إن الحق في المشاركة العامة هو حق المساهمة الفاعلة لكل فرد في الحياة العامة، إذ ينبغي أن يشارك كل من يُحتمل تأثرهم بعملية اتخاذ القرار، سواءً أكان قراراً حكومياً أم قراراً خاصاً ذي تبعات اجتماعية (انظر الحق في الملكية).[1] إنه أمر يتجاوز حق التصويت والترشح للانتخابات والمشاركة في الاستفتاءات، فمن حق الأفراد التعبير عن أفكارهم وآرائهم في منتدى عام بحرية، ومن حقهم أن تُسمع تلك الأفكار وتُحترم وتُناقش ويُعلق عليها من قبل المجتمع المحلي. إنه الحق في اعتراف الحكومة بشواغل المواطنين ووضع ذلك كأساس لجدول أعمالها.
فإن كان هناك طريق سريع جديد سيمر عبر مجتمع سكني غير رسمي ما، فسيحق لأفراد ذاك المجتمع التعبير عن رأيهم في ذلك الطريق. كما يحق لهم المساعدة في تحديد قوانين البناء وقيود استخدام الأراضي التي تؤثر على تنمية الأحياء، ومن حقهم أيضاً تقديم رأيهم في تطوير الأماكن العامة أو إزالتها، والتي تشمل الشوارع والمتنزهات والساحات والأسواق العامة والمساجد والكنائس. كما أنه من حق المواطنين تحديد أولويات الإنفاق العام (انظر “الموازنة التشاركية”) في أحيائهم والمطالبة بالتوزيع العادل لتلك الموارد بين أرجاء المدينة. وأيضاً من حق المواطنين أن يكون لهم صوت في طريقة استخدام الأراضي العامة أو تطويرها أو بيعها، فضلاً عن أن لهم الحق في الاعتراض على عمليات التطوير الخاصة التي قد تؤثر على مجتمعهم. وتعتمد المشاركة العامة الفاعلة على الوصول إلى معلومات عامة دقيقة وشاملة. والمعرفة أمر ذي أهمية في عملية اتخاذ القرار بين العموم، إلا أنه وللأسف تمارس الحكومة المصرية سلطتها وتحجب المعلومات عن الجمهور.
ويذكر “المجتمع الدولي لحقوق الإنسان” الحق في المشاركة في العديد من الاتفاقيات، إذ أدرجه بدايةً في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” (1948)، إذ تنص الفقرة 1 من المادة 21 أن، “لكلِّ شخص حقُّ المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلده، إمَّا مباشرةً وإمَّا بواسطة ممثِّلين يُختارون بحرِّية؛” والفقرة 3 من المادة نفسها أن “إرادةُ الشعب هي مناطُ سلطة الحكم”. ويؤكد “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” (1966) الحق في المشاركة العامة إذ يؤكد أن لكل المواطن الحق في أن، “أ) أن يشارك في إدارة الشؤون العامة، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون بحرية”؛ ب) “أن ينتخب ويُنتخب، في انتخابات نزيهة”؛ و ج) ” أن تتاح له… فرصة تقلد الوظائف العامة”.
وتحدد الرابطة الدولية للمشاركة العامة سبعة معايير للمشاركة العامة:
ينص الدستور المصري الجديد (2012) على أن “مشاركة المواطن في الحياة العامة هي واجب وطني”، لكنه يجعل المشاركة مقتصرة على “حق الانتخاب، والترشح، وإبداء الرأي في الاستفتاء. وينظم القانون مباشرة هذه الحقوق”. وهذه النظرة المحدودة لمشاركة المواطنين أمر مؤسف لأن السياسة والاستفتاءات الانتخابية التي أطلقتها السلطة التنفيذية لن تكون كافية لاستيعاب الطلبات المكبوتة والمستمرة للجمهور من أجل تغيير سياسي كبير وزيادة استجابة الحكومة والمساءلة والشفافية.
تنص المادة 8 من الدستور الجديد على:
تكفل الدولة وسائل تحقيق العدل والمساواة والحرية، وتلتزم بتيسير سبل التراحم والتكافل الاجتماعي والتضامن بين أفراد المجتمع، وتضمن حماية الأنفس والأعراض والأموال، وتعمل على تحقيق حد الكفاية لجميع المواطنين؛ وذلك كله في حدود القانون.
فإذا كان الحق في المشاركة العامة مقتصراً على التصويت، وتعبير الفرد عن رأيه هو عبر الاستفتاء فحسب، سيتوجب على المرء أن يتساءل، كيف ستضمن الدولة “وسائل تحقيق العدالة والمساواة والحرية” دون الاستماع إلى الناس؟ وكيف ستعمل على “تحقيق حد الكفاية لجميع المواطنين” إذا لم تفهم احتياجاتهم ورغباتهم؟ وإذا كانت مشاركة المواطنين في الحياة العامة هي واجب وطني، كذلك يغدو الحال مع مشاركة الحكومة نفسها في حوار مع العموم.
من الواضح أن قواعد اللعبة في مصر لم تُحدَّد بعد، وأن المساحات الديمقراطية التي أنشأتها الثورة هي موضع خلاف ولا يمكن ضمان بقاءها بأي حال من الأحوال، إذ أن ثمة تيارات قوية تقاوم هذا التغيير وستستمر في جر مصر إلى نظام سلطوي على الرغم من بشائر الديمقراطية التي حلّت. وتواجه مصر خطر إجراء إصلاحات إجرائية لتعكس حكومة ديمقراطية مع عدم قدرتها في الوقت نفسه على إعادة تشكيل هياكل السلطة القائمة التي تحكم البلاد. هل ستكون ديمقراطية مصر مشابهة لتلك الموجودة في العراق والتي يرفض فيها فصيل الأغلبية المضطهدة منذ زمن طويل آراء الأقليات ويؤسس لسياسات قمعية خاصة به؟ أم أنها ستكون مثل البرازيل حيث تظهر البلاد أمام باقي دول العالم على أنها دولة ديمقراطية تقدمية للغاية لكن في الوقت نفسه لا تزال النخبة ذات سطوة كبيرة هناك؟
وهناك العديد من الحواجز المؤسسية التي تقف أمام تنفيذ الحق في المشاركة العامة في مصر؛ أهمها ثقافة السرية التي لا تزال تهيمن على الحكومة وتحد من وصول الجمهور إلى المعلومات. أما العامل الثاني فهو الهيكل الحكومي شديد المركزية. وفي الديمقراطيات الناجحة في جميع أنحاء العالم، تعمل الحكومات المحلية كواجهة أساسية بين الشخصيات العامة والسكان، إلا أن هيكل الوحدات الإدارية المحلية في مصر لا يفضي إلى دعم المشاركة العامة، حيث يتم تعيين غالبية موظفي المستوى المحلي أو البلدي على يد الوزارات المركزية أو الحكومة المركزية؛ فضلاً عن أن المحافظين يُعيّنون دون انتخاب، ولا يوجد رئيس بلدية منتخب في أي مدينة، والمجالس المنتخبة محلياً غير موجودة حالياً. وحتى لو كانت موجودة، فإنها لا تتمتع بأي سلطة تشريعية أو ميزانية تعمل على الاستجابة للاحتياجات المحلية.
بالنسبة لبيئة البناء، يميل المخططون في الحكومة المصرية إلى تجاهل الرأي العام بشدة عند تنفيذ المشاريع الجديدة، وثمة مثال بارز على ذلك يتمثل في إقامة كوبري 6 أكتوبر الذي اكتمل بناؤه في عام 1996، إذ تسبب في تغيير جذري في نسيج القاهرة، مدمراً عدداً من المجتمعات والأماكن العامة، بما في ذلك ميدان رمسيس. وتذكرنا تلك العملية بتقنية “البناء الرئيس” لروبرت موزيز المثيرة للجدل في مدينة نيويورك في منتصف القرن العشرين، والذي قام بدوره أيضاً بتسوية المجتمعات بالأرض لصالح مشاريع بناء بنية تحتية عملاقة دون الاهتمام بالرأي العام. وثمة خطط جديدة لإزالة الجسر العلوي في ميدان رمسيس وإعادة إنشاء الأماكن العامة، ولكن هناك خطط أخرى، مثل تلك الموجودة في مخطط “القاهرة “2050، توحي بشدة بأن الحكومة تميل إلى إنشاء المشاريع الكبرى من دون أخذ آراء المجتمعات وأولوياتهم بعين الاعتبار.
وتسلط مبادرة تضامن الضوء على العديد من الأمثلة الناجحة في جميع أنحاء القاهرة تعاونت فيها الحكومة مع المجتمعات المحلية لتحسين بيئة البناء. وتوضح هذه الحالات مدى فاعلية وحيوية مشاركة الجمهور في عمليات صنع القرار. فقبل كل شيء، تحشد هذه الجهود موارد المجتمع – سواء من خلال رأس المال أو العمل – فضلاً عن أن الحكومة ستطمئن وقتها أن المجتمعات المحلية ستدعم هذه الجهود، الأمر الذي سيجعل الجميع يخرجون منتصرين بلا مهزوم. وتوضح تلك الأمثلة كيف يمكن للحكومة تطوير العلاقات مع المجتمعات، وتوجيه الاستثمارات العامة بشكل أفضل لخدمة احتياجات الجمهور، وتجنب المشروعات التي ستقاومها المجتمعات أو تستاء منها.
كانت ثورة 2011 دعوة لأشياء كثيرة: كانت مطالبة بالمساءلة والشفافية العامة، ووضع حد للفساد والحكم الاستبدادي، وإصلاح الحكومة وإعادة تشكيل العلاقة بين قادة مصر وشعبها. لقد كانت ببساطة مطالبة الحكومة بالاستماع والاستجابة لاحتياجات ليس فقط عدد قليل من المواطنين ذوي الثروة والنفوذ والسلطة، ولكن أيضاً لاحتياجات جميع المواطنين. سيكون إضفاء الطابع المؤسسي على الحق في المشاركة العامة موضع خلاف وصعب التنفيذ. وقد يتم تهميش مشاركة ممثلي المواطنين داخل الحكومة وفي المجتمعات بسبب المصالح القوية التي لا تزال تحكم البلاد. لكن ثمة حاجة هائلة إلى مشاركة العامة، حيث يعتمد الوعد بمصر عادلة ومنصفة على ذلك.
[1] ينطبق الحق في المشاركة العامة على جميع المواطنين، بغض النظر عن العمر أو الدخل أو الدين أو الجنس أو الموقع. ونظراً لطبيعة عمل “تضامن”، فإننا نركز على حقوق سكان الحضر ولكن لا ينبغي اعتبار ذلك بمثابة تجاهل لحقوق الأفراد الذين يعيشون خارج المدينة.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments