“جيانوبولو بايوتشى”، “بوسطن ريفيو”، مارس 2006
“ماركو” هو عامل أجير فى منتصف العقد الرابع من عمره، رحل إلى مدينة “بورتو أليجري” من ريف البرازيل قبل ثماني سنوات. كان “ماركو”، الذي ولد في عائلة تعمل بالزراعة، قد نال حظا من التعليم الابتدائي، ولكن فرص العمل المتاحة له كانت قليلة فى قريته. عندما سمع “ماركو” عن وفرة الخدمات الاجتماعية فى مدينة “بورتو أليجري”، اقترض مالا يكفى لشراء تذكرة اتوبيس وسافر إلى هناك، حيث وجد عملا فى قطاع البناء. ولكنه لم يلبث أن اكتشف أن مرتبه لا يكفى لدفع الإيجار، وعندها توجه إلى إحدى الأحياء الفقيرة على أطراف المدينة حيث عثر على شقة بإيجار بسيط يتقاسمها مع رجل يعمل ترزيا ومكوجيا من المنزل. بمرور الوقت أصبحت حياته أكثر استقراراً وتمكن من اجراء بعض التحسينات فى المنزل، كما ادخر بعض المال وزادت فرص عمله بسبب سمعته الطيبة بين معارفه. إلى هنا فإن قصة “ماركو” وسفره وحياته في الحي الفقير وجهوده من أجل النجاح ليس بها جديد. ولكن حياة “ماركو” بدأت فى التغير عندما حضر اجتماعا محليا حول الطريقة التي يجب فيها على الإدارة المحلية بالمدينة أن تستثمر أموالها فى تلك المنطقة.
يعرف عن البرازيليين عزوفهم عن الانخراط في الأمور المتعلقة بإدارة مدنهم. فالمدن التي يعيشون بها ترتفع فيها معدلات العنف والتفاوت الطبقي وغيرها من المشاكل بشكل ملحوظ. وبينما تحتمى النخبة في مجتمعات سكنية محصنة، يسكن ربع سكان المدن البرازيلية في العشوائيات ولا يستفيدون من الخدمات الاجتماعية وليست لهم صلة بالإدارة، باستثناء تلك الحالات التى تتبنى فيها شخصية عامة بعض قضاياهم. تلك العشوائيات، والتي يصل تعدادها إلى ما يقارب ثلث عدد السكان في بعض المدن، يعرف عن سكانها عدم الثقة بالنظم القائمة وارتفاع معدل التفكك الاجتماعي بينهم، كما أوضح عالم السياسة “روبرت بوتنام” ورفاقه الذين قاموا بدراسات مستفيضة في مناطق تتميز بانخفاض “رأس المال الاجتماعي” في جنوب إيطاليا. ووفقا لإحصائيات نشرت مؤخرا، فالبرازيليين هم من أقل الشعوب ثقة فى المؤسسات الديمقراطية على مستوى العالم.
أولئك الذين يعيشون في ظروف مماثلة لظروف “ماركو” هم الأكثر عزلة عن مسارات اتخاذ القرارات الحكومية، وهم أيضاً الأقل مشاركة في المؤسسات الرسمية. لذا فإن “ماركو” الذي ذهب مع أحد جيرانه إلى الاجتماع، خامرته الشكوك حول جدوى ذلك الاجتماع. وبرغم أنه كان قد سمع أن سكان احد المناطق العشوائية القريبة تمكنوا من شراء الأراضي التي يسكنون عليها بطريق جماعي ومن خلال اجتماعات شبيهة بذلك، فقد اعتقد فى قرارة نفسه أن نجاحهم يعود إلى وساطة قام بها أحد الساسة الأقوياء. ولكن الاجتماع الذي كان مليئاً بالناس والذي عقد فى الصالة الرياضية لإحدى المدارس، كان يتميز بالجدية. فى هذا الاجتماع، تحدث عمدة المدينة عن الموازنة وقام حوالى اثني عشر شخصاً من الحاضرين، الذين ناهز عددهم الألفين، بسؤال المسؤولين عن المشروعات التي تمت سابقاً. بعدها انتخبت المجموعة مندوبين للتحدث باسمها خلال العام. وبرغم أن “ماركو” لم يتمكن من فهم كل التفصيلات الفنية التي وردت في الاجتماع، فقد تم انتخابه كمندوب وبدأ فى حضور الاجتماعات التي كانت تعقد اسبوعياً. بالتدريج، تعلم “ماركو” قواعد تلك العملية التي تسمى بإعداد الموازنة التشاركية بفضل الشروح التي قدمها مسؤولي المدينة الذين حضروا الاجتماعات. فى نهاية تلك السنة الأولى، قرر هو وزملائه من المندوبين أن أفضل طريق لإنفاق موارد الموازنة المتاحة هو التركيز على رصف الشوارع وتطوير نظام الصرف الصحي.
على مدار السنين، زادت مساهمة “ماركو” فى تلك العملية وبدأ فى احضار المزيد من سكان الحي إلى الاجتماعات، كما ساهم في إنشاء اتحاد لأهالي المنطقة وتمكن من تحقيق حلمه فى ان يمتلك سكان المنطقة أراضيهم بشكل قانوني. والآن أصبح “ماركو” وجيرانه أعضاء في اتحاد يمتلك بشكل قانوني عقود ملكية تلك الأراضي. ويقضى “ماركو”، والذي لم تكن له نشاطات سابقة فى أى جمعية أو حركة اجتماعية، ساعات طويلة فى الاجتماعات كل أسبوع، يقوم خلالها بشرح الكثير من التفاصيل المتعلقة بمهام الهيئات الحكومية المختلفة للسكان الجدد.
إعداد الموازنة التشاركية هو نظام أدخله حزب العمال إلى البرازيل وحقق من النجاح ما جعله ينتشر فى مائتي مدينة في أرجاء البلاد وتم تطبيقه أيضا في عشرات من المدن في أوربا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا. وقد أدى إلى تغيير طريقة اتخاذ القرارات الخاصة بإدارة المدن، بالذات في مدينة “بورتو أليجري”، حيث تمت إحدى التجارب الأولى للمشاركة فى وضع الموازنة قبل 16 سنة.
فتح إعداد الموازنة التشاركية أبواب المساهمة في القرارات الحكومية بشأن الاستثمار والإنفاق أمام المجتمعات المحلية، مما أتاح الفرصة لآلاف من المواطنين البرازيليين لاتخاذ قرارات فعلية ومتابعة تنفيذها ومحاسبة المسؤولين عليها. ومنحت تلك العملية فرصة للسكان الذين يعيشون فى ظروف تماثل ظروف حياة “ماركو” لكى يتعلموا ذلك الشكل من الممارسة الديمقراطية ولكى يساهموا بشكل فعال فى القرارات التي تؤثر على شكل مدينتهم.
***
تشتهر الأجهزة الحكومية فى البرازيل بانتشار الفساد والمحسوبية فيها. وقد وصفت مقالة نشرت مؤخرا فى “نيويورك تايمز” الإدعاءات الخاصة بوجود فساد بين قيادات حزب العمال على المستوى القومى بأنها “فرصة لكى نتذكر الفساد الواسع” الذي يعود تاريخه إلى زمن الاستعمار. ولكن فى صفوف الحركات التقدمية، تتمتع البرازيل بسمعة طيبة بفضل قدرتها على الإبداع السياسي والتي ظهرت من خلال حركات الفلاحين المعدمين ومن خلال تنظيم “المنتدى الاجتماعي العالمي”، وهو مؤتمر قمة دولي يشارك فيه نشطاء العدالة الاجتماعية. وأيضا يذكر للبرازيل خروجها بفكرة إعداد الموازنة التشاركية.
وبغض النظر عن الأزمة التى حدثت فى صفوف القيادة القومية لحزب العمال، فإن التجارب التي تمت بشأن الديمقراطية المباشرة، والتي أدخلتها بعض الإدارات المحلية التقدمية – بما فى ذلك حكومات العواصم الإقليمية فى “بيلو هوريزونتى” و”بورتو آليجري” و”بيليم”، ما زالت تلهم الكثيرين فى مختلف أنحاء العالم. تلك المدن أنجزت الكثير وتمكن بعضها من تحقيق مستويات من الخدمات الاجتماعية لم تكن تعرف قبلا فى البرازيل، مثل توفير المياه النقية والصرف الصحي لأغلب المواطنين وأيضا الارتفاع الكبير فى معدل انتظام الأطفال في التعليم الأولى.
هناك ميزة كبيرة فى عمل المؤسسات التشاركية، حيث تشجع تلك المؤسسات بطبيعتها الفئات المحرومة على الانخراط فى العمل العام وذلك بتوفير فرص التدرب على اتخاذ القرارات مع إمكانية تحسين واقع المجتمع المحلى. وعلى عكس أسلوب اتخاذ القرار من خلال مجالس نيابية، وهو الأسلوب المألوف في الأشكال التقليدية من الديمقراطية، فإن الديمقراطية المباشرة تتطلب مشاركة نشطة من جانب المواطنين على نحو يرتفع بقدرتهم على حل المشاكل والتواصل ورسم الاستراتيجيات. ولكن الإنجاز الأكبر، وهو الدرس الذي يجب أن تعيه الحركات التقدمية في مختلف مناطق العالم، هو حدوث تغير أساسي في شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
يقول منتقدو الديمقراطية المباشرة إنها تشجع على الفوضى وتضيع الوقت وتسمح للقليلين بالتحكم فى الأغلبية. ولكن المدافعين عنها يشيرون إلى العيوب الكامنة فى نظم الديمقراطية النيابية ويؤكدون على نجاح الديمقراطية المباشرة فى الخروج بقرارات فعالة، مثل إعادة استخدام الموارد البلدية على نحو يناسب حاجات السكان الأكثر فقرا. فى البرازيل، أدى هذا التغير الجذري إلى أبعاد شبح المحسوبية الذي خيّم لزمن طويل على ميزانيات المحليات. عندما يكون هناك آلاف من السكان العاديين يعبرون عن آرائهم ويراقبون ما يحدث، فإن هذا يزيد من الشفافية ومن حسن استخدام المعلومات المتاحة ومن الرقابة على أداء المسؤولين المنتخبين. وعندما يتمكن السكان من التأثير بشكل مباشر على تخصيص الموارد فى مجتمعاتهم عن طريق إعداد الموازنة التشاركية، يرتفع مستوى انخراط المواطنين فى الشأن العام وتزداد معه قوة المجتمع المدني.
***
بدأ اعداد الموازنة التشاركية بشكل تجريبي فى “بورتو أليجري” في 1990، حيث تبنت إدارة حزب العمال الفكرة. وكانت تلك الإدارة، التي تم انتخابها في العام السابق، تفتقر للخبرة وتبحث عن طريقة لإثبات نفسها ودعم مشروعيتها. ولكن جذور الفكرة تعود إلى السبعينات وأيضا إلى تلك الحركات الاجتماعية التي مهدت لمسيرة الديمقراطية في منتصف الثمانينات. وقد أكد زعماء الحركة الشعبية ورجال الكنيسة التقدميون الذين شاركوا فى تلك الحركات على أهمية الاستقلال الذاتي وإجراءات الديمقراطية التشاركية، حيث تكونت في مختلف أنحاء البلاد اتحادات للأحياء وحركات اجتماعية تطالب بصوت فى الشأن العام المحلى، وبالذات في قضايا النقل والصحة والإسكان. أما حزب العمال، الذي تشكل في مطلع الثمانينات، فكان بمثابة المظلة التي تعمل من خلالها تلك الحركات.
فى 1985، بدأ الناشطون فى اتحادات الأحياء المحلية فى “بورتو أليجري” فى الإصرار على المشاركة في القرارات الخاصة بميزانية المدينة. ومن خلال التجربة والخطأ، تم تطوير إعداد الموازنة التشاركية على نحو أدى إلى عقد اجتماعات على مدار العام مع إتاحة الفرصة للمشاركين لاتخاذ قرارات بشأن المشاريع التي تقام فى أحيائهم وفى المدينة ككل. وبهذا تولى المواطنون مهام كثيرة كانت قبلا في صميم اختصاص البيروقراطية: مثل وضع أولويات الإنفاق على مستوى المدينة وتخطيط الاستثمارات ومراجعة الرواتب وأيضا وضع قواعد لعملية إعداد الموازنة التشاركية ومراقبة نتائجها. وحيث أن مسؤولية تقديم معظم الخدمات الاجتماعية واستثمارات البنية التحتية فى المدن البرازيلية كانت قد انتقلت إلى إدارات تلك المدن منذ التسعينات، فإن فرصة السكان أصبحت كبيرة في التأثير على ما يحدث بشأن خدمات النقل والتعليم والصحة وأعمال المرافق العامة.
عادة ما تبدأ العملية فى مارس من كل عام، وذلك بعقد اجتماعات مجالس على مستوى الحي فى كل من أحياء المدينة الستة عشر، وبعدها تتم اجتماعات بين المندوبين المختارين من كل مجلس والذين يناقشون احتياجات الحى ويحددون المشروعات اللازمة. وفى نهاية العام يتم تقديم المشروعات والأولويات إلى المجلس المحلى للميزانية والذي يتكون من مندوبين عن كل حى. يتولى هؤلاء المندوبون توفيق الاحتياجات مع الموارد واقتراح والموافقة على الموازنة البلدية بالتنسيق مع مسؤولي الإدارة المحلية. وتقوم بعدها الهيئات التشريعية المحلية بالتصويت على الموازنة، حيث يتم في العادة إقرارها دون تعديلات. وفى خلال تنفيذ المشروعات، تقوم لجان شعبية بمراقبة العمل بها. وقبل نهاية العام يقوم المشاركون بإعادة النظر في طريقة إعداد الموازنة التشاركية وتحسينها بناء على الخبرات المستفادة.
يتم اقرار جانب ملحوظ من الموازنة المحلية السنوية ( ما بين 9 و21 في المائة من الإجمالي) على هذا النحو، وهو ما يسمح بتمويل مئات من المشروعات تصل نسبة تنفيذها إلى قرابة 100 فى المائة. وقد حققت تلك المشروعات ما يشبه الاستجابة الكاملة لاحتياجات تلك المجتمعات من مرافق المياه والصرف، وزاد عدد الأطفال في المدارس البلدية إلى ثلاثة أضعاف، وحدثت زيادات ملحوظة فى عدد وحدات الإسكان المخصصة للعائلات الأقل دخلا. ويلاحظ أن معدل إنفاق “بورتو أليجري” على قطاعات معينة مثل الصحة والإسكان يرتفع عن المعدل القومى، بينما تنخفض النفقات الإدارية والثابتة باستمرار. وتمكنت “بورتو أليجري” من القيام بإعادة توزيع الموارد على نحو يتميز بالمسؤولية المالية وبالشفافية الدائمة. وقد نال هذا الأسلوب ثناء المؤسسات الدولية ومنها البنك الدولي أكثر من مرة. وتوضح النتائج الأولية لدراسة قومية تم إجراؤها في أواخر التسعينات أن إعداد الموازنة التشاركية قد خفّض من معدلات الفقر وحسّن مستوى التعليم.
وصلت نسبة الانخراط فى عمليات إعداد الموازنة التشاركية إلى معدلات غير مسبوقة. فبعد ثلاث أو أربع سنوات من بداية تحقيق تلك العملية لنتائج مرضية، تضاعف عدد المشاركين بشكل لافت للنظر. بحلول عام 2004، كان نحو 20,000 شخص يحضرون الجولة الأولى من الاجتماعات، وأكثرهم من للمرة الأولى. وعلى أقل تقدير، يعتقد أن حوالى 10 فى المائة من السكان قد حضروا اجتماعات الموازنة مرة واحدة على الأقل.
أغلب المشاركين هم على شاكلة “ماركو”: ليس لديهم تعليم ثانوي ويعملون فى وظائف يدوية أو فى قطاع الخدمات ويقل دخلهم بكثير عن معدل الدخول فى مدينتهم. ويلاحظ أن نسبة مشاركة النساء والبرازيليون الأفارقة وأهالي المناطق الأكثر فقراً مرتفعة بشكل خاص. وفى الحي الذي يعيش فيه “ماركو”، هناك نسبة عالية من المشاركة برغم قلة خبرة السكان بمسائل إدارة المدن. ولا شك أن تفعيل المجتمع المدني في أحياء مثل تلك التي يعيش بها “ماركو” قد أدى إلى قلب الطريقة التي كانت تتم بها عملية اتخاذ القرار بشكل تاريخي، وهو أمر يعد من أهم إنجارات إعداد الموازنة التشاركية.
هناك اتفاق بين الباحثين على أن المؤسسات الجماعية هى الأقدر على الوفاء بالاحتياجات الجماعية، ولكن ما لاحظه الباحثون مؤخرا هو أن الفئات الأكثر احتياجاً من السكان هي الأقل قدرة على التنظيم. وفى حالة المدن البرازيلية، فإن الحكومة قد احبطت لسنوات طويلة أي جهود لإقامة وعمل اتحادات منظمة تعمل فى خدمة المصالح الجماعية. وكان من المألوف أن تجد المؤسسات التي تستهدف تحسين الخدمات نفسها في صراع مفتوح مع الحكومات المحلية، مما يجعل من الصعب عليها الاستمرار فى عملها. وفى “بورتو أليجري” وغيرها من مناطق البرازيل، لم تكن منظمات الأحياء الفقيرة أكثر من ساحات انتخابية تسمح للساسة المرموقين بتقديم خدمات محدودة مقابل أصوات الناخبين.
فى أواخر الثمانينات، كانت هناك منظمتان تعملان فى منطقة “ماركو” التي يعيش بها 20,000 نسمة، وكانت المنظمتان ترتبطان بشخصيتين سياسيتين مرموقتين. والآن هناك حوالى 20 منظمة، وكلها تنشط في إطار إعداد الموازنة التشاركية. وفى “بورتو أليجري” وحدها تضاعف عدد تلك المنظمات منذ 1989، وكانت الزيادة الأكبر فى أحياء المدينة الأكثر فقراً. وبينما تركزت جهود منظمات الأحياء والمجتمع المدني سابقاً على الاحتجاجات وتقديم العرائض، فإن المنظمات الحالية تهتم أساساً بتنظيم طرق عملية لحل المشاكل بدلا من تنظيم الاحتجاجات أو جمع الأصوات لتأييد أحد الساسة المرموقين. وبفضل العنصر التدريبي القوى الذي تتضمنه تلك العملية، ينضم أعضاء جدد باستمرار إلى المنظمات المحلية وإلى الأنشطة المدنية.
تختلف الطريقة التي تتخذ بها القرارات في اجتماعات إعداد الموازنة التشاركية عن النماذج القديمة للمشاركة في الأنشطة المدنية، حيث يقضى المشاركون قدراً ملحوظاً من الوقت في مناقشات مستفيضة. ورغم أن أغلب القرارات يتم التوصل إليها عن طريق التصويت، فإن المناقشات المستفيضة فى تلك الاجتماعات وعلى هوامش المنتديات الرسمية تلعب دورا هاما فى اتخاذ القرار. تلك العملية المليئة بالتفصيلات تستمر لمدة سنة يقوم خلالها المشاركون بحل الخلافات المتعلقة بالأوليات. وفى وسع سكان الحي الذي يعيش فيه “ماركو”، وغيره من الأحياء، أن يقرروا تقسيم الموارد بين عدد كبير من المشروعات الصغيرة، كما يمكنهم التركيز على أولوية واحدة كبيرة مثل بناء طريق أو مدرسة. وعادة لا يتأتى التوصل إلى الحل بدون لحظات من التوتر والكثير من المفاوضات. ويلعب المشاركون الفاعلون من أمثال “ماركو” دورا هاما في الخروج بحلول وطرق يمكن من خلالها تحقيق التوازن بين احتياجات الأحياء التي يعيشون بها والمنطقة الأكبر المحيطة بهم.
تقدم اجتماعات إعداد الموازنة التشاركية طرقا جديدة للعمل الجماعي والنقاش، إلى جانب توفيرها لأسلوب يمكن من خلاله اختيار المشاريع وتحديد الأولويات. وقد تعتقد أن الاجتماعات تلك، والتي تتم تحت رعاية الحكومة لبحث الجوانب الفنية لرصف الشوارع مثلا، لا تصلح لمناقشة حدود المدينة القريبة من الأحياء الفقيرة، ولكن هذا ما يحدث بالفعل. ففي تلك الاجتماعات يقوم المشاركون دوما بطرح مثل تلك المسائل للنقاش. بمجرد أن يأتي الناس إلى الاجتماع الدوري، فإنهم يبدؤون في مناقشة كافة الأمور، وهم بهذا يتوصلون إلى نوع من الفهم للمسؤوليات والحقوق العامة يرتبط بواقعهم. ومن المألوف أن يحضر بعض المشاركين قصاصات من الصحف معهم لمناقشة الأحداث الجارية، كما قد يحضرون متطوعين للمشاركة في بعض المشاريع، وأحياناً يقومون بتنظيم احتجاجات تستهدف التأثير على المؤسسات الحكومية ذاتها. ونظرا للنجاح الذي حققه إعداد الموازنة التشاركية في جذب المشاركين وتحقيق نتائج عملية، فإن مسؤولي المحليات يتقبلون تلك النقاشات بوصفها مظهراً صحياً للممارسة الديمقراطية. بالنسبة للمشاركين، مثل “ماركو”، فإن اجتماعات الموازنة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة المجتمع، فهي مكان “يتواجد فيه المجتمع ككل” ويمكن فيه “مناقشة عدد كبير من القضايا وليس فقط الموازنة.”
بهذه الطريقة، يؤثر إعداد الموازنة التشاركية على المجتمع المدني وعلى ممارسات إدارة المدن، كما يعيد من تشكيل تلك الممارسات. وهناك تقبل متزايد في إطار البحوث الخاصة بنظرية الديمقراطية والنقاشات المتعلقة بالسياسة العامة فى الولايات المتحدة لحقيقة أن المجتمع المدني يمكنه الارتفاع بمستوى الممارسة الديمقراطية فى الدولة. فوجود مجتمع مدني منظم وأمين يراقب مؤسسات الدولة هو أمر يحول دون انتشار الفساد. ويمكن القول بأن مستوى الديمقراطية يرتفع مع تحسين الطرق التي يمكن فيها للمواطنين مساعدة أنفسهم. ولكن يجب أن نتذكر أن إصلاح الدولة – من خلال زيادة انفتاحها لإرادة الجمهور – من شأنه تغيير طريقة عمل المجتمع المدني. فالدولة التي تغلق أبوابها أمام الجميع باستثناء حلفائها السياسيين إنما تخلق الدوافع لانتشار المحسوبية وبالتالي تطرف المعارضة. أما الدولة التي تستجيب للمشاركة المباشرة فإنها تخلق الدوافع لعمل المجتمع المدني. في حالة إعداد الموازنة التشاركية في “بورتو أليجري”، أدت إصلاحات الدولة إلى خلق الدوافع لمشاركة الفقراء في العمل العام من خلال التركيز على أساسيات البنية التحتية.
لقد خلقت الدولة ليس فقط الحافز وإنما أيضا الظروف الملائمة التي تشجع الفقراء على المشاركة. هناك فائدة أخرى تنبع من إعداد الموازنة التشاركية، وهى تحسين المهارات المرتبطة بالعمل العام. عندما يحضر المشاركون الاجتماعات ويقدمون طلباتهم فإنهم يتعلمون قدرا كبيرا من المهارات اللازمة للقيام بعمل جماعي، ومنها كيفية إدارة الاجتماعات وعقد المفاوضات وتقديم التنازلات. كما يتعلمون الكثير من الجوانب المرتبطة بإدارة الشؤون الحكومية والتي كانت معرفتها تقتصر فى الماضي على خبراء السياسة العامة. هذا الإنجاز ليس هينا في بلد افتقرت فيه “الجماهير” فيه طويلا لأي قدرة على التأثير واقتصر أملها في التغيير على توسط كبار القادة. لذا يجب ألا ننسى أهمية إعداد الموازنة التشاركية في إعلاء قيمة المواطن العادي.
بعد أن أدخل حزب العمال فكرة اعداد الموازنة التشاركية في “بورتو أليجري”، تم تطبيق تلك التجربة فى العشرات من البلديات بطول البلاد وعرضها. فى 1992، كانت هناك اثنتا عشرة بلدية تطبق إعداد الموازنة التشاركية، وفى 1996 وصل هذا العدد إلى 36 بلدية. ومع تزايد القوة الانتخابية لحزب العمال واتساع نطاق تواجده فى الأقاليم، انتشر اللجوء إلى إعداد الموازنة التشاركية في أرجاء البلاد. قامت أكثر من مائة بلدية بتجربة هذا النظام بين عامي 1997 و2000 ثم قامت 200 بلدية أخرى بتجربته بين 2001 و2004، ونصف تلك البلديات تقريبا كانت تحت إدارة أحزاب سياسية أخرى.
رغم إنجازات هذه العملية، خسر حزب العمال، بعد 16 سنة من الحكم المتواصل، الانتخابات البلدية لحزب من يسار الوسط فى أكتوبر 2004، وهو الأمر الذي رحبت به المعارضة على أساس أن “بورتو أليجري” أصبحت “لا تمت إلى حزب واحد.” وليس من السهل شرح أسباب تلك الهزيمة غير المتوقعة. ولكن يمكن القول بأن مرشح المعارضة بنى حملته الانتخابية على أساس المشاعر السلبية تجاه الحزب الموجود فى السلطة، ودعا الناخبين فى “بورتو أليجري” إلى التصويت لصالح “التغيير الديمقراطي”، قائلا إن الوقت قد حان الوقت لتبادل السلطة وإنهاء “حكم الحزب الواحد.” كانت هناك أيضا مشاعر سلبية مكبوتة قد تراكمت خلال الفترة التي قضاها حزب العمل في الحكومة المحلية، وبدت بعض مظاهر الاستياء من حكم الرئيس “لولا دا سيلفا” فى الظهور. وخاضت المعارضة المعركة الانتخابية على أساس أنه من صالح البلاد “الإبقاء على ما يصلح وتحسين الباقي” وهو شعار لاقى القبول بين ناخبي الطبقة المتوسطة والذين كانوا يختلفون مع أيديولوجية حزب العمال برغم تأييدهم لأسلوبه فى الحكم. وتضمنت الدعاية الانتخابية شعارات أخرى منها: “التغيير الآمن، بشكل نرضاه.” وأضافت الدعاية الانتخابية أن المرشح لرئاسة المدينة (خوزيه فوجاسا) “يتفهم أن هناك تغيرات حان وقتها ويمكن إجراؤها بدون تدمير الإنجازات التي حققتها المدينة في السنوات القليلة الماضية، ومنها إعداد الموازنة التشاركية وتنظيم المنتدى الاجتماعي العالمي.”
لم يلعب حزب العمال على وتر أن التصويت للمعارضة هو تصويت ضد إعداد الموازنة التشاركية، ويحتمل أن يكون هذا قد أضعف فرصته فى البقاء فترة خامسة في الحكم المحلى. فى اليوم الأول من الحملة الانتخابية، التقى مرشح المعارضة بالمساهمين في إعداد الموازنة التشاركية وزار المناطق التى يعيشون بها وناقش أساليب يمكن من خلالها دعم وتحسين تلك العملية. ومع أن الأصوات قد انقسمت بحيث حاز حزب العمال على أغلب الأصوات في الأحياء الأكثر فقرا، فقد نقص تأييد الأحياء الفقيرة والطبقات العاملة لحزب العمال عما كان عليه الحال سابقاً. وقد أعطى “ماركو” صوته لحزب العمال، ولكن بعض معارفه قد صوتوا لصالح المعارضة، أملاً منهم فى أن رئيس المدينة الجديد سوف يخصص أموالاً أكثر لعمليات إعداد الموازنة التشاركية. ما زالت لدى “ماركو” بعض الشكوك ولكنه يستمر في المشاركة بدون أحكام مسبقة.
في وقت كتابة هذا النص، كانت عمليات إعداد الموازنة التشاركية في “بورتو أليجري” تستمر بنفس معدلها السابق، وتقبل بعض الموظفين السابقين ظروف العمل مع الإدارة الجديدة، كما ظلت نفس قواعد اللعبة التي تم إقرارها من جانب المشاركين في العام السابق سارية حتى نهاية 2004. وبرغم انخفاض عدد المشاركين فى بعض الأحياء، فإن العدد الكلى للمشاركين ما زال على نفس مستوى السنوات السابقة. أما عن مستقبل المشاركة في وضع الموازنة فهو يتوقف إلى حد كبير على ما إذا كانت الإدارة الجديدة سوف تحاول أن تتدخل في طريقة وضع المشاركين للقواعد أو تحاول تغيير مسار العملية بشكل أو بآخر.
لقد خلف حزب العمال ورائه آلافاً من المشاركين الذين ينتمون إلى عشرات من المنظمات الجديدة فى العديد من الأحياء. وهؤلاء المشاركون لديهم معرفة وثيقة بطرق العمل الحكومية والقضايا المتعلقة بالموازنة. يتمتع هذا المجتمع المدني المنظم بطاقة كبيرة على الرقابة والتأثير على الحكومة، وهو ما يجعل من المستبعد إتمام عملية إعداد الموازنة التشاركية بشكل لا يخضع للمعايير القائمة أو يتضمن تلاعباً بإرادة المشاركين.
أوضحت التجربة أنه من الصعب تفكيك نظام تشاركي ناجح حتى ولو خرج الحزب الذي كان يتبنى هذا النظام من الحكم. هناك حالات، منها تلك التي حدثت في “رسيف” في أواخر الثمانينات، انتهت بالتطبيق التدريجي لهذا النظام – حتى مع خسارة الحزب الذي يؤيد تطبيق هذا النظام للانتخابات – وذلك استجابة للضغط المنظم من جهة المشاركين القدامى. لو لم يكن إعداد الموازنة التشاركية قد تم من خلال مؤسسات تمتاز بالانفتاح الديمقراطي، فإنه كان سيصبح من الصعوبة بمكان على أحزاب المعارضة أن تدّعى أنها تساند إعداد الموازنة التشاركية برغم عدم رضاها عن أداء حزب العمال.
وبغض النظر عن مستقبل المشاركة في وضع الديمقراطية فى “بورتو أليجري”، فإن نموذج الحوكمة الفعال والنشاط المدنى الفائق نجح فى تقديم صورة مختلفة تماما عما يرد فى عناوين الصحف عن الفساد وعدم الرضا عن إدارة المدينة. وأى تناقض يوجد بين هاتين الصورتين يرجع ببساطة إلى الطريقة التى ننظر بها إلى الديمقراطية. لا يمكن القول بأن الديمقراطية فشلت فى البرازيل أو أن “بورتو أليجري” لم تكن سوى جزيرة من الاحساس المدنى بالمسؤولية وسط بحر هائل من عدم الاكتراث. ولا ينبغى أن ننظر إلى تصرفات المواطنين وسلوكياتهم فى معزل عن مؤسسات الدولة والسياسات القائمة، بل يجب دائما أن نتذكر كل تلك الفرص التى تتيحها لنا الديمقراطية. قصة إعداد الموازنة التشاركية لها مغزى يتخطى كونها مجرد صيغة قابلة للتنفيذ في مدن أخرى في البرازيل أو بقية العالم. فهى تطرح أفكاراً قد تساعدنا على فهم جوانب الضعف فى عملية التشارك فى قرارات الإدارات المحلية فى الولايات المتحدة. وبدلا من أن نقضى الوقت فى تحليل عادات مشاهدة التلفزيون والسلوكيات الاجتماعية الأخرى، ربما كان يجدر بنا التفكير فى طبيعة الحكومة والإدارات المحلية الموجودة لدينا وتقييم مدى شفافية تلك المؤسسات ودرجة انفتاحها وتفاعلها مع المواطنين.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
أحمد Says:
المقال الأصلى : http://bostonreview.net/gianpaolo-baiocchi-the-citizens-of-porto-alegre
January 12th, 2014 at 8:46 pm