“عزبة خير الله منظومة متكاملة من النضال” هكذا وصفها أحد المحامين من أهالي العزبة، وهو أيضاً أحد أعضاء “رابطة محامين خير الله للدفاع عن الحقوق والحريات” المشاركين في الدفاع عن حقوق أهالي العزبة في تملك الأرض.
خلال ما يقرب من أربعون عاماً، أقام أهالى عزبة خير الله على تلك الأرض وأنشأوا مجتمعاً متكاملاً من لا شيء، وكافحوا من أجل انتزاع اعتراف الدولة بهم، ومن أجل الحصول على الخدمات الأساسية التي لا غنى عنها من مياه وكهرباء وصرف صحي. تم كل ذلك بالجهود الذاتية وبتعاون جميع الأهالي من كبار العائلات ومن نساء ورجال ومثقفين وحرفيين وأصحاب مهن. كفاح بدأه الآباء والأجداد ومازال يستكمله الأبناء.
تطرح هذه التجربة الثرية العديد من التساؤلات حول قضية “المصلحة العامة” ومن الذي يملك حق تحديدها. كما تكشف عن التصادم بين القوانين واللوائح القائمة من جهة، ومشروعية بقاء ملايين المواطنين على أراض عمروها بأنفسهم واستقروا بها لعقود. وأخيراً تلقي هذه التجربة الضوء على دور المخططات والسياسات العمرانية التي تتبناها الدولة في زيادة معاناة هؤلاء المواطنين، وتجاهل هذه المخططات والسياسات الكامل لحق هؤلاء المواطنين في السكن، إن لم يكن حقهم في المواطنة والمساواة مع باقي المجتمع في الكثير من الأحيان.
بداية الصراع
في بداية السبعينيات، أصدر الرئيس الراحل أنور السادات قراراً1 بتخصيص المنطقة التي نعرفها الآن كعزبة خير الله لشركة المعادى للتنمية والتعمير2 من أجل إنشاء وحدات سكنية جديدة عليها. لكن الشركة في حينها لم تقم بأي أعمال تطوير عقاري. بل تركت الأرض لسنوات دون أي مخطط للبناء فيها، ربما لعدم توفر الموارد اللازمة لتنمية المنطقة، أو انتظاراً لأن ترتفع قيمتها بمرور الأعوام فتحقق الشركة مكاسب أكبر.
وبحلول منتصف السبعينيات، وفي غياب أي تنمية بالمنطقة، بدأ نزوح بعض المواطنين من الصعيد والدلتا بحثاً عن لقمة العيش بالقاهرة وعن مأوى لهم ولعائلاتهم. سكن بعض الأهالي بمنطقة عزبة خير الله التي كانت ما تزال في ذلك الوقت هضبة صحراوية لا يوجد بها سوى الحشرات والزواحف. قام الأهالي حينها ببناء بعض الحجرات من الدبش والحجارة الموجودة حولهم. ولم يكن هناك بالمنطقة في ذلك الوقت أي نوع من الخدمات الأساسية بداية من الماء النظيف أو الكهرباء أو الصرف الصحي أو المواصلات. رغم ذلك تحمل الأهالي البقاء في تلك الظروف من أجل البحث عن فرصة للحياة والرزق في المدينة.
شهدت الفترة من منتصف السبعينيات وحتى أوائل الثمانينات العديد من الصراعات بتلك المنطقة. فقد كانت محافظة القاهرة تقوم من حين إلى آخر بهدم المساكن والحجرات التي يبنيها الأهالي بالمنطقة لأنها مقامة على أراض مملوكة لشركة المعادي التابعة للدولة، والتي أصبحت بدورها طرفاً في النزاع على الأرض. فيقوم الأهالي بدورهم بإعادة بناء مساكنهم لأنهم لا يجدون مكاناً آخر يستطيعون تحمل تكلفة المعيشة فيه سواء من خلال شراء الأرض أو استئجار المساكن. والدولة على الصعيد الآخر لم تقم بتوفير المأوى البديل لهم ولأسرهم.
ا
تسلسل الأحداث: كيف اتجه أهالي عزبة خير الله إلى المسلك القانوني من أجل الحق في البقاء؟
منذ منتصف السبعينيات، صدرت عدة قرارات من محافظة القاهرة3 لإزالة جميع التعديات المقامة على أراضي الدولة بعزبة خير الله وإعادة الأرض إلى شركة المعادى. وفي عام 1982 قام سكان المنطقة بالتصدي لقوات الأمن التي ذهبت لتنفيذ أحد قرارات الإزالة. حينها، قامت النساء بالوقوف في الصفوف الأمامية في مواجهة قوات الأمن حتى لا تقوم تلك القوات باعتقال رجال العزبة، وفشلت قوات الأمن في تنفيذ القرار. يذكر الأهالي بالفخر والامتنان السيدة “أم نادية” التي شجعت النساء في حينها على الوقوف في وجه قوات الأمن، والتي أصبحت بدورها أشهر نساء عزبة خير الله. وإلى يومنا هذا يطلق الأهالي على المنطقة التي كانت تقطن بها اسم “أم نادية”.
بعد تلك الواقعة، قرر الأهالي أن يسلكوا الطريق القانوني في مواجهة الدولة. شجعهم على ذلك حينها الشيخ أحمد محمد غانم – أحد سكان العزبة – الذي أخذ زمام المبادرة للبدء في إقامة الدعوى القضائية. ساهمت تلك المبادرة في انضمام العديد من أهالي العزبة لدعوة الشيخ أحمد غانم. تضافرت جهود الجميع من سكان العزبة، خاصة المتعلمين منهم الذين قاموا بمحاولة إيصال القضية إلى وسائل الإعلام والرأي العام. قام الأهالي حينها بجمع الأموال اللازمة من بعضهم البعض لرفع دعوى قضائية تطالب بإلغاء قرار المحافظة بإزالة مساكنهم وطالبوا بأحقيتهم في تملك الأراضي المقامة عليها مبانيهم. في عام 1984، تم الحكم في الشق المستعجل في القضية لصالح الأهالى بوقف تنفيذ الإزالات لحين نظر المحكمة في ملكية الأرض، وبقى الشق الخاص بأحقية الأهالى فى تملك الأرض محل نظر لعدة سنوات أخرى.
في تلك الأثناء، استشعر الأهالي الذين كانوا ما يزالون محرومين من أي خدمات أو مرافق أساسية أساسية، غياب رغبة وقدرة الدولة في مد المرافق الأساسية لهم. كان مبرر الدولة حين ذلك أن الأهالي متعدين على الأرض. وبناء على ذلك، بدأ الأهالي في جمع الأموال والعمل في مجموعات لتوصيل المياه والكهرباء والصرف الصحي بالجهود الذاتية. قام الأهالي بشراء وتمديد مواسير المياه والتوصيلات الكهربائية على نفقتهم الخاصة، وتوصيلها – بطريقة غير قانونية – من أقرب نقاط متصلة بالشبكة الرئيسية بالمناطق المجاورة. بعدها، كان الأهالي يقومون بالتصالح مع شركتي الماء أو الكهرباء عن طريق محاضر تصالح؛ وهو إجراء معتاد في المناطق غير الرسمية التي لا توفر لها الدولة البنية الأساسية. شهدت فترة الثمانينات أيضاً التفات العديد من هيئات المجتمع المدني للمنطقة، ومن ثم أصبحت تلك الجهات تساهم بدورها مع الأهالي في توفير الخدمات الأساسية.
بعد حصولهم على الحكم المستعجل بوقف تنفيذ الإزالات، تقدم أهالي العزبة للمحافظة بعدة طلبات لشراء الأرض بصفتهم واضعى اليد عليها ومقام عليها منازلهم، لكن المحافظة رفضت جميع هذه الطلبات وامتنعت عن بيع الأراضى لهم. ومن ثم، فقد أقام الأهالي دعوى أخرى أمام محكمة القضاء الإداري سنة 1986، مطالبين بإلغاء قرار المحافظة السلبي بالامتناع عن بيعهم أراضى العزبة. ظل أهالي العزبة لأعوام طويلة يتابعون تطورات القضية باهتمام بالغ متمنين أن يصدر الحكم لصالحهم ويثبت أحقيتهم في تملك الأرض التي أنشئوا عليها مساكنهم واستقروا بها لسنوات. لم تكمن أهمية الحكم في ذلك فقط، ولكن أهالى العزبة كانوا فى انتظار ذلك الحكم حتى يتمكنوا من ممارسة باقي أنشطة حياتهم بشكل رسمي سواء بإصدار تراخيص للمنشآت التجارية أو الورش أو الحصول على الخدمات والمرافق العامة من الدولة.
ولكن في عام 1993 صدر حكم ابتدائي برفض الدعوى المقامة من الأهالي استناداً إلى أن التصرف ببيع الأراضي المملوكة للدولة أمر جوازي ومتروك لتقدير الجهة الإدارية (وهى المحافظة التي رفضت من الأصل بيع الأرض للأهالي). قام الأهالي بالطعن على هذا الحكم.
في عام 1999 صدر الحكم النهائي من المحكمة الإدارية العليا لصالح أهالي عزبة خير الله بإلغاء قرار المحافظة السلبى بالامتناع عن بيع الأراضي لهم. كان ذلك حكماً لا يقبل الطعن عليه؛ وأقر هذا الحكم بصورة لا رجعة فيها أحقية المواطنين في تملك الأراضي التي يسكنون عليها منذ عقود عن طريق شرائها من المحافظة بالشروط والأوضاع المنظمة للتصرف في الأراضي المماثلة. استند هذا الحكم إلى أحكام القانون رقم 31 لسنة 1984 بشأن القواعد الخاصة بالتصرف في أملاك الدولة الخاصة، والتي تجيز بيعها إلى واضعي اليد. كما استند الحكم إلى المادة الأولى من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 857 لسنة 1985، والتي تشرح الحالات التي يجب أن تتوافر للتصرف في الأراضي المملوكة للدولة لواضعي اليد. من هذه الحالات “أن يكون واضع اليد قد أقام على الأرض ذاتها منشآت أو مبان يترتب على إزالتها أضرار يتعذر تداركها”، ومنها أيضاً “أن يوجد على الأرض كتلة سكنية أو تجمع بشرى مستقر”.
يدرك الأهالي جيداً قيمة الإنجاز الذي حققوه بحصولهم على هذا الحكم. فهو – كما يصفه أحد المحامين برابطة محامين خير الله – حكم تاريخي يتم تدريسه الآن لطلبة كلية الحقوق لما يحتويه من حيثيات بنى عليها القاضي حكمه. فالقاضي من خلال هذا الحكم التفت إلى روح النص القانوني والى الهدف المنشود منه وهو تحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية، تجنباً لوقوع الضرر بتشريد عشرات الآلاف من المواطنين. كما استند القاضي في حكمه إلى حالات سابقة قامت فيها محافظة القاهرة بالموافقة على بيع الأرض لواضعي اليد عليها4. واستند الحكم أيضاً إلى حيثيات الحكم الصادر سنة 1984 بوقف تنفيذ قرارات الإزالة بعزبة خير الله لما يترتب عليها من “إهدار للقيم والأسس التي يقوم عليها المجتمع دون ضرورة ملجئة تدعو إلى ذلك……. خاصة أن وجود التجمع والكيان السكاني الذي يحطمه تنفيذ القرار قائم ومستقر على أرض الدولة المخصصة لشركة المعادى للتنمية والتعمير منذ حوالي ثمانية عشر عاماً، ولم ينشأ فجأة أو خفية أو على حين غرة من جهات الدولة وسلطاتها أو الشركة التي خصصت لها الأرض، وأن تدميره والقضاء عليه الآن ليس فقط مما لا يجوز للإدارة فعله ولكنه سوف يكون إخلالاً منها بمسئوليتها نحو الحفاظ على أمن وسلامة المواطنين، ولا شك أن هذه الغايات تشكل وجه المصلحة الأكثر إلحاحاً والأخطر شأناً والأولى بالرعاية من مجرد إزالة تعديات على أراض مملوكة للدولة ملكية خاصة.”
عندما بدأ الأهالي في مخاطبة المحافظة مجدداً بشأن البدء في إجراءات تمليك الأرض عقب صدور حكم المحكمة الإدارية العليا لصالحهم في عام 1999، كان رد المحافظة بأنه لن يمكن ذلك قبل وضع مخطط تفصيلي للمنطقة بالكامل، ثم بعدها يمكن البدء في تمليك الأرض. ومنذ عام 1999 وحتى الآن (2013) لم يتم عمل هذا المخطط التفصيلي، وبالتالي لم يتم تنفيذ الحكم بتمليك الأرض لأي من أهالي المنطقة.
لم يستسلم الأهالي وواصلوا مسيرتهم القانونية. ففي مارس 2012 استطاع أحد المحامين ب”رابطة محامين خير الله” الحصول على حكم لصالح أحد أهالي العزبة بمعاقبة محافظ القاهرة بالحبس لمدة ستة أشهر وغرامة 200 جنيه. جاء ذلك كنتيجة لامتناع المحافظ عن تنفيذ حكم كان قد صدر في ابريل 2011 لصالح ذلك المواطن بأحقيته في إلزام المحافظة بأن تبيعه الأرض الواقعة تحت حيازته منذ عقود فى عزبة خير الله. كما تضمن ذلك الحكم الصادر في 2011 أيضاً الزام المحافظة باحتساب المبالغ التي قد سبق وسددها المواطن للمحافظة كمقابل انتفاع، باعتبارها جزءاً من ثمن الأرض5. (الخبر في المصري اليوم). لكن هذا الحكم لم ينفذ أيضاً لأن سعر الأرض لم يتم تحديده بالحكم، لذا فهو متروك للجهة الإدارية لتحديده. وبناء عليه قامت إدارة الأملاك بالمحافظة بحساب سعر المتر طبقاً لأسعار السوق الحالية لمن يرغب في الشراء، وهو ما لا يقدر على تحمله أياً من الأهالي. لذلك، تقدم محامى المواطن باستئناف جديد لتحديد سعر عادل للأرض، مع الأخذ فى الاعتبار الأسعار التي كان عليها متر الأرض عندما تم وضع اليد عليها6. مازالت هذه القضية بالاستئناف ولم يصدر فيها حكماً بعد.
تتبقى إذن لأهالي عزبة خير الله خطوة أخيرة في مسيرتهم الطويلة، وهى أن يصدر حكم نهائي من المحكمة الإدارية العليا بتحديد سعر عادل للأرض. وعلى هذا الأساس يستطيع كل صاحب عقار في عزبة خير الله أن يذهب إلى المحافظة بالرسم المساحي الذى يحدد مساحة العقار الخاص به، بالإضافة إلى أوراق إثبات الملكية، ثم يتقدم بطلب شراء للأرض المقام عليها العقار، وعندئذ ستكون المحافظة ملزمة بالتنفيذ.
ا
الموارد واستدامتها
جميع الموارد التي ساهمت في تحقيق سعي أهالي عزبة خير الله لتملك الأراضي التي أقاموا عليها منازلهم كانت موارد ذاتية معتمدة كلياً على جهود الأهالي وعملهم الجماعي. فقد تكونت مجموعات من الأهالي لمتابعة المهام المختلفة مثل جمع المصروفات الخاصة بالقضية سواء أجر المحامين أو الأوراق والمصروفات الإدارية. قروش قليلة وجنيهات معدودة جمعها الأهالي من كل بيت حتى تم استكمال المبالغ المطلوبة. كما كانت هناك مجموعات أخرى مسئولة عن متابعة الإجراءات القانونية أو التوجه إلى المسئولين.
كما ساهم وجود شخصيات مؤثرة مثل الشيخ أحمد محمد غانم الذي لم يكن مجرد تاجر أقمشة بالمنطقة، لكنه كان خطيب وإمام مسجد. وكان يتنقل بين المساجد في الخطابة وفى المساء يتواجد بين الناس فيؤثر فيهم ويشجعهم. كما كان بليغاً ومتحدثاً لذا كان الأهالي يختارونه لتمثيلهم في الحديث عندما يذهبون لأي تجمعات يحضرها مسئولو الحكومة، فيقوم بعرض قضية المنطقة بأسلوب يجذب انتباه الجميع.
لم تتوقف الجهود الذاتية عند السعي وراء إثبات الحق في تملك الأرض، لكن الخدمات التي دخلت المنطقة من مياه وكهرباء وصرف صحي ومواصلات، تمت أغلبها بالجهود الذاتية. كما ساهمت بعض الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني في توفير بعض الخدمات.
أما الضامن الأساسي لاستدامة جهود أهالي العزبة التي استمرت على مدار ما يقرب من أربعين عام، فهو انتماء جميع الناشطين والمدافعين عن القضية لعزبة خير الله نفسها. فجميع المحامين القائمين على متابعة القضية هم من أهالي العزبة سواء من جيل الآباء أو من الأبناء الذين عايشوا الأحداث جميعها. وقد أخذ المحامون من أبناء العزبة على عاتقهم اليوم استكمال هذه المسيرة حتى نهايتها. فقد قام عدد من المحامين الشباب المقيمين بالمنطقة بتأسيس “رابطة محامين خير الله للدفاع عن الحقوق و الحريات” في مارس 2011 وهي رابطة مهنية مسجلة في نقابة المحامين. قام المحامون باتخاذ تلك الخطوة نحو تعزيز الإطار الرسمي والقانوني لهم بما يضمن استمرار جهودهم، بالإضافة إلى انغماسهم في العمل العام التنموي داخل العزبة. كما تنشط بالعزبة العديد من الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني مثل جمعيات “إعمار عزبة خير الله” و”أبو بكر الصديق” و“خير وبركة” و“تواصُل لتنمية إسطبل عنتر”.
ا
العقبات والمعوقات
هناك بعض الحالات السابقة التي قامت فيها المحافظة ببيع أراضى مملوكة للدولة ملكية خاصة بالتقسيط إلى واضعي اليد، حسبما تنص القوانين المنظمة لتوفيق الأوضاع لواضعي اليد على الأراضي المملوكة للدولة ملكية خاصة7.
لكن أهالي المنطقة يرون أن العقبة الحقيقية أمام تحقيق ذلك في عزبة خير الله تحديداً هو موقعها المتميز. فالعزبة تقع فوق هضبة عالية تطل على الفسطاط والمناطق الأثرية، ومن فوق أسطح مبانيها العالية يمكن مشاهدة القلعة والأهرامات. كما أنها ملاصقة لمنطقة مصر القديمة المليئة بالآثار والمناطق السياحية مثل مجمع الأديان والمتاحف. بل إن عزبة خير الله نفسها تحتوى على مجموعة من الآثار مثل “جبخانة محمد علي” و”قباب السبع بنات” و”مسجد خضرة الشريفة” و”قناطر بن طولون” و”كنيسة الطاحونة”. كما أنها قريبة من محاور الحركة الرئيسية مثل الطريق الدائري والأتوستراد وصلاح سالم. كل هذا هذه المزايا تجعلها فرصة جيدة للاستثمار العقاري.
وبالتالي يرى بعض الأهالي أن تمليك الأراضي لهم في الوقت الحالي قد يقف عقبة في طريق مخططات الدولة التي كانت تسعى حسب قولهم، إلى إزالة مساكنهم باعتبارها تعديات على أراضى الدولة وعمل مشروعات استثمارية وسياحية لاستكمال مخطط تطوير منطقة مصر القديمة والفسطاط لتصبح منطقة سياحية متكاملة. ويؤيد هذه الرؤية العديد من الوثائق والمخططات الرسمية التي تسعى جميعها إلى تطوير منطقة الفسطاط بما فيها منطقتي عزبة خير الله وإسطبل عنتر دون الالتفات لوجود عدد كبير من السكان بالمنطقتين يبلغ في أقل التقديرات حوالي 650 ألف نسمة.
فعلى سبيل المثال، يحتوي موقع وزارة الاستثمار على مشروع مقترح تنفيذه بالمنطقة يسمى مشروع “تطوير منطقة الفسطاط”8. كذلك احتوى مخطط القاهرة 2050 على خطة مماثلة لمنطقة الفسطاط تهدد أجزاء من العزبة بالإزالة لصالح بعض المشروعات السياحية والاستثمارية. وأخيراً، ظهر في 2012مخطط جديد يسمى “متحف الفسطاط المفتوح” وهو مخطط يتم برعاية هيئة التخطيط العمراني ومحافظة القاهرة ويسعى إلى تطوير منطقة الفسطاط بالكامل. ومن ضمن مقترحات المخطط إزالة أجزاء من عزبة خير الله وإنشاء ما يسمى بـ”فنادق ومنتجعات حديقة الفسطاط” و”منتجع استشفائي” مع ما يسمى بـ”تطوير وإحلال وإعادة تخطيط وبناء” باقي مناطق العزبة. ولذلك، ورغم صدور حكم نهائي لصالح أهالي العزبة بأحقيتهم في تملك الأرض، إلا أن تنفيذ هذا الحكم على أرض الواقع يخضع إلى قرارات الجهات الإدارية التي تتأثر بالتوجهات السياسية للدولة فيما يخص خطط التطوير والتنمية والاستثمار، وخاصة في إقليم القاهرة الكبرى.
ا
النتائج والأثر
أقر حكم المحكمة الإدارية العليا – وهى أعلى مستوى من التقاضي في مصر – بشكل نهائي أحقية أهالي عزبة خير الله في تملك الأراضي المقامة عليها مساكنهم، وألزم المحافظة بتوفيق أوضاعهم وفقاً للقوانين والإجراءات المنظمة لذلك، وألغى قرارات الإزالة نهائياً. ساهم ذلك في تثبيت وضع الأهالي، فأصبح من الثابت لديهم أن الدولة لن تحاول مجدداً إخراجهم من المنطقة. كما ساهم الحكم أيضاً فى اثبات أحقية أهالى العزبة فى المرافق العامة من مياه وكهرباء وصرف صحى، و أوقف شركة المعادى من التحكم في توصيل المرافق إلى المنطقة. فقد كان ذلك يمثل عائقاً أمام الأهالي عند تقديم طلبات إلى الجهات الإدارية لإدخال المرافق، فيتم الرفض بدعوى أن الأرض مملوكة لشركة المعادى.
كما أن التجربة في حد ذاتها من مشاركة وتعاون بين سكان العزبة لسنوات طويلة أحدثت نوعاً من الترابط والحراك المجتمعي لدى الأهالي، فأصبح كل بيت مهتماً ومهموماً بشكل أو بآخر بالقضية. أبقى ذلك على قوة الدفع والمثابرة وراء متابعة القضية وعدم الاستسلام أو اليأس، خاصة وأن الأمر استغرق حوالي خمسة عشر عاماً حتى صدور الحكم النهائي. كما يمتد لسنوات أخرى بعدها في محاولات مازالت مستمرة لتنفيذ ذلك الحكم ولتحديد سعر الأرض، الذي بناء عليه يصبح تنفيذ الحكم أمراً حتمياً.
ا
تجربة عزبة خير الله كنموذج يحتذى به
تعد تجربة عزبة خير الله نموذجاً لتوحيد الجهود والعمل الجماعي بين جميع الأهالي باختلاف ثقافاتهم وخلفياتهم واتجاهاتهم من أجل تحقيق هدف واحد، وهو حق البقاء على الأرض. من النقاط اللافتة للنظر في هذه التجربة دور قيادات المجتمع المحلي في جمع أبناء المنطقة حول هدف واحد يستهدف “مصلحة عامة” تعود بالنفع على باقي سكان العزبة. من النقاط الإيجابية أيضاً القدرة المذهلة للمجتمع المحلي على حشد الموارد واستغلال كفاءات وخبرات أبناء المنطقة، وخاصة أبنائها من المحامين القاطنين فيها والذين حملوا على عاتقهم عبء هذه القضية الهامة. لكن الدرس الأهم والأكثر تميزاً في هذه التجربة هو الوعي الجمعي والصبر والمثابرة الذين دفعوا أجيالاً متتالية من أهالي المنطقة لتبني مساراً قانونياً امتد لحوالي ثلاثة عقود دون أي بادرة يأس أو تراجع.
كما تعد هذه التجربة مثالاً في غاية الأهمية ليس فقط لعزبة خير الله، بل لمئات المناطق الأخرى المماثلة (مثل منشية ناصر وعزبة الهجانة، الخ) والتي نشأت جميعها في ظروف مشابهة. فمعظم هذه المناطق تتعرض لمخاطر وتهديدات مماثلة سواء من تلويح باحتمالات الإزالة أو بتهديد من دعاوى التطوير العمراني والتي يعد من أخطرها مخطط القاهرة 2050 وما يماثله من مخططات. وتتفاوت درجة التهديد هذه من مجتمع إلى آخر وفقاً لطبيعة المجتمع السكنى وأهمية موقعه من وجهة نظر الاستثمار العقاري. ففي بعض الأحيان تطمع الدولة ومن ورائها مجموعة من المستثمرين في مناطق مشابهة لعزبة خير الله نظراً لموقعها الجغرافي المتميز. يحدث ذلك بعد أن أصبحت هذه المناطق أحياء سكنية متكاملة مر على إنشائها أكثر من أربعة عقود كافح خلالها الأهالي من أجل توفير سبل الحياة، واعترفت الدولة بوجودهم فقامت بتوصيل المرافق الأساسية لهم سواء بضغط من الأهالي، أو لمحاولة كسب أصواتهم الانتخابية، أو انصياعاً للأمر الواقع. يصبح أهالي هذه المناطق – بفضل مخططات التطوير المماثلة لمخطط القاهرة 2050 – عرضة لإعادة التسكين من قبل الدولة في مناطق صحراوية نائية تفتقد للحد الأدنى من فرص العمل أو مقومات المعيشة. والمطلوب من الأهالي عندها البدء مجدداً من الصفر في رحلة للبحث عن سبل الحياة والرزق في هذه المناطق الجديدة.
تفتح تجربة أهالي عزبة خير الله آفاقاً من المعرفة الضرورية لأهالي المناطق الأخرى المعرضة لنفس الظروف والملابسات، وكذلك للنشطاء المهتمين بقضايا الحق في السكن والأمان في السكنى. فالأحكام القضائية التي حصل عليها سكان العزبة سواء في 1984 أو 1999 وحيثيات هذه الأحكام تعد بمثابة ركيزة يمكن البناء عليها لمساعدة مجتمعات أخرى مشابهة في الحصول على حقها في الأرض. لذا قد تشجع هذه التجربة سكان المناطق الأخرى على سلوك النهج ذاته بحثاً عن حقهم في البقاء، خاصة وأن هذه الأحكام صادرة من قضاء مجلس الدولة الذي يتميز في أنه يستند إلى سوابقه. وهو ما يعني أن أحكام قضية عزبة خير الله يمكن اعتبارها بمثابة “حالة مثل” أو “سابقة”، يمكن الاستناد عليها لتحصل مجتمعات أخرى شبيهة على أحكام مماثلة.
ا
رؤية تضامن
تطرح تجربة أهالي عزبة خير الله، وقضيتهم التي استمرت لعقود بعض القضايا والتساؤلات الهامة التي لا تقتصر على منطقتهم فقط ولكنها تمس العديد من سياسات العمران القائمة. لذا نحاول التركيز هنا على ثلاثة جوانب أساسية لهذه التجربة:
أولاً: ما هي “المصلحة العامة” ومن الذي يحددها؟
إذا نظرنا إلى الأحكام الثلاثة الخاصة بقضية العزبة والصادرة في 1984 و1993 و1999 نجد أن جوهر هذه القضية في الأساس هو تحديد مفهوم “المصلحة العامة” والانحياز إما إلى جانب المواطنين أو الدولة. فالحكم الصادر في 1984 يعترف بحق الدولة في إزالة التعديات الواقعة على الأراضي المملوكة للدولة ملكية خاصة، ولكنه يرى أيضاً أن الأصل في نشاط الدولة هو استهداف الصالح العام وإشباع احتياجات المواطنين العامة، وأن تصدر تصرفات الدولة بما يراعي هذا الصالح العام. لذا فالمعضلة الأساسية هنا هي: أي الأمرين أكثر ضرراً: التعدي على أملاك الدولة، أم تشريد عدد كبير من المواطنين بأسرهم ومنقولاتهم ومتعلقاتهم؟
رأت المحكمة في 1984 أن تضحي بأحد جوانب المصلحة العامة – وهو الحفاظ على أملاك الدولة – في مقابل الحفاظ على مصلحة عامة أهم وأشمل تتمثل في وجوب الحفاظ على السلم الاجتماعي وحماية آلاف المواطنين وأسرهم من التشريد وفقدان المأوى. بل أن المحكمة رأت أن الدولة كانت شريكة في نشأة مجتمع عزبة خير الله الذي لم تمنعه في بادئ الأمر، حيث لم ينشأ هذا المجتمع فجأة أو خفية من جهات الدولة وأجهزتها. كما رأت أن محاولة الدولة إزالة هذا المجتمع بعد استقراره يعد نوعاً من إخلال الدولة بمسئوليتها نحو الحفاظ على المواطنين وتلبية احتياجاتهم العامة.
في المقابل، رأت المحكمة في 1993 أن حكم 1984 أخطأ عندما اعتبر حماية “المعتدين” على أملاك الدولة نوع من المصلحة العامة. ولكن الحكم النهائي الصادر في 1999 عاد وأرسى المبدأ الذي ارتكن عليه حكم 1984 وأكد أن إزالة مساكن أهالي عزبة خير الله يمثل “إخلالاً من الدولة بمسئوليتها نحو الحفاظ على أمن وسلامة المواطنين، وأن هذه الغاية تشكل وجه المصلحة الأكثر إلحاحاً والأخطر شأناً والأولى بالرعاية من مجرد إزالة تعديات على أراض مملوكة للدولة ملكية خاصة.”
في الواقع تعكس هذه الأحكام المختلفة وجهتي نظر أساسيتين. الأولى مؤيدة لحق المواطنين للسكن بالأراضي التي أقاموا عليها مساكنهم منذ عقود، وكافحوا لجعلها مجتمعاً متكاملاً نابضاً بالحياة بدون مساهمات تذكر من الجهات الإدارية بالدولة. بينما وجهة النظر الثانية متخوفة من ضياع حق الدولة وفتح الباب أمام غير المستحقين أو من يريد استغلال القانون للاستيلاء على أراضي الدولة بدون وجه حق. بين هذا وذاك تكمن الحاجة إلى تحديد قواعد وأسس سليمة يحددها القانون تضمن تحقيق “روح” المصلحة العامة من عدالة اجتماعية وضمان لحقوق المواطنين الذين اضطرتهم الظروف إلى البحث عن مأوى في ظل غياب دور الدولة في توفير المسكن الملائم للمواطنين. كما يجب أن تحد هذه القواعد والأسس من الفساد والتلاعب بالقوانين والثغرات التي قد يستغلها البعض لتحقيق مكاسب شخصية تضر بباقي المجتمع.
ثانياً: الحق في السكن وأولويات المجتمع المحلي
أقر “العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” الذي صدر في عام 1966 في مادته رقم 11 بـ “حق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمسكن، وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية” وأن تتعهد الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لإنفاذ هذا الحق. وبالرغم من أن مصر من الدول الموقعة والملتزمة بهذا العهد منذ أغسطس 1967، فإن هذا الالتزام بالمسكن الملائم كحق للمواطنين لم يظهر له تأثير مباشر على التعامل مع سياسات العمران في مصر. وما نعنيه بالمسكن الملائم هنا ليس مجرد وحدة سكنية لها أربعة حوائط وسقف يمكن أن تتواجد في أي مكان والذي قد يكون موقع صحراوي منعزل أو لا توفر لساكنيها الحد الأدنى من العيش الكريم، ولكن له مواصفات تنقله من المفهوم الضيق للـ “وحدة السكنية” إلى مفهوم أوسع وهو “المسكن الملائم” في مجتمع نابض بالحياة. من هذه المواصفات أن يتمتع المسكن بالدرجة الملائمة من الخصوصية، والمساحة الكافية، والأمان في السكنى، والإنارة والتهوية الكافيتين، والمرافق والبنية الأساسية الملائمة، والموقع الملائم بالنسبة إلى أماكن العمل والخدمات العامة، وكل ذلك بتكاليف معقولة.
وللأسف، في مصر ودول عديدة، لا يمكن لسكان المناطق غير الرسمية مثل عزبة خير الله تحقيق هذا الأمان في السكنى وبالتالي حماية أنفسهم من خطر الإخلاء القسري والإزالة، والحصول على الخدمات أو المرافق الضرورية لحياتهم إلا من خلال اعتراف الدولة بهم وحصولهم على أوراق رسمية من الدولة تعترف بحيازتهم لمساكنهم التي بنوها بأنفسهم واستقروا فيها لأعوام. وإذا لم يحصلوا على هذه الحيازة الرسمية لعقاراتهم وتعترف الدولة بهم – مثلما كانت الحالة في عزبة خير الله – يظل هؤلاء المواطنون لعقود تحت رحمة الدولة التي تهددهم بالإزالة وتحرمهم من المرافق والخدمات الأساسية بحجة إنها لا تعترف بهم.
في واقع الأمر وبصورة عملية، لا يعبأ سكان المناطق غير الرسمية كثيراً بالحصول على عقود ملكية موثقة رسمياً من الدولة. فسكان هذه المناطق يبيعون عقاراتهم لبعضهم البعض بصورة عرفية وبدون الحاجة إلى أوراق رسمية مسجلة من الدولة. فالملكية الرسمية المسجلة لا تمثل لسكان هذه المناطق سوى “وسيلة” يتمكن هؤلاء السكان من خلالها حماية أنفسهم من مخاطر الإزالة والتهجير، كذلك الحصول على الخدمات والمرافق الأساسية من الدولة.
ووفقاً لبعض المحامين من أهالي عزبة خير الله والمرتبطين بصورة مباشرة بقضية النزاع على الأرض، نجد أن الأولوية الأولى لسكان العزبة كانت وقف أعمال الإزالة والتهجير التي كانت تنتوي أجهزة الدولة القيام بها في حق السكان. بينما كانت الأولوية الثانية لهم هي الحصول على اعتراف من الدولة بوجودهم على الأرض حتى يحصلوا على المرافق والخدمات العامة الضرورية لحياتهم. وأخيراً كانت أولويتهم الثالثة والأخيرة هي الحصول على عقود رسمية من الدولة بملكيتهم للأراضي التي يعيشون عليها.
والسؤال الجوهري هنا: هل يحتاج سكان المناطق غير الرسمية لعقود من التقاضي حتى يحصلوا على الحيازة الرسمية لأراضيهم، وبالتالي يحمون أنفسهم من خطر التشريد ويحصلوا على أبسط حقوقهم من خدمات ومرافق أساسية؟ في الواقع أن الإجابة هي لا.
فكل من المفاهيم الدولية للحق فى السكن، وحكم قضية عزبة خير الله يؤكدان أن أولويات سكان عزبة خير الله منطقية وأن حصول هؤلاء المواطنين على أدنى حقوقهم الأساسية من سكن ملائم حق يجب ألا يرتبط باعتراف أجهزة الدولة الرسمية بمدى قانونية حيازتهم لمساكنهم، وأن الدولة مسئولة عن توفير سبل الحياة الكريمة لهؤلاء المواطنين بغض النظر عن وضعهم الاقتصادي أو اعتراف الدولة الرسمي بهم. فهناك أنماط عديدة من الحيازة لا تعترف بها الدولة (مثل الحيازة العرفية وبعض أنواع وضع اليد)، ولكن تتفق عليها العديد من المجتمعات والثقافات المختلفة. ولا يصح بأي حال من الأحوال، أن يحول عدم اعتراف الدولة الرسمي بهذا التنوع من أنماط الحيازة (والذي قد يستمر لعقود) دون حصول سكان المناطق غير الرسمية على أدنى حقوقهم في الحياة الكريمة وأن يقضوا عقوداً من حياتهم في حرمان، وتحت تهديد الإزالة من قبل الدولة.
ثالثاً: قانونية الحيازة في مقابل مشروعية الحيازة
في عام 1957 تم تعديل المادة 970 من القانون المدني المصري لتحرم المواطنين حق تملك الأملاك الخاصة بالدولة بالتقادم أو وضع اليد. كما تعطي هذه المادة أيضاً الدولة الحق في إزالة هذا التعدي عن طريق جهازها الإداري9. ووفقاً لهذه المادة، فإن ملايين المواطنين الذين استقروا لعقود على أراض مملوكة للدولة واستثمروا مبالغ طائلة لتعمير تلك المناطق في غياب تام لدور الدولة ومسئوليتها تجاههم، لا يملكون الحق القانوني في تملك هذه الأراضي بالتقادم. قد ترى الدولة أن حرمان هؤلاء المواطنين من حق تملك هذه الأرض التي عمروها “قانوني”، ولكن في المقابل يرى هؤلاء المواطنون أنهم يتمتعون بـ”مشروعية” تملك هذه الأرض والبقاء فيها.
ويبنى المواطنون هذه المشروعية على أساس الاستثمارات والجهود التي بذلوها في تعمير تلك المناطق التي كانت قاحلة في الأساس مثل عزبة خير الله ومنشية ناصر وعزبة الهجانة. ويرى هؤلاء المواطنون أنهم قاموا بكل تلك الجهود، ولعقود طويلة، في ظل إغفال تام من جانب الدولة لحقهم في السكن، وتجاهلها لمسئوليتها تجاههم في توفير أبسط سبل الإعاشة والمواصلات والمرافق والخدمات الأساسية. قام هؤلاء المواطنون بتوفير كل ذلك بأنفسهم وعلى نفقتهم الخاصة، بل وزادوا على ذلك بأن وفروا لأنفسهم فرص العمل وخلقوا لأنفسهم اقتصاد غير رسمي يقوم بتوظيف الملايين من المواطنين. يرى المواطنين أن “مشروعية” بقائهم واستمرارهم في تلك المناطق أقوى من حجج الدولة “القانونية” لإخلائهم من مساكنهم بعد أن عاشوا فيها لعقود.
ومنذ عام 1957 صدرت عدة قوانين وقرارات أهمها في عام 2006 لإصلاح هذا الوضع وللتعامل مع حالات وضع اليد على الأراضي المملوكة ملكية خاصة للدولة10. وتتلخص هذه القرارات والقوانين في أنها أيضاً لا تعترف بوضع اليد على أملاك الدولة، ولكن تترك لأجهزة الدولة حرية بيع هذه الأراضي لواضعي اليد من عدمه. كان يمكن لذلك أن يشكل مخرجاً يساهم في تقنين أوضاع ملايين المواطنين الذين استقروا في المناطق غير رسمية المنشاة على أرض الدولة ولكن للأسف لم يحدث ذلك. فما حدث بالفعل أن الدولة استخدمت هذه القوانين والقرارات، وخاصة منذ عام 2006، في تقنين أوضاع كبار المستثمرين الذين وضعوا أيديهم على أراضي الدولة بغرض الاستثمار وباعتهم الدولة هذه الأراضي بمبالغ زهيدة. في حين نجد أن قضية عزبة خير الله تمثل نوعاً من التناقض الصارخ مع سياسية الدولة المتساهلة هذه مع المستثمرين. ففي حالة عزبة خير الله نجد أن الدولة تتعنت مع البسطاء، والذين استخدموا هذه الأرض كمأوى لهم بعد أن ضاقت بهم السبل. ويصبح من المتوجب على هؤلاء البسطاء خوض صراع قانوني طويل ومرير يستنزف طاقتهم ومواردهم القليلة فقط لينتزعوا من الدولة حقهم في السكن والبقاء، بعكس موقف الدولة من كبار المستثمرين.
وأخيراً، من الذي يملك الحق في إخلاء أهالي منطقة مثل عزبة خير الله، وهم الذين كافحوا لعقود من أجل البقاء وأنشئوا مجتمعات كاملة بأنفسهم، من أجل بناء مشروعات سياحية ومنتجعات وفنادق تصب في صالح كبار المستثمرين؟
كيف تتبنى جهات الدولة مخططات مثل القاهرة 2050 وما على شاكلته وتنفق على إعدادها أموال طائلة من أمولنا العامة دون الرجوع لمئات الآلاف المواطنين الذين سيتأثرون بهذه المخططات – سواء بالإخلاء القسري أو القضاء على مصادر رزقهم بالكامل – وسؤالهم عن رأيهم؟
ولماذا تتعامل الدولة من خلال مثل هذه المخططات وكأن مناطق كاملة مثل عزبة خير الله وغيرها بملايين المواطنين التي يسكنوها غير موجودين على الخريطة، وأنهم والعدم سواء؟
إلى اليوم، تستمر الدولة في هذه الممارسات العمرانية الجائرة. وفي المقابل يواصل الملايين من سكان المناطق غير الرسمية كفاحهم ليس فقط من أجل قوتهم اليومي أو حقهم في السكن، ولكن لينتزعوا اعترافاً مستحقاً من الآخرين بحقهم في البقاء وبأنهم “مواطنون” كاملو الأهلية. مواطنون لهم حقوق لدى الدولة وباقي المجتمع، ويناضلون من أجلها يوماً بعد يوم حتى ينالونها كاملة غير منقوصة.
1. القراران الجمهوريان رقم 1187 لسنة 1972، و 1420 لسنة 1974↩
2. شركة قطاع أعمال عام مملوكة للدولة، وهى إحدى الشركات التابعة للشركة القومية للتشييد والتعمير التابعة بدورها لوزارة الاستثمار↩
3. أحد هذه القرارات: قرار محافظة القاهرة رقم 26 بتاريخ 18/2/1976↩
4. يشير الحكم الخاص بالعزبة والصادر في 21 مارس 1999 إلى أن محافظة القاهرة سبق أن أصدرت بعض القرارات التنفيذية لبيع بعض الأراضي المملوكة ملكية خاصة للدولة لواضعي اليد عليها، مثلما حدث في عزبة دسوقي بالبساتين والمجاورة لعزبة خير الله في عام 1970، كذلك للقرار رقم 295 لسنة 1989 الصادر بتاريخ 20 أغسطس 1989 بتحديد مستويات وأسعار الأراضي بمناطق التطوير بحلوان، والقرار رقم 229 لسنة 1994 بتاريخ 12 يوليو 1994 بشأن المناطق العشوائية الداخلة في خطة التطوير بالمحافظة.↩
5. يرجع تاريخ هذه الواقعة إلى عام 1995 عندما تقدم أحد المواطنين – ضمن آخرين – إلى إدارة الأملاك بالمحافظة للتعاقد على قطعة الأرض المقام عليها عقاره – بناء على إعلان المحافظة عن فتح باب التعاقد مع من يرغب في تسوية أوضاعه من واضعي اليد على أملاك الدولة - ودفع مبلغ خمسة جنيهات للمتر دفعة تعاقد، ثم امتنعت المحافظة عن استكمال الإجراءات واعتبرت المبالغ التي قام بدفعها جزءاً من حق الانتفاع بالأرض وليست دفعة تعاقد للشراء كما كان معلناً، وطالبته بدفع متأخرات عن حق الانتفاع تبلغ 116 ألف جنيه (قامت الإدارة بحسابها بناء على تقديرها لسعر المتر بمبلغ 200 جنية واحتساب حق الانتفاع الذي يتم تحصيله بنسبة 7% من سعر الأرض، ومحاسبته بأثر رجعى كل السنوات السابقة)، وهددته بالحجز على ممتلكاته إذا لم يدفع هذا المبلغ ، فأقام هذه الدعوى عام 2003 لإثبات حقه في تملك الأرض وإثبات حصول الجهة الإدارية على دفعة تعاقد مقابل بيع الأرض له. تم الحكم لصالح المواطن فى هذه القضية عام 2011، لكن الحكم لم يحدد سعر الأرض، لذا قام بتقديم استئناف لتحديد سعر الأرض↩
6. استند المدعى في طلبه إلى القرارات الإدارية الصادرة من المحافظة منها القرار رقم 892 لسنة 1970 والقرار رقم 53 لسنة 1973 بالموافقة على بيع أراضى مملوكة للدولة بمبلغ 7 جنيهات للمتر.↩
7. وفقاً للقانون رقم 31 لسنة 1984 والقرارات المنظمة له.↩
8. يشير موقع وزارة الاستثمار إلى مشروع يسمى “تطوير منطقة الفسطاط” كأحد الفرص الاستثمارية المتاحة بمحافظة القاهرة. ويهدف المشروع إلى إنشاء حديقة مركزية للقاهرة الكبرى، وإنشاء 10 ألاف وحدة سكنية، وتطوير البحيرات الطبيعية واستغلالها للسياحة العلاجية، وإنشاء محور مروري جديد لربط شرق وجنوب القاهرة بجنوب الجيزة. ويشير الموقع أيضاً أن المناطق المقترحة لتنفيذ المشروع هي مقابر البساتين، وعزبة خير الله، وبطن البقرة، وعزبة أبو قرن، ومنطقة المدابغ. وهي كلها مناطق مكتظة بالسكان باستثناء مقابر البساتين. ويشير الموقع أيضاً أن المساحة الإجمالية للمشروع تبلغ 1.400 فدان، منها 114 فدان في عزبة خير الله وإسطبل عنتر وهو ما يبلغ حوالي ربع إجمالي مسطح المنطقتين معاً ومما يعني تشريد حوالي 160 ألف مواطن من سكان المنطقتين لتنفيذ هذا المشروع.↩
9. تم تعديل المادة 970 من القانون المدني المصري بموجب القانون رقم 147 لسنة 1957، والقانون رقم 55 لسنة 1970 ليصبح نصها كالتالي: “في جميع الأحوال لا تكسب حقوق الإرث بالتقادم إلا إذا دامت الحيازة مدة ثلاث وثلاثين سنة. ولا يجوز تملك الأموال الخاصة المملوكة للدولة أو للأشخاص الاعتبارية العامة وكذلك أموال الوحدات الاقتصادية التابعة للمؤسسات العامة أو للهيئات العامة وشركات القطاع العام غير التابعة لأيهما والأوقاف الخيرية أو كسب أي حق عيني على هذه الأموال بالتقادم. لا يجوز التعدي على الأموال المشار إليها بالفقرة السابقة وفى حالة حصول التعدي يكون للوزير المختص إزالته إداريا.”↩
10. من ضمن هذه القوانين والقرارات قانون رقم 148 لسنــة 2006 بشأن تعديل بعض أحكام قانون المناقصات والمزايدات الصادر بالقانون رقم 89 لسنة 1998، وقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2041 لسنة 2006.↩
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments