على الرغم من موقعها المتميز وسط حي المهندسين الراقي، وإطلالتها المباشرة على محور 26 يوليو – أحد أهم المحاور المرورية بالقاهرة الكبرى، إلا أن ميت عقبة نظراً لكونها منطقة شعبية لم تحظ بنفس القدر من الاهتمام وتوافر الخدمات الذي تحظى به المناطق المجاورة لها. ويظهر ذلك جلياً في حالة الشوارع الداخلية بالمنطقة والتي تعاني من انسداد وصلات الصرف الصحي وتدهور مستوى رصفها الذي يجعل من مرور السيارات والمشاة بها معاناة يومية. وفي هذا السياق، تم رصد المبادرة المتميزة لشباب “اللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة بميت عقبة” من أجل الدفع بالجهات التنفيذية بمحافظة الجيزة لتحسين حالة بعض شوارع المنطقة بالتعاون مع الأهالي.
برغم أهمية تمهيد شوارع المنطقة من أجل حركة المشاة والسيارات وأثر ذلك الواضح على المنطقة، إلا أن العنصر الأهم في تلك المبادرة هو الحراك الشعبي الواعي لأهالي وشباب ميت عقبة الذي أدى إلى تعظيم الاستفادة من الموارد العامة المحدودة للغاية داخل حي العجوزة. تم ذلك من خلال توجيه هذه الموارد للتعامل مع أولويات المنطقة من وجهة نظر سكانها. ولم تتوقف جهودهم عند هذا الحد، بل اشتراك أهالي المنطقة أيضاً في كل خطوات المبادرة بما في ذلك أنشطة الرقابة الشعبية على عملية التنفيذ والتي زادت من كفاءة استخدام الموارد العامة المتوفرة لدى الحي.
ا
الوضع قبل المبادرة
مثل العديد من أحياء القاهرة الكبرى، تعانى شوارع ميت عقبة من تدهور حالتها نظراً للحالة السيئة لشبكات الصرف والمياه والكهرباء. كذلك عدم اكتمال بعض هذه الشبكات في المنطقة، مما يؤدى إلى القيام بتكسير أعمال الرصف من حين إلى آخر من أجل إصلاح أو استكمال الشبكات، وقد يتم إعادة الرصف بشكل سيء أو لا يتم مطلقاً. وفي حالة تكرار رصف الشارع أكثر من مرة فإن منسوب الشارع يرتفع، مما يؤدي إلى مشاكل أخرى بالصرف الصحي بالمنازل حيث ينخفض منسوبها تدريجياً مقارنة بالشارع. ويضطر السكان في كثير من الأحيان إلى بناء حواجز أو تعلية الرصيف لحماية مداخل البيوت، مما يؤثر سلباً على سيولة المرور بالشوارع.
وبغض النظر عن ذلك، لا يجد أهالي ميت عقبة – كباقي المصريين – وسيلة للتعبير عن مطالبهم وأولوياتهم والتواصل مع جهات الإدارة المحلية سوى من خلال المجالس الشعبية المحلية المنتخبة – التي تم حلها بعد الثورة – والتي لم تكن تعبر في كثير من الأحيان عن الاحتياجات الحقيقية للقطاعات العريضة من أهالي المنطقة. لذلك، فحتى الموارد المالية القليلة المتوفرة لدى وحدات الإدارة المحلية (الأحياء) يتم إنفاقها في كثير من الأحيان بصورة تفتقد لعدالة التوزيع بين مناطق الحي الواحد. كما قد يتم إنفاقها في أوجه لا تمثل الأولويات الحقيقية لسكان هذه المناطق، وبصورة تفتقد للكفاءة سواء لأسباب تتعلق بالفساد الإداري أو ضعف مستوى بعض القائمين على تنفيذ مشروعات الأحياء.
الفكرة والتنفيذ
بداية المبادرة وخطوات العمل
بدأت المبادرة بعد الثورة مباشرة، بجهود من شباب اللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة بميت عقبة التي تكونت عقب الثورة، حين علموا بوجود مشروع مدرج بالخطة الحكومية منذ عام 2008 لإدخال الغاز الطبيعي إلى المنطقة. ولكن حسب رواية بعض الأهالي، شكل أحد سكان المنطقة عائقاً أمام تنفيذ المشروع لأنه كان مستفيداً من عدم دخول شبكة الغاز الطبيعي نظراً لتملكه مستودع أسطوانات الغاز القريب من المنطقة. تطلب الأمر أن يقوم الشباب بالتواصل مباشرة مع الجهات التنفيذية من أجل حل مشكلة الأنابيب أو البدء في تنفيذ شبكة الغاز الطبيعي المتوقفة، ولم يكن ذلك سهلاً في البداية. فعندما بدأت محاولاتهم للتواصل مع رئيس الحي ونائب محافظ الجيزة كانت هناك حالة من عدم الترحيب وعدم الرغبة في الاستماع اليهم، لأن هؤلاء الشباب – على حد قول المسئولين – لا يمثلون المواطنين وليس من حقهم التحدث باسمهم. لذا، قام الشباب باستخدام بعض أساليب الضغط مثل دعوة المواطنين للقيام بوقفات احتجاجية والاعتصام أمام وزارة التموين ومبنى المحافظة من أجل إقناع المسئولين بتنفيذ مطالبهم. بالتدريج استطاع الشباب أن يفتحوا قنوات للاتصال مع المسئولين. وبالفعل فقد تغير الوضع فيما بعد، وأصبح شباب المنطقة على اتصال دائم برئيس الحي ونائب المحافظ من أجل توصيل مشكلات المنطقة للمسئولين، الذين أصبحوا بدورهم أكثر استجابة للتعامل مع هذه المشكلات.
بعد محاولات التواصل والعديد من المفاوضات مع شركة الغاز، التي ادعت في البداية عدم وجود خرائط وتصاريح حفر بالمنطقة وعدم إمكانية العمل بها بسبب ضيق الشوارع، استطاع الشباب بالسعي لدى الجهات المختلفة أن يحصلوا على الخرائط في شهر يوليو 2011 حيث بدأ التنفيذ بالفعل.
أثناء مد شبكات الغاز الطبيعي حدثت بعض المعوقات، فعلى سبيل المثال رفضت الشركة المنفذة البدء في العمل بسبب عدم وجود مكان لتخزين المعدات، وقد تم حل المشكلة من خلال سعى الشباب لدى الحي لإصدار تصريح لاستخدام أرض فضاء ملك للأوقاف في شارع السودان لأجل هذا الغرض. استمر الشباب في المتابعة اليومية مع شركة الغاز وحل الخلافات والمعوقات حتى تم الانتهاء من العمل بالمرحلة الأولى في فبراير 2012 (وهى القطاع 27 وفقاً لتقسيمات شركة الغاز). وكان العمل ما يزال جارياً في المرحلة الثانية (القطاع 28) حينما ظهرت فكرة تبليط الشوارع.
من المتعارف عليه أن شركة الغاز تقوم بعد الانتهاء من أعمال التركيب بـ”إعادة الشيء إلى أصله”، مما يعنى ترميم أو إعادة رصف (ترقيع) الجزء الذي قاموا بتكسيره في الشارع. ويتسبب ذلك العديد من المشكلات وفق حديث أحد شباب اللجنة: فعندما تقوم الشركة بإعادة الشيء إلى أصله تقوم بحساب تكلفة الرصف لطول الشارع بالكامل رغم أن الأعمال الحقيقية تكون لجزء صغير فقط من الشارع مما يؤدى إلى إهدار المال العام. فضلاً عن ذلك، فإن أي أعمال إصلاح أو مد شبكات مستقبلية ستؤدي حتماً إلى إعادة تكسير الأسفلت وبالتالي تسوء حالة الشارع مرة أخرى.
من أجل ذلك، اقترح شباب اللجنة – بعد استشارة بعض المهندسين – أن يتم استخدام التمويل الخاص بـ”إعادة الشيء إلى أصله” في تمهيد الشوارع باستخدام بلاط الإنترلوك الأسمنتي بدلاً من الأسفلت. تم عرض هذا المقترح على رئيس الحي في البداية على أن يتم ذلك لشارعين فقط هما “عفيفي بحيرى” و”محمود حبيش”، واللذان يمثلان المداخل الرئيسية لمنطقة ميت عقبة من جهة شارع وادي النيل. استغرقت الموافقة على المقترح ما يقرب من العام – تعاقب خلاله على الحي ثلاثة رؤساء – حتى صدر القرار في منتصف شهر يناير 2013 بالبدء في أعمال التبليط. وبناء على أنشطة المبادرة تقرر زيادة الميزانية للعمل في تسعة شوارع بدلاً من اثنين فقط.
ا
الموارد ومصادرها
قام الحي بتوفير مبلغ 427 ألف جنيه لتبليط الشوارع التسعة. وبحسب ما يؤكده أحد شباب اللجنة الشعبية أن تكلفة البلاط الإنترلوك كانت أقل من تكلفة الرصف، فالمتر المربع من البلاط يتكلف في حدود 180 جنيهاً فقط بينما يتكلف المتر المربع من الرصف 350 جنيهاً. وقد كان ذلك أحد أهم الأسباب التي دعت إلى تفضيل البلاط على الأسفلت. أدي فرق التكلفة هذا إلى تبليط المزيد من الشوارع والتي زاد عددها نتيجة لهذا الوفر، كذلك إمكانية القيام بأعمال أخرى مثل التشجير. أما بالنسبة للموارد البشرية فقد قام الشباب بجهود كبيرة في المتابعة والإشراف، كذلك ساهم الأهالي بأنفسهم في أعمال التنفيذ. كما استعان شباب المنطقة بالخبرات الفنية من خلال بعض المهندسين الذين اهتموا بمساعدتهم منذ البداية.
ساهمت معرفة شباب اللجنة الشعبية بالميزانية المقررة، وكميات التبليط المتعاقد عليها في إحكام الرقابة الشعبية المباشرة من قبل شباب الحي. أدى ذلك مباشرة إلى تأكد شباب المنطقة من الجودة الفنية للأعمال المنفذة، كذلك حصر كميات الأعمال المنفذة بصورة دقيقة. وهو ما ساهم بدوره في عدم التلاعب بهذه الكميات والتأكد أن المبالغ التي اعتمدت من الحي قد تم استخدامها بالكامل في تنفيذ كل الكميات التي تعاقد عليها مقاول أعمال التبليط وبالجودة المطلوبة.
ا
المساعدات / المعوقات
لم تتلق المجموعة أية مساعدات من جمعيات أهلية. ولكن تلقى شباب المنطقة عروضاً للمساعدة والتبرعات المالية من بعض الأحزاب السياسية وبعض أعضاء الحزب الوطني السابقين، إلا أن شباب اللجنة الشعبية رفضوا هذا الأمر تماماً حتى لا يتم إقحام الدعاية السياسية في هذا العمل. وقد سبب لهم ذلك بعض المضايقات سواء من أعضاء الحزب الوطني السابقين، الذين قاموا – وفقاً لشباب المنطقة – بادعاء أن هذه كانت خطة حكومية سابقة وأن هؤلاء الشباب ليس لهم أي فضل أو جهد في تنفيذها. كذلك صرح شباب المنطقة أنهم اضطروا لمواجهة عدد من أعضاء أحد الأحزاب السياسية، الذين قاموا بالترويج في المنطقة أن هذه خطة الحزب التي تنفذها الحكومة، واستغلوا ذلك للدعاية السياسية لحزبهم.
كما واجه شباب اللجنة بعض المشاكل الفنية مع مقاول أعمال التبليط أثناء التنفيذ بسبب عدم الاهتمام بتنفيذ الأعمال بجودة عالية حسب أصول الصنعة ورغبته في إنهاء الأعمال سريعاً وبمستوى سيئ. فقام شباب اللجنة بإرغام المقاول على التوقف عن استكمال العمل وإعادة تركيب الأجزاء التي لم يتم تنفيذها جيداً.
ومن العقبات التي واجهتهم أيضاً سوء حالة شبكات الصرف والكهرباء بالشوارع، وقد أوضح شباب اللجنة رغبتهم في تغيير الشبكات المهترئة قبل البدء في أعمال التبليط بالشوارع التسعة، ولكن لم يتم تغيير أي من الشبكات نظراً لعدم وجود تمويل لذلك بالحي، مما يعرض الشوارع التي تم الانتهاء من تبليطها لحدوث مشكلات بالصرف والاضطرار إلى فك البلاط وتغيير الشبكات في وقت لاحق. ولكن بوجود هذا النوع من البلاط يمكن إعادة الوضع إلى أصله بسهولة دون الحاجة مجدداً إلى موارد مالية كبيرة.
ا
قدمت هذه التجربة نموذجاً جيداً للإدارة المحلية والتواصل مع الجهات التنفيذية، والمشاركة من قبل المواطنين في آلية اتخاذ القرار، بالإضافة إلى الرقابة على تنفيذ الأعمال والإدارة الجيدة للموارد العامة. وكان من النتائج المباشرة لهذه المبادرة أنها حققت تحسناً ملحوظاً في حالة الشوارع، مما سيجعل الحركة في تلك الشوارع سواء بالسيارات أو سيراً على الأقدام أسهل وأفضل. وأدى المظهر الجديد للشوارع إلى اهتمام الأهالي بعمليات النظافة وتعاقدهم مع أفراد لتنظيف وجمع القمامة على مستوى الشارع، كذلك البدء في أعمال تشجير وزراعة بالشوارع التي تم تطويرها. كما أن مشاركة السكان بإبداء آرائهم أو بالمساعدة في التنفيذ سيؤدى حتماً إلى الحفاظ على الشوارع في حالة جيدة. انعكس كل ذلك على مستوى رضا وسعادة السكان بعملية التغيير التي تمت في شوارعهم. أما عن النتائج غير المباشرة، فقد أدت المبادرة إلى فتح قنوات اتصال دائم مع الجهات الحكومية وبناء ثقة متبادلة بين شباب اللجنة الشعبية وبين الجهات التنفيذية. كما طورت التجربة من خبرات هؤلاء الشباب في الإدارة المحلية وشجعتهم على طرح أفكار جديدة خاصة في مجال تنظيم مجتمعهم بصورة تساعد على تطوير منطقتهم وحل مشاكلها في المستقبل.
ا
الاستدامة
الاستدامة الاقتصادية
يتميز استخدام بلاط الإنترلوك اقتصادياً عن الرصف بالأسفلت لعدة أسباب: أولاً من حيث التكلفة الأولية حيث تقل تكلفة المتر المربع من الإنترلوك عن الأسفلت بدرجة كبيرة؛ وثانياً، إمكانية فك وتركيب الإنترلوك مرة أخرى من أجل أعمال صيانة الشبكات بالشوارع وهو ما يغني عن الحاجة إلى إعادة الرصف من حين إلى آخر، ولا يتطلب ذلك مهارات فنية معقدة أو مواد لا يستطيع الأهالي الحصول عليها مباشرة مثل الأسفلت.
الاستدامة البيئية
لم يكن اختيار البلاط بديلاً عن الأسفلت مجرد فكرة عابرة، لكن الشباب توصلوا لهذا القرار عن طريق أخذ رأي الأهالي، وأيضاً بعد استشارة ذوي الخبرة من المهندسين الذين قدموا لهم المساعدة الفنية. فإمكانية فك البلاط وتركيبه وإعادة استخدامه تحافظ على المواد المستخدمة لتمهيد الشارع لأطول فترة ممكنة مما يساهم في تحسين الاستدامة البيئية للمشروع والحفاظ على حالة الشارع بصورة جيدة لأطول وقت ممكن. وجدير بالذكر أنه كان من المفترض أن يتم تغيير شبكات البنية الأساسية المهترئة بالشوارع أولاً قبل التبليط ولكن لم يتم ذلك الآن لعدم توفر الموارد المالية لدى الحي في الوقت الراهن. قد يسبب ذلك مشاكل فيما بعد، ولكن نظراً لمرونة الإنترلوك، فإن تغيير الشبكات يمكن حدوثه في المستقبل دون مشاكل ويمكن بسهولة إعادة الشارع إلى حالته.
الاستدامة الاجتماعية
أبدى سكان الشوارع التي تمت بها أعمال التبليط اهتماماً كبيراً بالمشاركة والمساعدة في إتمام الأعمال، حتى أن الكثير من الأهالي تطوعوا بالقيام ببعض الأعمال بأنفسهم. ورغم ما يمثله ذلك من دلالة على نجاح الفكرة وإعجاب الناس بها ورغبتهم في المساهمة – وبالتالي الحفاظ عليها في المستقبل – إلا أنه قد تم استغلال ذلك استغلالاً سلبياً من قبل المقاول المنفذ للأعمال. فقد اعتمد المقاول على مساعدات الأهالي وجهودهم واستغلها لتقليل أعداد العمالة الخاصة به لتوفير أجورهم دون تخفيض قيمة الأعمال. إلا أن الشباب تداركوا الأمر وطلبوا من الناس عدم القيام بالأعمال بأنفسهم تفادياً لاستغلال المقاول لهم.
ا
التكرار والخطط المستقبلية
ينوي أعضاء اللجنة الشعبية الاستمرار في مطالبة المسئولين باستكمال تبليط بقية شوارع ميت عقبة كلها بالإنترلوك. وبالفعل، فقد تم البدء في أعمال التبليط بشارع جديد ليصبح العدد الإجمالي عشرة شوارع حتى مارس 2013. بالإضافة إلى ذلك، يقوم شباب اللجنة الشعبية الآن بإعداد خطة تطوير شاملة للمنطقة، تشتمل على أعمال تشجير وزراعة الأسطح وجمع القمامة وأعمال تجميل بالشوارع، وجارى الاتفاق مع عدد من المبادرات والجمعيات على الاشتراك وتقديم العون. ومن المقرر أن يتم البدء في العمل بشارع “محمود حبيش” كمشروع تجريبي. وجدير بالذكر أنه في بعض شوارع ميت عقبة، قام السكان بانتخاب مجلس إدارة للشارع لتمثيل السكان، وقد اتفق مجلس إدارة شارع “محمود حبيش” على تكوين صندوق نقدي والبدء في تنفيذ خطة عمل لتطوير الشارع.
على مستوى السياسات العامة، يقترح أحد الشباب – بناء على خبرتهم في العمل بالمحليات طوال السنتين الماضيتين – ضرورة تعديل قانون المحليات لتفعيل دور الرقابة الشعبية للحد من الفساد، وصرف الموارد المتاحة على الأولويات الحقيقية لأهالي كل منطقة. ويسعى شباب اللجنة الشعبية الآن للتواصل مع مبادرات ولجان شعبية مماثلة في أحياء أخرى لتبادل الخبرات والقيام بمشروعات أخرى مماثلة في هذه الأحياء.
كما يرى الشباب أن تسليط الإعلام للضوء على مثل هذه التجارب له دور مهم وفعال في توصيل التجربة لعدد كبير من المواطنين، ونشر صورة إيجابية عن شباب الثورة وما يقومون به من خدمات للمجتمع، كما أنه يدفع بالآخرين إلى الاستفادة وتكرار التجربة في مناطق أخرى. وقد قام الشباب بعدد من التسجيلات واللقاءات عن المبادرة، وهى متاحة الآن على موقع “يوتيوب”:
“ثورة مصر مستمرة في ميت عقبة”
“شباب ميت عقبة يحاربون الفلول”
ا
تختلف هذه التجربة عن نماذج أخرى كثيرة تمت فيها أعمال رصف وتبليط وما شابه ذلك من أعمال تطوير عمراني. فهذه الأعمال لم تتم بتمويل من إحدى الشركات أو المؤسسات العاملة بالتنمية، ولا من برامج تطوير العشوائيات أو الجمعيات الأهلية، ولكنها جاءت بتمويل حكومي من خلال استخدام الموارد المتاحة لدى الحي والمحافظة، وبناء على ضغط شعبي واتصال ومتابعة دورية مع المسئولين الحكوميين. كما أن القرار الخاص باختيار نوعية التبليط جاء بناء على اقتراح المواطنين وبعد الاستعانة بالخبرات الفنية والهندسية الملائمة. ولم يكن قراراً فوقياً من متخذي القرار، حيث تمت الاستجابة إلى مقترحات شباب اللجنة واستبدال الرصف بعمل بلاط إنترلوك بعد أن استطاعوا إقناع المسئولين بالأسباب الفنية والاقتصادية لهذا الاختيار. ويعتبر هذا إنجازاً في حد ذاته ونوعاً من بناء الثقة وإفساح المجال لمشاركة المواطنين في القرارات التي تخص احتياجاتهم وحياتهم اليومية، إذ أنهم أدرى الناس بها.
ويكمن نجاح تجربة اللجنة الشعبية بميت عقبة في تبليط شوارع المنطقة في عدة مستويات يمكن أن تشكل دروساً مستفادة لمناطق وأحياء أخرى تعود بالنفع سواء على سكان هذه المناطق أو على وحدات الإدارة المحلية بها. ويتلخص ذلك فيما يلي:
- فتح قنوات الحوار والاتصال المباشرة بين سكان المنطقة ومسئولي الإدارة المحلية على مستوى الحي والمحافظة لتوصيل احتياجات وأولويات المنطقة الحقيقية للجهات الحكومية: في الحقيقة، لم يكن هذا الأمر بالسهولة التي يبدو عليها. فقد تطلب ذلك الكثير من الجهد والضغط واستخدام الكثير من الوسائل سواء بالحوار المباشر، أو الوقفات الاحتجاجية، أو استخدام وسائل الإعلام، وأخيراً شبكات اتصال الأهالي السياسية والمجتمعية. لم يتقبل مسئولو الإدارة المحلية ذلك الأمر بسهولة في البداية، ولكن مع مرور الوقت وبناء الثقة المتبادلة بدؤوا في الاستجابة تدريجياً للأهالي والتعاون معهم بصورة إيجابية. أدى ذلك التعاون إلى توجيه الموارد القليلة المتاحة إلى ما يحتاجه السكان بالفعل. ففي كثير من الأحيان، ولغياب التواصل المباشر مع سكان المناطق المختلفة، تقوم الأحياء بأعمال صيانة وخدمات قد تكون جيدة في حد ذاتها ولكنها لا تمثل الاحتياجات الحقيقية للسكان.
- المطالبة المستمرة بحق المواطنين في شفافية أجهزة الدولة وإتاحة المعلومات لهم عن موارد وخطط الإدارة المحلية: لم يكن لأي من أنشطة المبادرة أن يتحقق دون سعي شباب اللجنة الشعبية الدؤوب للوصول إلى المعلومات والخرائط والخطط والموازنات الخاصة بالحي والمحافظة. مثل هذه المعلومات هي حق أساسي وطبيعي لأي مواطن يعيش في دولة يفترض أنها ديموقراطية. ولكن في الواقع المصري، تعد مثل تلك المعلومات البسيطة سر من أسرار الدولة يصعب الحصول عليه من قبل المواطنين العاديين. المعلومات عن موازنات الأحياء ومشروعاتها وخططها من أجل التطوير هي حق أصيل لكل مواطن استطاع شباب اللجنة الشعبية انتزاعه في حالة ميت عقبة.
- تفعيل دور الرقابة الشعبية والمجتمعية على أداء الأحياء واستخدام المواطنين لحقهم في المسائلة: من خلال هذه المبادرة قام شباب اللجنة بالضغط على صانعي القرار من أجل حصولهم على حقوقهم المشروعة، والتي لا يحول دون تحقيقها شيئ سوى البيروقراطية وتكاسل بعض الإدارات عن القيام بأدوارها، وغياب آليات الرقابة والمتابعة التي تضمن صرف الموارد العامة على احتياجات السكان الحقيقية، وتحول دون سرقة أو إهدار هذه الموارد. لم يكن ذلك ممكناً دون معرفة أهالي المنطقة بكم الموارد المتاحة للمشروع وحجم الأعمال التي سيتم تنفيذها في المقام الأول. فمن خلال رقابة سكان المنطقة المباشرة على أوجه إنفاق الميزانية المقررة، وكمية الأعمال المنفذة من المقاول ومتابعة جودتها أمكن التأكد من تمام هذه الأعمال بأفضل صورة ممكنة وبما يخدم أهالي المنطقة. ولكن كل ذلك يعد من أعمال الرقابة اللاحقة على مشروع تم اعتماده بالفعل من إدارة الحي. الأهم هنا في هذه المبادرة هو استخدام الأهالي لحقهم في مسائلة الحي عن الكيفية والطرق الفنية المتبعة التي سيتم بها تنفيذ الأعمال قبل البدء في تخطيط المشروع. هذه المسائلة واستعانة الأهالي ببعض الخبرات الفنية البسيطة أدت إلى طرح حلول جديدة لم تكن في خطة الحي الأصلية وساهمت في زيادة حجم الأعمال المنفذة بصورة تفوق الخطة الأصلية، بل وتساهم في حسن استخدام موارد المشروع في المستقبل عند إجراء أي أعمال جديدة.
كل هذه الأدوار السابقة هي جزء أصيل من أدوار المجالس الشعبية المحلية المنتخبة التي من المفترض أنها تمثل سكان المناطق والأحياء المختلفة بمصر. لكن في الواقع – وبرغم غيابها حالياً بسبب حلها بعد الثورة – لا تقوم المجالس الشعبية حتى في حالة وجودها بمثل هذا الدور سواء في كونها قناة الاتصال الشرعية بين المواطنين والدولة للتعبير عن احتياجات المواطنين وتطلعاتهم، أو في المطالبة بتوفير المعلومات حول موازنات الأحياء وخططها للمواطنين العاديين، أو في ممارسة دور الرقابة على هذه الموازنات والخطط وأوجه إنفاقها وتنفيذها. يعود ذلك لعدة أسباب منها: قلة الموارد الموجهة من الدولة إلى المستوى المحلي وعدم عدالة توزيع هذه الموارد بين الأحياء المختلفة، وجوانب الفساد التي شابت هذه المجالس وسيطرة الحزب الحاكم السابق عليها، وضعف دور المجالس المحلية في المسائلة نتيجة قانون الإدارة المحلية الحالي الذي يحرمها حق طرح الثقة في إدارات الأحياء والمحافظات، وأخيراُ غياب التشريعات التي تكفل حق المواطنين في حرية الوصول للمعلومات أو التي تعطي المواطنين العاديين الحق في الرقابة الشعبية على أعمال الإدارات المحلية وتنظم مثل هذا الدور بطريقة معترف بها من الدولة.
تميزت اللجنة الشعبية بميت عقبة بأنها كيان مستقل يعتمد على العمل التطوعي والجهود الذاتية. فشباب اللجنة جزء من نسيج المجتمع وليسوا أغراباً عن المنطقة مما يضفي عليهم شرعية من نوع مختلف، فهي ليست سلطة من جهة إدارية أو حكومية تستمد شرعيتها بحكم القانون، لكنها شرعية شعبية تعتمد على المشاركة والمعرفة الحقيقية بمشاكل الناس وتحديات حياتهم اليومية. ويعتبر ذلك أمراً له العديد من الإيجابيات، إذ يكون من السهل عليهم التواصل مع الناس.
ولكن هذا الدور يطرح أيضاً العديد من التساؤلات حول استمرار مثل هذه الكيانات في القيام بدورها في المستقبل القريب. بدون شك تحتاج مثل هذه الكيانات إلى المزيد من التطوير المؤسسي وتحسين خبراتها العملية في مجالات متعددة، ولكن:
- ما هو الإطار التنظيمي الذي يتيح لهذه اللجان القيام بدورها كممثل عن المواطنين وكجهة رقابية معترف بها من الدولة على موازنات وخطط وأداء الإدارة المحلية؟
- كيف ستصمد هذه الكيانات الشعبية وتحافظ على حياديتها وتجد لنفسها دوراً في مواجهة الصراعات السياسية والحزبية وفي ضؤ وجود مجالس شعبية منتخبة ستفرزها انتخابات المحليات المقبلة؟
نحتاج جميعاً لدراسة مثل هذه المبادرات بصورة متعمقة، والتطلع إلى أمثلة وخبرات مشابهة لدي دولاً مثلنا حققت تقدماً كبيراُ في هذا المجال مثل البرازيل التي تعتمد أسلوب وضع ميزانيات الأحياء والمدن بمشاركة السكان المحليين بنجاح منذ تسعينيات القرن الماضي، أو الهند التي أقرت قانوناً هاماُ لحق المواطنين في المعلومات منذ عام 2005 والذي بناء عليه تكونت مئات الآلاف من لجان الرقابة والمسائلة الشعبية في جميع أنحاء الهند بشكل تعترف به الدولة من أجل تحسين أداء الإدارات المحلية هناك.
ليس هناك أدنى شك أن المبادرات واللجان الشعبية بعد ثورة 25 يناير قد قطعت شوطاً كبيراُ في الانتقال بالعمل التطوعي والجماهيري من مفهوم الإحسان والأعمال الخيرية، إلى التنمية القائمة على المطالبة بحقوق المواطنين. ويعتبر الدور الذي يقوم به هؤلاء الشباب بمثابة دوراً بديلاً عن المجالس الشعبية المحلية التي يعلم الجميع كم سببت من مشاكل ومعوقات بسبب الفساد الذي شاب أعضائها، والاستغلال الحزبي والسياسي لها على حساب مصالح المواطنين وحقوقهم، مما أفسد منظومة المحليات بالكامل على مدار الأعوام السابقة وأفرغها من مضمونها. ولكن المجالس الشعبية المحلية المنتخبة ستعود في يوم ما وستؤدي لتآكل شرعية الحراك الشعبي وكياناته. لذلك، بدون رؤية حقيقية وعمل جماعي مشترك بين هذه المبادرات من أجل انتزاع دور مؤسسي لها تعترف به الدولة في مجال التنمية المحلية لن تسطيع هذه المبادرات إحداث تغيير حقيقي ومستدام نحتاجه بشدة في منظومة الإدارة المحلية بمصر.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments