للأماكن العامة أهمية اجتماعية واقتصادية وبيئية؛ فوجودها أمر بالغ الأهمية، وخاصة ضمن المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية. وأدى افتقار مدينة بيروت إلى الخدمات الأساسية وأزمة إدارة النفايات فيها إلى ظهور نشطاء ومجموعات عديدة تطالب باستعادة حقوقها الأساسية في خضم جو عدم الثقة السياسية السائد. ومؤخراً، أثارت قضية الاستيلاء على الأماكن العامة والمساحات الخضراء في بيروت غضب جماعات المجتمع المدني. وكانت المساحات والحياة الخضراء في المدينة قد تأثرت بشدة بسنوات الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت 15 سنة (1975-1990)، إذ تعرضت للتخريب والدمار خلال فترة الحرب الأهلية ثم الإهمال لاحقاً في الفترة التي تلتها لصالح أولويات عاجلة أخرى من قبيل إعادة الإعمار وإنشاء البنية التحتية. ولدى العاصمة بيروت اليوم عدد قليل جداً من المساحات الخضراء العامة موزعة وسط غابة شامخة من الأبنية الخرسانية، إما يتعذر الوصول إليها أو تم خصخصتها. وتتألف قائمة المساحات الخضراء في بيروت من 49 حديقة وساحة عامة (Shayya 2010)، فضلاً عن إطلالة بحرية مجزأة تمت خصخصتها لجهات وشركات خاصة.
وفي ظل عدم قدرة البلدية على تزويد المدينة بمساحات عامة هي بأمس الحاجة إليها، بدأت جهات عديدة تنشط سعياً لنيل تلك الحقوق العامة، وقيام نشطاء عديدون بالتصعيد والقيام بما هو في الأساس من واجب البلدية. وقد تم إنشاء مبادرات فردية وجماعية عديدة على يد أساتذة جامعيين ونشطاء بيئيين ومنظمات مجتمعية وجهات أخرى، على غرار “الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة” و”المفكرة القانونية” و”خط أخضر” و”نحن” و”بيروت مدينتي” وغيرها. وقام هؤلاء النشطاء بمحاولة العمل على صياغة مستقبل أفضل لهذه المساحات المهددة وزيادة الوعي بها من خلال إنشاء مبادرات انطلاقاً من هذه الأماكن، اعتمدت على مجموعة من آليات تنظيم مجتمعية من قبيل: حلقات النقاش والمناقشات العامة والعروض الفنية وتوقيع العرائض والحملات والاحتجاجات والتقاضي والضغط. وكان دور الناشطين مهماً في خلق حوار مع السلطات، وتطوير رؤى بديلة للأماكن العامة وكشف الفساد. وسيتحدث هذا المقال عن ثلاثة أمثلة تمثل كل واحدة منها مساحة عامة كانت في قلب النقاش الدائر حول المساحات العامة الجاري حالياً في بيروت. والمناطق هي: “حرش بيروت”، أكبر حديقة عامة في المدينة، وقسمين من الواجهة البحرية للمدينة: دالية الروشة ورملة البيضا. ولنلقِ نظرة على الأنشطة التي قام بها النشطاء في معرض سعيهم لتغيير السلوك وزيادة تغيير سلوك الجهات العامة من خلال إقامة الأنشطة والدعوة لصالح تلك الأماكن العامة في بيروت.
في عام 2015، انخفضت نسبة المساحات الخضراء في لبنان إلى أقل من 13% (The Daily Star 2015). وبينما توصي منظمة الصحة العالمية بوجود مساحات خضراء في المدينة بحد أدنى هو 9 م2 لكل فرد (UNHABITAT 2016)، فإن نصيب الفرد من المساحات الخضراء في بيروت هو فقط 0.8 م2 (Ayoub 2014). ويعتبر حرش بيروت، المعروف أيضاً باسم “حرش الصنوبر”، أكبر مساحة عامة خضراء في المدينة، حيث يغطي مساحة قدرها 400,000 م2. وعلى مدار السنين، عانت تلك الحديقة من الكثير من التعديات والمشاكل التي تركت أثارها عليها وتسبب في تقلص مساحتها باستمرار منذ القرن الماضي. وكانت هذه الحديقة مغلقة أمام العموم لفترة ناهزت 20 عاماً، ولم يكن يُسمح، قبل يونيو 2016، بدخولها والتنزه فيها إلا للأجانب والأشخاص النافذين. وكانت الذريعة الأبرز لإغلاق الحديقة هو الحيلولة دون تحولها إلى ساحة نزاع بين الأفراد المنتمين إلى ديانات ووجهات نظر سياسية مختلفة (The Daily Star 2015)، وأيضاً الرغبة في حمايتها من السلوك غير المتحضر أو الإساءة (Nash 2014). وقام تحالف مكون من 20 منظمة غير حكومية بإجراء محاولات حثيثة امتدت على مدار عامين لإعادة افتتاح الحديقة، شملت حملات في الشوارع وحملات توعية فضلاً عن التواصل مع المسؤولين الحكوميين. وتكللت تلك المحاولات بالنجاح مع نيل موافقة البلدية ومحافظ بيروت لفتح الحديقة أمام العموم. وتم السماح بزيارة الحديقة بشكل جزئي في البداية، ثم ما لبث أن تم افتتاحها بشكل كامل في أغسطس 2016 تحت إدارة البلدية. لكن ولسوء الحظ، لم يستمر هذا النجاح لفترة طويلة، إذ كان يبدو أن البلدية كانت تتصنع الذرائع في محاولة منها لإعادة إغلاق الحديقة ثانيةً والتعدي على ما تبقى منها (Farfour 2017). واليوم، وبينما الحديقة مغلقة من جديد، يحاول النشطاء بدورهم إعادة فتحها أمام العامة ويناضلون ضد العديد من الانتهاكات الجارية فيها حالياً. وعلى الرغم من أن الحديقة تعتبر ملكية عامة لا يمكن البناء فيها، إلا أن المجلس البلدي يحاول تغيير ذلك والسماح بالبناء في جزء منها، إذ يقوم حالياً ببناء مستشفى على أطرافها. كما أنه هناك مشروع مطروح يتمثل في نقل إستاد بيروت البلدي، من منطقة طريق الجديدة حالياً، إلى موقع ما في الحديقة (Farfour 2017).
لطالما كانت ملكية الواجهة البحرية مثار خلاف في العديد من المدن، حيث يذكر “صندوق الآثار العالمي” أن ثمّة “طلب هائل على مشاريع تطوير الواجهة البحرية في المدن حول العالم. وغالباً ما تحول مشاريع التطوير تلك دون وصول العموم والحفاظ على القيم الثقافية” (World Monument Fund 2016). وعلى الرغم من أن القانون اللبناني ينص على أن جميع الشواطئ الرملية هي أماكن عامة لا يمكن المساس بها، (Fawaz 2016)، إلا أن هناك قطاع عقاري قوي يسيطر على ساحل البلاد، محولاً الأماكن العامة فيه إلى أراضٍ مسوّرة خاصة. وعملت المصالح الخاصة على تخصيص الواجهة البحرية من خلال سن قوانين التطوير التي تم إقرارها خلال فوضى الحرب الأهلية (Battah 2015). ولدى كل ميل من ساحل لبنان البالغ طوله 135 ميلاً ثمانية منتجعات غير قانونية وسطياً، جزء كبير منها مملوك لسياسيين كبار (Battah 2015). ويعود السبب في حدوث ذلك إلى “قدرة المسؤولين العامين هؤلاء على إبرام الصفقات والموافقة على التصاريح خلف الأبواب المغلقة للوزارات ومكاتب التخطيط والبلديات” (Fawaz 2016). وقد حدث هذا لعدة أسباب هي: (1) التناقضات وانعدام الشفافية في السجلات العامة، (2) التعديلات القانونية العديدة في شكل “نصوص ومراسيم قانونية، وخطط مصادق عليها، وقرارات رسمية، و/أو ترتيبات غير رسمية” تشجع الخصخصة، (3) قدرة المسؤولين، والذين هم أيضاً مستثمرون، على إصدار القوانين، مما يعطيهم الفرصة للي عنق القوانين لخدمة مصالحهم الخاصة (Fawaz 2016).
وعلى وجه الخصوص، وفي الطرف الجنوبي من الكورنيش في بيروت، الواقع على امتداد أحد الأحياء الراقية، ثمة قطعتان متبقيتان من الساحل مخصصتان للعموم، ومهددتان بخطط التنمية الخاصة غير القانونية: الأولى هي دالية الروشة، في حين الثانية هي رملة البيضا، الشاطئ الرملي الشهير في بيروت. ويجتذب كلا الموقعين الكثيرين ممن لا يستطيعون تحمل أسعار تذاكر ارتياد الشواطئ التي تم خصخصتها. وكلا الموقعين جزء من المنظومة البيئية لساحل البحر المتوسط مع أثر بيئي كبير يتوجب حمايته (شميتيل 2007 شميتيل 2009). ويمثل كلا الموقعين، المفتوحان أمام العموم وبلا ملكية خاصة، وجهين لنفس القصة: قصة شاطئ تمت خصخصته.
وعملت المصالح الخاصة على تخصيص الواجهة البحرية عبر قوانين التنمية التي تم إقرارها خلال فوضى الحرب الأهلية (Battah 2015). وقد حدث هذا لعدة أسباب هي: (1) التناقضات وانعدام الشفافية في السجلات العامة، (2) التعديلات القانونية العديدة في شكل “نصوص ومراسيم قانونية، وخطط مصادق عليها، وقرارات رسمية، و/أو ترتيبات غير رسمية” التي تشجع الخصخصة (3) قدرة المسؤولين، والذين هم أيضاً مستثمرون، على إصدار القوانين، الأمر الذي يعطيهم الفرصة للي عنق القوانين لخدمة مصالحهم الخاصة (Fawaz 2016). وينطبق ما سبق على حالتي دالية الروشة ورملة البيضا.
دالية الروشة: كانت تلك المنطقة على مر السنين منطقة متنوعة الاستخدامات من قبل مستخدمين مختلفين، فضلاً عن أنها وفرت سبل عيش مستدامة للعديد من السكان من ذوي الدخل المحدود واستضافت أنشطة متنوعة منها عيد نوروز الكردي (World Monument Fund 2016). بدأت المعركة من أجل دالية الروشة بمجرد اكتشاف خطط لتحويلها إلى منتجع سياحي فاخر خاص من تصميم رِم كولهاس الشهير (The Guardian 2015). وقام مجموعة من النشطاء بتشكيل “الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة” لينجحوا لاحقاً في وضع المنطقة على “قائمة المراقبة” الخاصة بصندوق الآثار العالمية لعام 2016. واليوم، وعلى الرغم من كونها مسيجة، إلا أنها لا تزال مفتوحة أمام الزوار ممن يخافون عليها من المشاريع المستقبلية المستهدفة بها.
رملة البيضا: هو شاطئ رملي يبعد حوالي ميل واحد عن دالية الروشة. ولا يدرك الأشخاص الذين يلعبون على الشاطئ ويتشمسون تحت أشعة الشمس أن رملة البيضا لم تعد ملكية عامة بل هي في الواقع حالياً ملكية خاصة بعد أن كانت ذات يوم أرضاً ذات ملكية عامة قبل أن تخضع لعمية تحويل خاصة غير قانونية أو رسمية. وتعرض الموقع في التسعينيات للتهديد من خلال مشروع “نارا” (NARA) العقاري، والذي تم إيقافه بعد الضغط العام (Moughalian 2016). وعند السور قبالة الشاطئ، بدأت رافعات بناء العمل في نوفمبر 2016 في الطرف الجنوبي من رملة البيضاء بهدف بناء منتجع “عدن روك“، وهو مشروع تطوير خاص تعود ملكيته لشركة عاشور للتطوير، وكان من المقرر الانتهاء منه في عام 2018. وادعت الشركة حقها في البناء على الأرض، لكن بدأ النشطاء مجموعة من الأنشطة لوقف المشروع. وبعد رفع دعوى قضائية ضد الحكومة لإنهاء عمليات البناء الجارية ووقف المشروع، قام مجلس الدولة اللبناني بتعليق تصريح البناء الخاص بالمشروع في مارس 2017. ومع ذلك، استمرت عمليات البناء، مما دفع بمجموعة “المفكرة القانونية” إلى تقديم عريضة تطالب بتدخل الرئيس اللبناني لفرض تنفيذ القرارات القضائية المتجاهلة. وإذا استمر البناء واكتمل المشروع، فسيكون مقدمة للاستيلاء على كامل ما تبقى من الساحل اللبناني (Dziadosz 2017).
من التوثيق إلى العمل
وكان لموقعي دالية الروشة ورملة البيضا حماية “وقائية” قام بها النشطاء بمجرد علمهم بالمشروعات المقصودة، حيث عمل الباحثون والناشطون على توثيق الواجهة البحرية من خلال كتيبات وخرائط، وكشفوا وثائق تحويل ملكية الأراضي والقوانين التي تحكم الواجهة البحرية للمدينة، وأيضاً الممارسات المختلفة للمساحات ومستخدميها. كما اتخذت أنشطتهم أيضاً شكل زيارات استكشافية خاصة بالموقع والبحر. كما قاموا أيضاً بعمل الاحتجاجات وكذلك تقديم حلول بديلة.
من المؤكد أن حماية الأماكن العامة في بيروت اتخذت أشكالاً متعددة، لكن هل يمكن اعتبار ما سبق قصص نجاح؟ على الرغم من عدم نجاح جميع أنشطة المجتمع المدني في منع التعدي على الأماكن العامة، إلا أن الأحداث التي تم إطلاقها للتوعية بتلك الأماكن العامة زادت من وعي الناس بقضايا لم يكونوا على علم بها من قبل. وتوضح الحالات الثلاث التي أثيرت في هذه المقالة أن المشاريع الحالية التي تحدث في الأماكن العامة (1) تهدد المساحات الاجتماعية والمعالم الوطنية، (2) يتم بناؤها على الممتلكات التي تم الحصول عليها جزئياً بطريقة غير شرعية، (3) تخدم المصالح الضيقة لمجموعات النخبة، و (4) تهدد النظام البيئي الفريد (Fawaz 2016). وفي الواقع، تعد المساحات العامة قضية سياسية للغاية والحرب من أجلها هي حوار بين الدولة والمدينة والناس. وتشمل التحديات المستقبلية منع التعدي المستقبلي، وإزالة الهياكل التي تم بناؤها بالفعل أو تحويلها للاستخدام العام، وجعل المتورطين في العمليات غير القانونية تلك يتحملون مسؤولية أفعالهم. إن هذه المساحات هي أصول حيوية ثقافية، فضلاً عن أنها ضرورية للرفاه الاجتماعي والاقتصادي والبيئي للمدينة، وبالتالي يجب الحفاظ عليها وحمايتها وتحسينها. ويتمثل التحدي أيضاً في إيجاد بدائل للمساحات العامة المسلوبة من قبل الجهات الخاصة. ومن المهم أيضاً الإقرار بأن المساحات العامة هي مورد وليس عبئاً إذا تم إدارتها وحمايتها بشكل صحيح.
الكتب:
المقالات:
الأطروحات:
الأوراق البحثية:
الجرائد:
مواقع الإنترنت:
المجلات الإلكترونية:
الصورة الرئيسة: ربى داغر
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments