“شفافية الموازنة” هو مفهوم بدأ يكتسب مصداقية متزايدة كأساس للمحاسبة والكفاءة الحكومية. وبينما تعرّف الموازنة على أنها خطة حكومية لاستخدام الموارد العامة لسد حاجات المواطنين، فإن “شفافية الموازنة” تعنى أن المواطنين والناخبين والمجتمع المدنى قادرون على الحصول على معلومات بشأن الموازنة، أي بشأن الطريقة التى يتم بها تخصيص الموارد العامة واستخدامها من قبل الحكومة. وبهذا فإن شفافية الموازنة تمكّن المواطنين والمجتمع المدنى من تقييم ما إذا كانت الحكومة تقوم بإدارة الموارد العامة ومن محاسبة المسئولين على تصرفاتهم وقراراتهم الخاصة بالموازنة وقدراتهم الإدارية (بيكونين ومالينا، 2012).
يستخدم “مؤشر الموازنة المفتوحة” 1 لقياس مدى شفافية الموازنة، وهو مؤشر تم تطويره من خلال “شراكة الموازنة الدولية” وهو مشروع أعده “مركز الموازنة والأولويات العامة” في واشنطن. 2
أوضح تطبيق هذا المؤشر أن معظم دول الشرق الأوسط تحرز مستويات أقل بكثير عن غيرها من الدول النامية، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا فيما يتعلق بشفافية الموازنة، وذلك نظراً لأن المواطنين بالشرق الأوسط ليست لديهم طريقة سهلة لفهم أو الحصول على معلومات مفصلة بشأن الموازنة على المستوى القومي (أنظر الشكل1). على سبيل المثال، بينما كان مستوى المؤشر فى جنوب أفريقيا والبرازيل هو 85.5 و74 على التوالي في 2006، فإن نفس المستوى فى الأردن كان 50، وهو أعلى مستويات “شفافية الموازنة” في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا، بينما كان المستوى ذاته أقل من 20 فى معظم البلاد الأخرى ومنها مصر والمغرب. والسبب الرئيسى لتلك المستويات المنخفضة هو أن معظم دول المنطقة لا تعلن عن ميزانياتها بشكل مفصل ولا تتشارك في المعلومات الخاصة بالموازنة مع عامة الجمهور. والملاحظ أن بعض الوثائق الأساسية الخاصة بالموازنة العامة (البيان التمهيدي للموازنة والمشروع التنفيذي للموازنة والموازنة المعتمدة وتقارير الموازنة الدورية خلال السنة وتقرير نهاية العام وتقرير المراجعين وموازنة المواطن) لم تنشر فى أى من دول الاقليم قبل 2010.
من 2006 إلى 2010، حققت مصر أكبر تقدم في “شفافية الموازنة” بالإقليم. وأحد العوامل الهامة التى ساعدت مصر على تحسين سجلها فى هذا الصدد كان هو نشر أول “موازنة مواطن” في مصر فى 2010، وكانت مصر هى أول دولة فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقدم على تلك الخطوة. ووفقاً لتقرير الموازنة المفتوحة لعام 2010 بخصوص مصر، فإن “موازنة المواطن” هي شرح غير تقنى لموازنة الحكومة “يستهدف مساعدة الجمهور – بالذات غير المتخصصين فى المالية العامة – على فهم خطط الحكومة”. بعدها بقليل سارت لبنان وأفغانستان والمغرب على نفس المنوال ونشرت “ميزانيات مواطن” خاصة بها.
بدأت مصر أيضا فى نشر “المشروع التنفيذي للموازنة” حول أنشطة الرئيس، كما نشرت تقارير أكثر تفصيلاً خلال العام (قدمت فيها نبذة سريعة عن تطور الموازنة خلال العام المالي) وأيضاً تقرير نهاية العام، والذى يقارن التنفيذ الفعلي بالموازنة المعتمدة. كل تلك الخطوات الإيجابية ساعدت مصر على تسجيل مستويات أعلى (49) من “شفافية الموازنة” فاقت بكثير تلك المستويات فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (23) والتي تعد الأكثر انخفاضاً على المستوى الدولي.
وقد أدت ثورة 2011 فى مصر إلى تعطيل هذا الاتجاه، حيث تزايد عدم اليقين فى فترة عدم الاستقرار السياسى التى تلت للثورة. ومنذ قيام الثورة، تم اهمال نشر عدة وثائق هامة عن الموازنة. بعض تلك الوثائق تتضمن مشروع الموازنة التنفيذية وتقارير دورية خلال العام و”موازنة المواطن”. كما تراجع دور البرلمان وأجهزة المراجعة الحسابية في وضع الموازنة أو الرقابة عليها، حيث قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة باعتماد الموازنة الدولية لعام 2012/ 2013 بدون استشارة أى جهة أخرى. 3 كل تلك العوامل قد أضعفت من مستوى “شفافية الموازنة”، حيث انخفض في 2012 إلى (13) وهو أقل مستوياته على الإطلاق.
عندما أعلن يوسف بطرس غالى، وزير المالية المصرية السابق، أول مبادرة”لموازنة المواطن” عام 2010، أوضح أن “موازنة المواطن” هي إحدى الطرق التى تستهدف تحقيق اللامركزية المالية لأنها تسمح للمواطنين بمعرفة كيفية حصول الدولة على الموارد وكيفية انفاقها. 4
تساعد الشفافية المواطنين على محاسبة حكومتهم بشان أولويات الإنفاق وتخصيص الموارد العامة. ومن خلال “موازنة المواطن” تشرك الحكومات المواطنين فى المعلومات بطريقة يمكن لأغلب السكان استيعابها. وعندما تتم اتاحة معلومات الموازنة للجمهور من خلال “موازنة المواطن” يقلل ذلك من احتمالات الفساد. فالفساد ينمو عندما لا يعرف أحد كيف وأين ولماذا تنفق الأموال العامة بشكل معين. والميزانيات المعلنة تقلل من فرصة إساءة النفوذ لأنها تمنح السياسيين والمواطنين والمجتمع المدنى معلومات تمكنهم من الحكم على أداء الحكومة وتقييم طريقة التصرف بالدخل العام.
تمنح شفافية الموازنة المجتمع المدني القدرة على المشاركة فى الحوكمة الاقتصادية لأنها تمكن الجمهور من المشاركة فى عملية صنع القرار على المستوى القومي والاقليمي والمحلي (دوبوس ومسعود، 2011). ومن الملاحظ أن المعرفة بالموازنة ترفع من الكفاءة وتحسن من جودة تنفيذ المشروعات والرقابة عليها.
على سبيل المثال، في ميت عقبة، وهى منطقة ذات كثافة سكانية مرتفعة فى القاهرة، عرف السكان المحليون نفقات رصف الشوارع بعد أن تفاوضوا مع الوحدة الإدارية المحلية. وأسفر إلحاح “اللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة” فى ميت عقبة عن دفع المسؤولين لتقديم معلومات عن الموازنة والخرائط والمشروعات المقترحة للحى والمحافظة. وباستخدام تلك المعلومات، بدأ السكان أيضا فى الرقابة على المشروع ورصد نوعية الأداء وتكلفة العمل وحسن الانفاق على المواد الخام فى المدى الطويل والقصير. كما استطاعوا فهم موازنة المشروع ومعرفة الضمانات والشروط التى قدمها المقاول، وأصبح فى مقدورهم مقارنة تلك المعلومات مع نوعية وتوقيت العمل الذى قام به المقاول، وذلك لضمان عدم وجود أى تلاعب. وقد أثبت المشروع أن إتاحة المعلومات حول الموازنة قد زاد من كفاءة المبادرات النابعة عن المجتمع ومن قدرة السكان المحليين على الإشراف على المشروعات عن كثب.
شفافية الموازنة ليست ضمانا لانخراط المواطنين في صنع القرار ولا فى محاسبة الحكومة. ولا يعنى نشر “موازنة المواطن” أن المحتوى سوف يخدم حاجات الجماهير بشكل عام. بل انه في حالات الممارسة غير الديمقراطية، يمكن للأنظمة السلطوية أن تستخدم “موازنة المواطن” لدعم شرعيتها فحسب.
كثيراً ما تحتاج الحكومات لإثبات شفافيتها إلى المانحين الدوليين من أجل أن تحصل على قروض أجنبية، وهو ما يضطر الكثير من الأنظمة السلطوية لاتخاذ خطوات معينة تجاه الشفافية والتصرف بشكل أكثر انفتاحاً في النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ونشر “موازنة المواطن” وغيرها من الوثائق يجعل تلك الأنظمة تبدو أكثر شفافية، بناءً على مؤشرات مثل “مؤشر الموازنة المفتوحة”، كما أنه يساعد الحكومات على ادعاء أنها تشرك المجتمع فى القرارات الخاصة بالإنفاق العام. وقد يكون هذا هو السر فى قرار مصر بنشر أول “موازنة مواطن” وأيضا مشروع الموازنة التنفيذية في 2010.
ورغم نشر تلك الوثائق، فإن الحكومة المصرية لم تقم أبدا بإشراك المجتمع المدنى في عملية صياغة الموازنة والإشراف عليها. ولم يستمع النظام حتى إلى آراء الأعضاء المنتخبين فى مجلس الشعب. وبالرغم من أن ثمانية وتسعين عضوا فى البرلمان كتبوا مذكرة أعلنوا فيها رفضهم لتقرير الموازنة في 2010، فإن التقرير قد تمت الموافقة عليه فى مجلس الشعب. 5 وكما أوضحت الحالة المصرية، فإن طبع الموازنة لا يعنى السماح بأى مشاركة حقيقية من المواطنين فى تحديد أولويات الانفاق الحكومي، وقد لا يتعدى الأمر سوى قيام الحكومة بطبع أولوياتها المالية بدون أى مناقشة ديمقراطية حقيقية على المستويات القومية والاقليمية والمحلية لمحتوى تلك الأولويات، وبدون أى محاسبة تضمن استخدام الموارد وفقا للموازنة وليس وفقا لأهواء الحاكم أو من هم فى السلطة. وبرغم أن شفافية الموازنة يمكنها أن تزيد من احتمال المحاسبة للحكومة فإنها لا تضمن القيام بذلك.
وكما أوضح مشروع ميت عقبة، فإن شفافية الموازنة يمكنها أيضا أن تكون فعالة على المستوى المحلى. معظم البلاد التى تتمتع بمعدلات عالية من شفافية الموازنة مثل البرازيل (أنظر الشكل 1) هي في الواقع بلاد تتمتع فيها الإدارات المحلية بالاستقلال عن الحكومة المركزية، وهو ما يمنحها القدرة على جمع الأموال وتخصيص الأموال العامة وتحديد أهداف الموازنة وتطبيق سياسات تحقق تلك الأهداف.
ومن الملاحظ أن محاسبة المسؤولين تصبح أكثر سهولة كلما صغر النطاق الجغرافى لتلك المحاسبة، بمعنى أنه من الأسهل على المواطنين أن يحاسبوا مسؤولا محليا عن أن يحاسبوا الحكومة المركزية على الأموال التى تم تخصيصها فى مختلف القطاعات على المستوى القومى. ينطبق هذا الأمر على البلاد التي تتمتع بالحد الأدنى من الديمقراطية، والتى يتم فيها انتخاب المسؤولين من قبل الجمهور، مما يجعلهم عرضة للمسائلة أمام من انتخبهم.
ولكن مصر تفتقر إلى حكومات محلية قوية وميزانيات مستقلة (لمزيد من المعلومات حول البعد المالى للحكومة المركزية فى مصر، راجع “من الذى يدفع تكلفة الإدارة المحلية؟“)، وهو ما يجعل محاسبة المسؤولين تحدياً كبيراً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم اليقين الذى أحاط بعملية التحول السياسى فى مصر قد أضر كثيراً بمستوى شفافية الموازنة في البلاد، الأمر الذى قد يدفع المجتمع المدنى إلى المطالبة بشفافية أكثر،. حيث يحتاج المجتمع المدني إلى العمل فى سياق دولة ديمقراطية تسمح له بالرقابة على الاستخدام الكفء والعادل والسليم للموارد العامة.
يعدّ اتاحة المعلومات حقا أساسياً للمواطن في الدول الديمقراطية. مصر ليس لديها أى قانون يضمن الحق فى المعلومات، لذا، يجب على الحكومة أن تتخذ إجراءات من أجل اتاحة الوصول الى معلومات عن الموازنة، وذلك من أجل تحسين شفافية الحكومة وقابليتها للمحاسبة.
بدون اشراك المواطنين في أمور حيوية مثل الموازنة، يصبح تعميق الديمقراطية أمراً في غاية الصعوبة.
جمهورية مصر العربية، وزارة المالية. 2011. موازنة المواطن.
“العسكري” يقر الموازنة الجديدة الأسبوع المقبل 19.1 مليار جنيه لتحسين الأجور والمرتبات. الأهرام الرقمي. يونيو 2013
Dubosse, N. and Masud, H. 2011. “Open Budgets, Sustainable Democracies: A Spotlight on the Middle East and North Africa.” The International Budget Partnership (IBP). Washington, DC.
“NDP and Brotherhood fight over general budget.” 2010. Egypt Independent. 31 March.
“OECD Best Practices for Budget Transparency.” 2002. OECD Journal of Budget.
Pekkonen, A. and Malena, C. 2012. “Budget Transparency.” CIVICUS.
The International Budget Partnership (IBP). 2010. “Open Budget Index, Case Report: Egypt.” Washington, DC.
The International Budget Partnership (IBP). 2012. Open Budget Index (dataset). Washington, DC.
The International Budget Partnership (IBP). 2012. “Open Budget Survey Biennial Report.” Washington, DC.
United Nations Economic and Social Commission for Asia and the Pacific (UNESCAP). 2013. “What is Good Governance.”
1. يعد مؤشر الموازنة المفتوحة أول مؤشر مقارن لشفافية الموازنة على المستوى الدولي. مع إنه ييسر المقارنة، إلا أن به مشاكل مثل تجاهل السياق الخاص بكل دولة، بالإضافة إلى تجاهل المستوى المحلي والإقليمي..↩
2. يعتمد هذا المؤشر على مسح يجرى كل سنتين ويحسب وفق متوسط مجموع نقاط الإجابة عن 95 سؤال في المسح. شارك في المسح باحثون مستقلون من مؤسسات أكاديمية ومن المجتمع المدني من كل دولة. يتراوح المؤشر بين 0 و100 حيث تشير الدرجة الأعلى إلى مستوى أعلى من الشفافية في الموازنة (مسح الموازنة المفتوحة 2012؛ راجع أيضا أسئلة المسح لعام 2011 بالعربية).↩
3. Ahram Online. (2 July 2012).↩
4. “موازنة المواطن “مبادرة جديدة لوزارة المالية .↩
5. Egypt Independent. (31 March 2010) .↩
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments