الصغيرة ومشروع “RehabiMed” (وهو مشروع يموله الاتحاد الأوروبي ويركز على إعادة التأهيل في مختلف أنحاء الشرق الأوسط)، ومنظمات مصرية غير حكومية أخرى نهج البرنامج خلال الفترة من 2005 إلى 2008 في مشاريع مماثلة لإعادة تأهيل المباني السكنية على نطاق أضيق في مناطق الجيزة ومحافظة أسوان والقاهرة التاريخية ومواقع مختلفة في الصعيد. إضافة إلى ذلك، وكما ذكرنا آنفاً، اعتبرَ مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية البرنامج في عام 2008 بأنه يمثل “أفضل الممارسات”.
تعلمنا من هذا البرنامج أن إحياء المدن التاريخية يتطلب تدخلات أكثر عمقاً من مجرد التحسين المادي لأماكن المعيشة. لقد خطا البرنامج بعملية إعادة التأهيل العمراني خطوة جديدة صوب معالجة القضايا المتعلقة بالحوكمة والتخفيف من آثار الفقر منتهجاً في ذلك نهجاً تشاركياً في التصميم. وبالتالي، شكّل البرنامج تطوراً على صعيد الممارسات في مصر بدءاً بالممارسات المتعلقة بالمعالم التاريخية وانتهاءً بتلك المتعلقة بالسياسات التي تركز على الحفاظ على المناطق، وهو تطور يأخذ بالاعتبار المباني والسكان الذين يعيشون في محيط هذه المعالم على حد سواء.
تساعدنا مفاهيم معينة، من قبيل المشروع القائم على المنتجات والمشروع القائم على العمليات، في تقييم طبيعة مثل هذا التطور. فالمشاريع القائمة على المنتَجات تحركها رؤيتها فيما يتعلق بالشكل الذي يجب أن تكون عليه النتائج النهائية للمشروع. فعلى سبيل المثال، كانت أولوية الحكومة دائماً في المناطق ذات الأهمية التاريخية تتمثل في المعالم نفسها والسياحة فيما كان سكان المناطق يأتون في المقام الثاني، حيث كان يتم إجلاؤهم أو إجبارهم على التقيد بأنظمة جديدة، دون أن يُنظر إليهم أبداً على أنهم مكوّن أصيل من مكونات الحي.
أما المشاريع القائمة على العمليات، كبرنامج إعادة تأهيل المباني السكنية، فهي تُعنى بالطريقة التي ينبغي بها القيام بالأشياء أكثر من اعتنائها بالنواتج النهائية. فكان الأمر المختلف الذي اصطبغ به مشروع إعادة تأهيل المباني السكنية في الدرب الأحمر أنه اعترف بسكان المباني باعتبارهم أصحاب مصلحة أساسيين وبصفتهم مكوناً رئيسياً في حي الدرب الأحمر إلى جانب المعالم المهمة المتناثرة في المنطقة التاريخية.
يُثبت البرنامج أنه بالإمكان تطبيق نهج متكامل بشكل واقعي في مصر– لا يعود بالفائدة فقط على المستأجرين بإعطائهم مسكناً مناسباً وبسعر معقول، بل أيضاً على مالكي العقار ووكالات الحفاظ على الأمكنة وغيرهم. والسؤال هو لماذا لم تتبنى الدولة أو تنفذ النهج الشامل ذي المراحل الأربع (الفنية والقانونية والاجتماعية والمالية) باعتباره نموذجاً مجرباً في مجال حماية المناطق التاريخية في المدن المصرية التي تعاني من أنسجة عمرانية متهالكة ومعالم تاريخية نفيسة ومهملة (ومنهوبة غالباً) ومجتمعات محلية تعاني المصاعب؟
[1] صندوق الآغا خان للثقافة منظمة دولية غير ربحية أسسها سمو الأمير كريم آغا خان الرابع وهو كذلك إمام في الطائفة الشيعية الإسماعيلية. والصندوق عبارة عن وكالة من بين وكالات عديدة جداً تنضوي تحت شبكة الآغا خان للتنمية.
[2] بُدأ بمشروع حديقة الأزهر عام 1984 عندما أعلن الآغا خان عن قراره بالتبرع شخصياً بالتمويل اللازم وقيمته 30 مليون دولار أمريكي لتحويل مدفن نفايات مساحته 80 هكتاراً إلى مكان عام أخضر يرتاده سكان القاهرة. وبدأت مرحلة الإنشاء أواسط التسعينيات من القرن الماضي واكتملت رسمياً عام 2005.
[3] من الأمثلة على المباني التي أُعيد تأهيلها من قبل صندوق الآغا خان في المنطقة مسجد أم السلطان شعبان، ومدرسة درب شغلان، ومسجد أصلان، ومجمع خاير بك.
[4] الصندوق الاجتماعي للتنمية هو وكالة حكومية أُنشأت عام 1991 من أجل تقدم الدعم للمشاريع التنموية في مصر.
[5] الشياخة هي أصغر وحدة إدارية في نظام التقسيم الإداري المصري.
صندوق الآغا خان للثقافة. 2005. “الإحياء العمراني للقاهرة في قسم الدرب الأحمر. إطار للاستثمار.” https://www.akdn.org/sites/akdn/files/Publications/2005_aktc_cairo_regeneration.pdf.
إبراهيم، كريم. 2011. “دراسة لإعادة تأهيل الإسكان، القاهرة التاريخية”. تقرير. دراسة لإعادة تأهيل الإسكان، القاهرة التاريخية. القاهرة، مصر. مشروع الإحياء العمراني للقاهرة التاريخية. http://www.urhcproject.org/Content/studies/5_ibrahim_housing.pdf
شهيب، دينا. 2003. “المرحلة الثانية من مشروع الدرب الأحمر، استطلاع خط الأساس.” التقارير. المرحلة الثانية من مشروع الدرب الأحمر، استطلاع خط الأساس. صندوق الآغا خان للثقافة في مصر.
شهيب، دينا. 2009. “استطلاع ما بعد التنفيذ”، التقرير. استطلاع ما بعد التنفي. شركة تنمية مجتمع الدرب الأحمر.
شهيب، دينا. 2012. “العيش والعمل في القاهرة التاريخية: استدامة الأنشطة التجارية والإنتاجية. دراسة أساسية لخطة الإدارة.” التقارير. العيش والعمل في القاهرة التاريخية: استدامة الأنشطة التجارية والإنتاجية. دراسة أساسية لخطة الإدارة. مشروع الإحياء العمراني للقاهرة التاريخية.
منظمة المدن المتحدة والحكومات المحلية. 2010. “القاهرة، مصر: برنامج إعادة تأهيل المساكن في الدرب الأحمر”. التقارير. القاهرة، مصر: برنامج إعادة تأهيل المساكن في الدرب الأحمر. منظمة المدن المتحدة والحكومات المحلية – مختبر المدن الشاملة للجميع.
مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل). 2008). “برنامج إعادة تأهيل المساكن في الدرب الأحمر.” التقارير. برنامج إعادة تأهيل المساكن في الدرب الأحمر. أفضل الممارسات. الأمم المتحدة الموئل.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments