ربما لا يمكن اعتبار “الحق في الفضاء العام” من بين حقوق الإنسان التقليدية مثل “الحق في مستوى معيشي لائق” أو “الحق في سكن ملائم”، أو حرية الدين أو التعبير. وعادة ما يُدرج الحق في الفضاء العام ضمنياً في حقوق أخرى مثل “الحق في حرية التعبير” أو “الحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات”. إلا أن ثمة دول عديدة قامت بذكر الحق في الفضاء العام بشكل صريح في دستورها، كما فعلت كولومبيا والتي ينص دستور عام 1991 فيها على أنه “من واجب الدولة حماية سلامة الفضاء العام وتخصيصه للاستخدام المشترك، ولهذا أولوية على مصلحة الفرد”. وتم صياغة هذا الدستور في وقت كانت فيه بوغوتا، عاصمة كولومبيا، تعتبر واحدة من أخطر مدن العالم نتيجة العنف السياسي وسيطرة العصابات وجماعات الإتجار بالمخدرات على مساحات واسعة من البلاد. وكان المواطنون يعانون وكانت المساحات العامة في جميع أنحاء البلاد مهدمة. ومن خلال ضمان الحق في الفضاء العام، أخذت الدولة على عاتقها الالتزام بحماية النسيج الاجتماعي للأمة.
وكان إدراج كولومبيا لوجوب حماية الفضاء العام في دستورها اعترافاً ضمنياً بدور تلك الأماكن في تحسين حياة الناس. أما دستور الإكوادور لعام 2008 فيقدم خطوة إضافية من خلال تحديده العلاقة بين وجود الفضاء العام والتحسن في نوعية الحياة، حيث يقول:
“للأفراد الحق في الوصول إلى الفضاء العام والمشاركة فيه كفضاء للمناقشات والتبادل الثقافي واللحمة الاجتماعية وتعزيز المساواة والتنوع. يجب على الحق في التواجد في الفضاء العام، كواحد من المظاهر الثقافية للفرد، أن يُمارس دون أي قيد آخر بخلاف تلك المنصوص عليها في القانون، وفقاً لمبادئ الدستور”.
إن الفضاء العام هي محور المجتمعات وأساس مدينة ديمقراطية تتسم بالمساواة.، وهو المكان الذي يتعرف فيه الناس على بعضهم البعض، عبر البيع أو الشراء أو التواصل الاجتماعي أو اللعب أو الاحتجاج أو التعبير عن الآراء والأفكار من خلال الفنون أو الأداء الفني أو الصلاة والتفاعل مع الغرباء والعائلة والأصدقاء. إنه “الشرفة الأمامية” للمجتمع المدني (المكتبات العامة والمراكز المجتمعية والمدارس العامة وأماكن العبادة).
ولكي نعتبر المكان مكاناً عاماً حقاً، فعليه أن يكون متاحاً لجميع المواطنين بصرف النظر عن العرق أو العمر أو الجنس أو الدخل أو الدين. ويجب أن تشتمل تلك الفضاءات على أنشطة بوسع الناس ممارستها كي يكون لهم سبب لارتيادها؛ فمواقف السيارات مثلاً تعتبر عامة، لكن لا يمكن اعتبارها فضاءً عاماً بأي حال من الأحوال. ويجب أن يكون الفضاء العام مريحاً وقابلاً للاستخدام وآمناً ونظيفاً ومتاحاً للنساء والرجال والأطفال والمسنين. وأخيراً، يجب أن يكون الفضاء العام اجتماعي كي يرغب الناس في العودة إليه مراراً لرؤية أصدقائهم أو التنزه مع أسرهم.
لا يوجد في القانون المصري، ولا في الممارسة العملية، حق للمصريين في الفضاء العام. وتحتاج القاهرة بشدّة إلى المزيد من الفضاءات العامة، وخاصة في المناطق السكنية غير الرسمية المكتظة فيها، إذ يشير نجاح حديقة الأزهر المبنية حديثاً والشعبية الكبيرة التي اكتسبتها إلى وجود طلب هائل على الفضاء العام جيدة، رغم وجود رسوم للدخول إلى تلك الحديقة. وثمّة مكان عام شهير آخر في القاهرة هو الشريط الأخضر الضيق لشارع العروبة في الطريق إلى المطار. ما الذي يمكن قوله عن مدينة يعتبر شريط أخضر ضمن طريق سريع مكان جذب شهير للعائلات؟ إن الأماكن الخضراء محدودة جداً في القاهرة لدرجة قيام الناس بمحاولة الارتجال وتحويل أي مكان أمامهم إلى مكان للعب كرة القدم أو النزهة أو الارتياد مع الأصدقاء أو الاسترخاء.
وثمة أسباب عديدة لافتقار القاهرة إلى الفضاءات العامة؛ أبرزها الأمن. فقد كان نظام مبارك مصمماً على التمسك بالسلطة وإرساء الاستقرار على “النظام” من خلال السيطرة على الفضاءات العامة. فقد كانت الحواجز الأمنية المؤقتة شائعة في جميع أنحاء المدينة، وكانت الحواجز الدائمة ذات اللونين الأخضر والذهبي بدورها محاولة واضحة للسيطرة على الأماكن التي يمكن أن يتحرك فيها الناس. ثانياً، سمح غياب الشفافية بقيام الحكومة بتفضيل منح أراضي المدينة لأصحاب مشاريع الإنشاءات من القطاع الخاص. كما أنه ليس من المفاجئ عدم وجود فضاءات عامة في القاهرة نظراً لأن الحكومة المصرية لا تُعتبر حكومة منفتحة ولا هي خاضعة للمساءلة أمام الناس. فمن هي الجهة التي قررت رصف أكثر من ثلاثة أرباع حديقة الأزبكية (والتي كانت في السابق أكبر حديقة عامة في القاهرة)؟ ومن هي الجهة التي قررت تسييج الأماكن العامة الخضراء الشحيحة أصلاً؟ ومن هي الجهة التي سمحت للأندية الخاصة والعسكرية باحتكار الإطلالة على نهر النيل؟ إضافة إلى ما سبق، أدت التطورات غير الرسمية في الإسكان إلى تقليص الفضاء العام بسبب عدم قدرة الحكومة على إنشاء سوق عقارات فاعل في المدينة قادر على أن يلبي مطالب السكان ذوي الدخل المنخفض والمتوسط (انظر المزيد عن الحق في الإسكان). ثالثاً، انتزع المسؤولون الحكوميون الأماكن العامة التاريخية من المواطنين لصالح السياحة. صحيح أن حماية المواقع التاريخية تعد أمراً ذا أهمية، ولكن يجب أن تكون المباني التاريخية جزءاً من المجتمعات المحلية المحيطة بها ويجب استخدامها بطرق مستدامة (انظر المزيد عن الحق في التراث الثقافي). أخيراً، أدت متطلبات المرور إلى الحد من مساحة الفضاءات العامة في المدينة.
ولا يعتبر توفير مساحة عامة في القاهرة بالأمر السهل، إذ أنه سيتعارض مع “النظرة المنطقية” بوجوب توفير تلك المنطقة للتطوير العقاري، فضلاً عن أن إنشاء مكان عام في القاهرة سيكون مكلفاً وصيانته مكلفة أكثر. وفيما يتعلق بالمناطق المبنية بالفعل، ثمة أسئلة جدية حول كيفية إنشاء مساحات عامة جديدة دون هدم المباني وتشريد الأسر. ولا نقول بأن على الحكومة اتخاذ إجراءات متطرفة لإنشاء هذه الأماكن الجديدة، ولا ندعو إلى تجميد سوق العقارات أو إزالة حركة مرور المركبات من المدينة. نحن ندعو إلى اتباع نهج الفطرة السليمة؛ بمعنى آخر، يجب على الحكومة العمل بشكل مشترك مع السكان والأحياء والمجتمعات والسماح لهم بتحديد أولوياتهم والتفاوض معهم حول خطة عملية وعادلة لتحسين الفضاء العام في القاهرة وكيفية تمويل تلك الخطة. كما يمكن للحكومة أيضاً اتخاذ تدابير لتحسين إمكانية الوصول إلى الفضاءات العامة الحالية وصورتها وسلامتها وقابليتها لجذب الجميع من خلال دعوة المجتمع المدني والجهات الفاعلة الخاصة لتوسعة تلك المساحات بدلاً من التعامل معها بخوف وريبة. وسيقدّم ما سبق مساعدة هائلة في تحسين نوعية حياة مواطني القاهرة. وأظهرت ثورة يناير 2011 قيمة الفضاء العام المفتوح عندما أنتج ميدان التحرير أفكاراً سياسية وكان يرمز إلى تضامن وشجاعة وإبداع المصريين من كل أطياف المجتمع. يجب تشجيع هذه الروح العامة بشكل أكبر مع قيام الحكومة والجهات الفاعلة الخاصة والعامة بالعمل معاً على بناء المزيد من الفضاءات العامة في جميع أنحاء القاهرة ومدن أخرى في مصر.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments