المكان هنا شديد الهدوء، المساحات واسعة بين البيوت، حيث بعض الصبية يلعبون الكرة بينما اختار البعض الآخر القفز على النطاطة (الترامبولين) في حين تجلس بعض النساء تحت مظلة خشبية يتحدثن ومن حولهن يمر رجل يحمل مقشة وصندوق قمامة متحرك على عجلات. لن ترى هنا سيارات، لكن يمكنك أن ترى جامع محمد علي بوضوح من مسافة أقرب من تلك التي تراها من حديقة الأزهر. مرحباً، أنت في مساكن زينهم.
في سبيل إقناع الأثرياء بالشراء في المجتمعات المسورة يلجأ المعلنون لعبارات مثل “عيش في قلب المدينة وبرة مشاكلها” أو “عيش فوق المدينة “living above it all أو يركزون على الخدمات المتوفرة كالنظافة والمدارس وحضانات الأطفال، أو يسوقون، لمواصفات الفراغ العام كالمساحات الواسعة والمناظر التي يمكن أن تراها من نافذة منزلك. لو كانت منطقة تلال زينهم مجتمعاً مسوراً لربما قيل عنها كل ذلك وسميت زينهم هايتس ولصار شعار الإعلان “عيش في قلب القاهرة…بجد”. لكنّ المكان هنا مختلف فلا يوجد هنا سور ولا أثرياء، المنطقة تتبع حي السيدة زينب الشعبي لا القاهرة الجديدة كما أن المدارس الموجودة حكومية. يوجد هنا مقاهي لا كافيهات، لا يوجد هواة ممارسة لعبة الجولف ولا مركز تجاري ضخم على الحدود لكن هناك هواة تربية الحمام وكذلك بقالين على الحدود مع السيدة زينب.
تشكل منطقة تلال زينهم بحي السيدة زينب حالة فريدة في التعامل مع المناطق الفقيرة واللارسمية، ودائماً ما يشير سكان المناطق الأخرى بأن مساكن زينهم هي النموذج المثالي الذي يرغبونه لتطوير منطقتهم بالمثل، وهو ما جعل مبادرة تضامن تهتم بتوثيق ونشر تلك التجربة. فعادةً ما تتعامل الجهات الحكومية مع المناطق اللارسمية بطريقة فوقية باعتبارها مناطق غير مرغوب فيها. فتقوم بتطويرها عن طريق تبنى منهج الإزالات والقيام بتعويض السكان ببديل عن مساكنهم، وعادة ما يكون هذا البديل على أطراف المدينة، بعيداً تماماً عن منطقة السكن الأصلية. يتسبب ذلك في معاناة جديدة، فيضطر الأطفال إلى ترك مدارسهم التي اعتادوا عليها، ويتعرض رب الأسرة إلى احتمالية فقد فرصة العمل التي كانت بالقرب من مسكنه، وتعاني الأسرة من فقد شبكة العلاقات الاجتماعية، والبديل هو إنفاق الكثير من المال على المواصلات من رحلات ذهاب وعودة لمختلف أفراد الأسرة من وإلى قلب المدينة مرة أخرى.
أما في حالة مشروع تطوير منطقة تلال زينهم، فقد تم التطوير وإعادة تسكين الأهالي في نفس الموقع. كذلك، كان هناك تعاوناً وشراكات مثمرة وتوزيع للأدوار بين الأطراف المختلفة من الجهات الحكومية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص ورجال الأعمال في عملية التطوير وهو أمر نادر الحدوث.
قبل التطوير
يعرف الكثيرون ممن سمعوا أو قرؤوا عن مشروع تطوير زينهم أن المنطقة قبل تطويرها كانت عبارة عن مجموعة من العشش الخشبية في حالة متدهورة جداً عمرانياً وبيئياً واجتماعياً، ولكن ما لا يعرفه البعض أن الكثير من هذه العشش كانت عبارة عن مساكن إيواء أقامتها محافظة القاهرة للأهالي الذين تهدمت منازلهم كمأوى مؤقت لهم إلى أن تقوم المحافظة ببناء مساكن بديلة لهم. أخبرنا (عم عيد) وهو أحد أهالي المنطقة من كبار السن أنه مكث هو وزوجته وأبنائه في مسكن الإيواء في زينهم (الذي كان عبارة عن أربعة حوائط من الخشب بأبعاد 3 متر في 9 متر) لمدة ثلاثون عاماً بعد أن تهدم بيته الذي كان في منطقة أبو الريش، إلى أن حصل أخيراً على وحدة في مشروع تطوير مساكن زينهم. خلال تلك السنوات انضم آخرون ممن يبحثون عن مأوى إلى ساكني الإيواء أو عشش زينهم، وبنوا لأنفسهم مساكن أخرى. في سنة 1999، بلغ تعداد سكان منطقة زينهم حوالي 20.000 نسمة، ما يمثل حوالي 4000 أسرة. وتبلغ المساحة الإجمالية للمنطقة 50 فداناً 1.
لكن للمنطقة أيضاً جذوراَ تاريخية، فمنطقة زينهم تحتل نفس الموقع الذي كانت تحتله مدينة العسكر التي بناها أول ولاة العباسيين على مصر (750 م) كمركز جديد للحكم. المدينة كانت تقع إلى الشمال من سابقتها الفسطاط (بنيت في 641 م). بعد ذلك بوقت قصير في 869 م جاء إلى السلطة أحمد ابن طولون وبنى مدينة أخرى إلى الشمال من العسكر تدعى القطائع حيث بنى مسجده الشهير. لم يبق الآن من المدن الثلاث سوى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط وجامع ابن طولون القريب من الحافة الشمالية لمنطقة زينهم. على الرغم من موقعها التاريخي، إلا أن زينهم خالية من المواقع الأثرية، ربما لقصر عمر مدينة العسكر. وقد انضوت المدن الثلاث فيما بعد تحت مدينة القاهرة، التي بناها الفاطميون عام 969 م.
أما في العصر الحديث، فقد كانت منطقة زينهم عبارة عن تلال من الصخور والرمال، ويروى بعض كبار السن من المنطقة أن هذه التلال قد تحولت إلى حديقة عامة كبيرة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لهذا فقد سميت المنطقة منذ ذلك الوقت باسم حدائق زينهم.
بداية الفكرة
القرار السياسي كان هو المحرك الرئيسي لهذا المشروع. فقد كانت بداية المشروع في عام 1998 حين قررت السيدة سوزان مبارك زوجة الرئيس الأسبق تطوير المنطقة وكلفت جمعية الهلال الأحمر المصري بذلك، وهى الجمعية التي كانت ترأسها هي بشكل مباشر في ذلك الوقت. فأثناء إحدى الزيارات التي كانت تقوم بها سوزان مبارك الى مقر جمعية الهلال الأحمر ، والتي تقع في منطقة زينهم، أصدرت تعليماتها بتطوير المنطقة. لعل هذا الاهتمام هو ما وجه المشروع في هذا الاتجاه المختلف عن باقي المشروعات المماثلة التي قامت بها الحكومة. كما ساهم في هذا التوجه أيضاً اقتراح محافظ القاهرة وقتذاك الاستعانة بأحد رجال الأعمال لبناء أول مجموعة من المساكن بالمنطقة لإعادة تسكين الأهالي. وقد ساعد ارتباط اسم سوزان مبارك بالمشروع على وجود اهتمام كبير سواء من الجهات الحكومية مثل محافظة القاهرة، أو من خلال تبرع العديد رجال الأعمال والمقاولين للمساهمة في المشروع.
مراحل وخطوات المشروع
في البداية تم عمل دراسة حالة وحصر للسكان من قبل جمعية الهلال الأحمر، ثم تقسيم المنطقة إلى ثلاثة نطاقات ليتم العمل فيها على التوالي. في كل مرحلة كان يتم نقل السكان إلى إسكان حكومي مؤقت بعمارات النهضة في مدينة السلام أو عمارات المثلث في حلوان إلى أن يتم الانتهاء من هدم المنازل القديمة بالكامل ومد البنية التحتية وإعادة البناء، ثم بعد ذلك، يتم إعادة السكان مرة أخرى إلى مساكنهم الجديدة.
بدأت المرحلة الأولى عام 1999 وانتهت عام 2000 بينما استغرقت المرحلتين الثانية والثالثة الفترة ما بين 2003-2004 و2005-2007 على التوالي. تبلغ مساحة الوحدة السكنية بالمشروع 67 متر مربع. يحتوي المبنى السكني على 12 شقة في المرحلتين الأوليين، زيدت إلى 14 شقة في المرحلة الثالثة وروعي ألا تزيد النسبة البنائية عن 30%.
بناءً على تقرير للهلال الأحمر المصري، اعتمد المشروع على محوريين أساسيين للعمل وهما:
المحور الأول: التنمية الاجتماعية في مجال التعليم ، الصحة، والمستوى الثقافي بالنسبة للسكان.
المحور الثاني: الهدم الكلي للعشش والمباني العشوائية، وإعادة بناء وإنشاء مباني حديثة من خلال تخطيط عمراني جيد يراعي المواصفات الصحية والبيئية والإنسانية الجيدة ويسمح بوجود مسطحات خضراء.2
الموارد ومصادر التمويل
اعتمد المشروع آلية تمويلية متعددة المصادر، شملت الجهات الحكومية والجمعيات الأهلية ورجال الأعمال. بلغت التكلفة الإجمالية للمشروع 200 مليون جنيه بانتهاء مراحله الثلاثة. قامت الجهات الحكومية متمثلة في محافظة القاهرة بتمويل عمليات الإزالة وإعداد الموقع وتكاليف الإمداد بالمرافق الأساسية لمراحل المشروع الثلاثة بتكلفة إجمالية 50 مليون جنيهاً. أما عن بقية التكاليف، فقد قامت جمعية الهلال الأحمر المصري بتجميع وإدارة التمويل (منح رجال الأعمال – المقاولون – الجمعيات الأهلية) لتنفيذ إنشاء العمارات السكنية بتكلفة 142 مليون جنيه ومباني الخدمات بتكلفة 8 ملايين جنيه. تضمن المشروع أيضاً تجديد وإحلال شبكة البنية الأساسية بأخرى ذات جودة عالية، بالإضافة إلى تجديد بعض المنازل القائمة الملاصقة للمنطقة لعدد 1450 أسرة.
لم يعاني المشروع من أية معوقات مادية، فالأرض كانت مملوكة للحكومة وبما أنها شريك في المشروع ولا تزال تملكه فإنها لم تكلف المشروع أية أعباء نظير تكلفة الأرض. أما عن تكلفة عملية التطوير فقد كانت من تبرعات سعى إليها المتبرعون بأكثر مما سعى المشروع إليهم كما أسلفنا. ولا يحقق المشروع أي أرباح بما أنه غير هادف للربح ويفترض أن تغطي الإيجارات مصاريف الصيانة وجمع القمامة.
من أجل إخراج المشروع في هذه الصورة كان لا بد من توفير ما هو أكثر من الموارد المادية. نظراً لاشتراك العديد من الجهات في المشروع، فكان لا بد من تحديد الأدوار والأولويات أولاً وهو ما تم بشكل رسمي من خلال جمعية الهلال الأحمر التي كانت قائمة على إدارة المشروع وإدارة الموارد وجمع التبرعات والدراسات الاجتماعية، بينما قامت الحكومة ممثلة في محافظة القاهرة بالتخطيط العمراني والتصميم المعماري من خلال أحد المكاتب الاستشارية (المستشارون المتحدون) والذي تبرع بالقيام بتصميم معظم مراحل المشروع بدون مقابل كمساهمة من المكتب في نجاح المشروع.
كما قامت المحافظة أيضاً بتوفير المساكن المؤقتة والإشراف على البناء، بينما قامت شركات المقاولات بالبناء حسب خطة المحافظة. أثناء وبعد تنفيذ المشروع قامت جمعية الهلال الأحمر برعاية السكان اجتماعياً وتوفير سبل التعليم الفني ومحو الأمية وورش للكومبيوتر وحملات للتوعية الصحية ورحلات تثقيفية للصغار، كما بنت مركزاً ثقافياً ومركز لرعاية الأمومة والطفولة وحضانتين للأطفال ثم وفرت الأثاث للأسر الأكثر فقراً. من أجل التواصل مع السكان عينت الجمعية منسقين من أبناء المنطقة للتعرف عن قرب على احتياجات السكان وإعلامهم بالخطط والأنشطة المختلفة وحل المشكلات.
النتائج والأثر
تتفق وجهة نظر جمعية الهلال الأحمر مع الأهالي على نجاح المشروع، وإن كانت هناك تحفظات من جهة الأهالي بخصوص الخدمات والصيانة والخدمة الصحية. إلا أن الأهالي يدركون جيداً الفارق بين منازلهم الآن وفي السابق، فعلى الأقل يوجد الآن سقف يحميهم كما أفاد الأهالي. هناك الآن غاز طبيعي ومياه صالحة للشرب، ونظام صرف صحي، وكهرباء، ونظام لجمع القمامة من المنازل. كما أصبحت هناك شوارع نظيفة وفراغ عام أكبر للتنزه ولعب الأطفال. لقد تم إعادة بناء المنطقة كلها بشكل أفضل كما أصبح هناك اهتمام أكبر من المنظمات الأهلية بالسكان، وحدث تحسن طفيف في نسب الفقر والبطالة.4
تتوفر الآن أيضاً بالمنطقة بعض الخدمات مثل نادي رياضي، وعدد من المرافق مثل مستشفى ودار حضانة ومركز اجتماعي كلها تابعة للهلال الأحمر باستثناء مركز طلعت حرب الثقافي التابع لوزارة الثقافة. كما يوجد هناك قسم شرطة وعدد كاف من المدارس. وسائل التنقل لا تشكل عبئاً على السكان لأن المنطقة على مقربة من الطرق الرئيسية في قلب القاهرة. كما عوضت الخدمات التابعة للهلال الأحمر غياب الخدمات العامة الحكومية في بعض القطاعات. يشكو السكان من الخدمة في المستشفى، فهي كما يقولون عادة ما تكون خالية من الأطباء ولا تعمل بكفاءة. أما عن القمامة، فهناك شركة خاصة تم تعيينها من قبل الهلال الأحمر تتولى مهمة جمعها، وذلك أثناء وبعد الانتهاء من بناء المساكن. تقوم الشركة بجمع النفايات الصلبة من الباب وكذلك بتنظيف الشوارع. يشيد الأهالي بأداء الشركة ويبدون رضاهم عن مستوى نظافة الشوارع، ومن الملاحظ بالفعل أن مستوى النظافة ممتاز مقارنة بالمناطق المحيطة.
يستخدم الهلال الأحمر والأهالي معيار جودة البيئة العمرانية في تقييم الوضع الحالي للمنطقة مع اختلاف مفهوم الجودة. من وجهة نظر الهلال الأحمر والسكان فالمشروع يحتاج حالياً للاهتمام الحكومي، إلا أن رؤية كل منهما للاهتمام المطلوب غير متطابقة. فبينما يشتركون في طلب الاهتمام بالصيانة، يرغب الهلال الأحمر أن تزيل المحافظة الإشغالات والأنشطة غير المخططة، بينما يرغب الأهالي في التفات الأجهزة الحكومية إلى احتياجهم لمحال وورش ونشاط اقتصادي مخطط بالمنطقة، فهم كما يقولون لا يرغبون في العودة للعشوائية لكنهم لا يجدون من يخطط لهم ويلبى احتياجاتهم بعد انتهاء تنفيذ المشروع.
الاستدامة
جرى العرف على أن المشروعات التي كانت تتم بناء على رغبة زوجة الرئيس السابق لا يقف أمامها عائق مادي أو إجراءات حكومية بيروقراطية أو أي من تلك الأمور التي عادة ما تعرقل تنفيذ المشروعات الحكومية، بل وحتى الخاصة. على العكس من ذلك، فإن ارتباط اسم زوجة الرئيس السابق بالمشروع دفع جميع الجهات الحكومية ورجال الأعمال والمقاولين للتسابق لبذل الجهود والتبرع بالأموال. كل ذلك من الأمور التي لا علاقة لها بالاستدامة، فمن المفترض في الدولة القائمة على المؤسسات أن أعمال التطوير العمراني، وإدارتها فيما بعد، تخضع إلى خطة حكومية يقوم على إعدادها خبراء ومتخصصون لتحديد مناطق الأولويات وشكل التدخل الأنسب وكيفية تحقيق الاستدامة الاقتصادية والبيئية والمؤسسية أثناء وبعد الانتهاء من المشروع. كما تعتمد أيضا على اضطلاع الإدارة المحلية بدورها في إدارة المنطقة وتوفير الخدمات والمرافق المطلوبة والحفاظ على نظافة المنطقة. ولا يجب أن تعتمد هذه المشاريع على وجود شخص واحد بمجرد اختفائه ينتهي الاهتمام بالمشروع، بل وتختفي أيضاً أية مخططات لإدارة المنطقة أو احتمالات تكرار المشروع بنفس الصورة في مكان آخر.
في حالة زينهم فإن مستوى الصيانة والخدمات التي بدأ بها المشروع في مراحله الأولى ما لبث أن ضعف وتدهور وخاصة بعد الثورة وتراجع الدعم السياسي للمشروع. بالإضافة إلى انتقال مهام الصيانة إلى إدارات الحي المختلفة التي أصبحت تتعامل مع المنطقة مثل أي منطقة أخرى مما أدى إلى تدهور حالة الفراغات العامة.
أدى ذلك الى حدوث عدة مشكلات، منها على سبيل المثال مشكلة إضاءة الشوارع، فمصابيح أعمدة الإنارة تحترق ولا يقوم الحى بصيانتها. والنتيجة أن الشوارع أصبحت مظلمة ليلاً ويلجأ الأهالي لمد أسلاك ولمبات في الخارج للإنارة. أما الحدائق التي يتم نشر صورها في الأخبار والتقارير الخاصة بالمشروع فقد أصبحت الآن جرداء، وبسؤال مصدرنا من جمعية الهلال الأحمر حَمّل الأهالي المسئولية قائلاً أنهم كانوا يجلسون حول الحشائش أما بعد الثورة فقد أصبحوا يجلسون عليها مما جعل الحشائش تتآكل. بينما أفاد الأهالي أن الحشائش قد زرعت مرة واحدة في بداية المشروع وكان الحي يرسل من يقوم بالري والصيانة لها في البداية، ولكن سرعان ما تم إهمالها.
أما بالنسبة للاستدامة الاقتصادية، فقد اعتمدت معظم تكاليف المشروع على تبرعات رجال الأعمال والمقاولين والجمعيات الأهلية، وهو أمر محمود، لكن كما سبقت الإشارة، فإن الجانب السياسي للمشروع كان أحد أسباب هذا الدعم المادي. ولكن من أجل استمرارية وتكرار هذا الأمر لا بد من إيجاد آلية مناسبة لتحفيز رجال الأعمال المصريين على المشاركة في مثل تلك المشروعات بشكل رسمي وشفاف وعادل. بالنسبة للاستدامة الاقتصادية على المدى الطويل، يقوم السكان بدفع إيجار شهري مقداره 55 جنيهاً يتم تخصيصه لأعمال الصيانة الدورية، منها على سبيل المثال أعمال جمع القمامة وتنظيف الشوارع التي تتم بالفعل. لكن أعمالاً أخرى مثل صيانة أعمدة الإضاءة والحشائش والمقاعد العامة تعتمد على ميزانية وإدارة الحي.
لا يمكن الحديث عن الاستدامة دون التطرق إلى الأمور التصميمية والتخطيطية للمشروع. فهناك شقّين في أي مشروع معماري أو عمراني. الشق الأول هو مراحل التصميم والتنفيذ، وهو يتعلق بالمعايير التي يقوم على أساسها التصميم المعماري والعمراني للمشروع. بالنظر إلى المخطط العام يبدو جلياً أن التصميم اتبع المعايير التصميمية القياسية كأي مجتمع مسوّر جديد يتم بنائه على أطراف القاهرة، فالشوارع متسعة والمساحات المخصصة لركن السيارات متوفرة بكثرة، كما أن النسب البنائية لا تتعدى 30 % والباقي عبارة عن مسطحات خضراء ومساحات عامة. وترجع تلك الكثافة البنائية المنخفضة، وفقاً لاستشاري المشروع، إلى الطبيعة الهشة للتربة التي لم تكن تسمح ببناء مباني سكنية مرتفعة أو ذات كثافة عالية. أما الشق الثاني فهو تقييم ما بعد الإشغال، وهو يساوي في الأهمية مرحلة التصميم، حيث أن أي مشروع عمراني أو معماري لا ينتهي عند مرحلة التنفيذ بل ينبغي أن تستمر عملية التقييم والمتابعة بعد الإشغال من أجل ملاحظة العيوب التصميمية ورصد أنماط الاستخدام لمستخدمي الفراغات.
عن طريق طرح بعض الأسئلة وملاحظة أنماط الاستخدام المختلفة بمساكن زينهم، مثل القيام بتعديلات جزئية على الوحدات (إضافة شرفة أو عمل سور في الدور الأرضي)، أو طريقة استخدام الفراغات العامة، يمكن ملاحظة عدداً من النقاط، منها على سبيل المثال تصميم الوحدات ومساحاتها، فعند سؤال بعض السكان – بشكل عشوائي من خلال التجول بالموقع – عن درجة رضاهم عن مساحات الوحدات، أشار البعض ممن تحدثنا معهم على أن مساحات الوحدات صغيرة وغير متناسبة مع حجم الأسر واحتياجاتهم. تتطابق هذه الملحوظة مع نتائج احدى الدراسات التي قام بإعدادها أحد الباحثين عن المرحلة الأولى من المشروع بعد مرور خمس سنوات من استكماله. أجريت الدراسة على 29 أسرة من إجمالي 348 وحدة. قام الباحث بعمل استبيان لقياس درجة رضا السكان عن تصميم الوحدات. أظهرت نتيجة الاستبيان أن 58% من السكان راضين بشكل عام عن حجم الوحدة. أما عند السؤال عن المساحات المخصصة لغرف النوم تحديداً، أشار 55% من العينة إلى أنهم غير راضين عنها. فقد أفادت العديد من الأسر التي يزيد عددهم عن 4 أفراد ولديهم أبناء من الذكور والإناث إلى أنهم لجأوا إلى استقطاع جزء من فراغ المعيشة لتحويله إلى غرفة نوم إضافية للأبناء. أما بالنسبة للفراغات الخدمية فقد أشار 72% من العينة إلى عدم رضاهم عن مساحتها نظراً لصغر مساحة المطبخ والحمام وعدم وجود مساحة لنشر الغسيل، الأمر الذي تم بالفعل تفاديه في المراحل التالية للمشروع بإضافة شرفات للوحدات.
أما بالنسبة للفراغات العمرانية، فقد علقت لنا إحدى السيدات أثناء تجولنا بالمنطقة، مشيرة إلى أحد الشوارع الداخلية العريضة التي تحتوى على مساحات كبيرة لركن السيارات – والتي لا يوجد بها سوى سيارة واحدة أو اثنتان على الأكثر حيث أن سكان زينهم لا يملكون جميعاً سيارات خاصة لإيقافها أسفل عماراتهم – ترى تلك السيدة أن المساحات التي استخدمت لعمل شوارع بهذا العرض الكبير كان من الممكن أن تستغل لزيادة مساحات الوحدات ولو بنسبة صغيرة. كما أوضحت أنها هي وبناتها يخشون من الخروج ليلاً لأن الشوارع بالإضافة إلى أنها تكون مظلمة بسبب احتراق مصابيح الإضاءة وعدم صيانتها، فهي أيضاً خالية من أي نشاط أو حركة، وذلك على العكس تماماً من طبيعة المناطق الشعبية بوسط القاهرة التي لا تكاد تخلو شوارعها من المارة والجالسين على المقاهي وفى المحلات ليلاً أو نهاراً. تساءلت تلك السيدة أيضاً، لماذا لا تستغل الأسوار المصمتة الممتدة حول المنطقة لعمل بعض الأنشطة مثل المحلات لتدر دخلاً على السكان وتجعل المنطقة أكثر حيوية وأماناً.
من الملاحظ أيضاً أن الحدائق التي قام السكان بتسويرها ورعايتها تبدو في حالة جيدة على عكس الحدائق الأخرى التي تركت بلا أسوار وبلا رعاية. السورالذي يقيمه السكان في حقيقة الأمر لا يعوق الدخول إلى الحديقة، لكنه فقط يقوم بتحديد نوع من منطقة نفوذ أو حدود وهمية. تثير هذه الملاحظة نقطة في غاية الأهمية وهى كثيراً ما تتكرر في مشروعات الإسكان العام. من الذي يملك الفراغات العامة أو المساحات المشتركة ومن المسئول عن العناية بها؟
تُقَيِم جمعية الهلال الأحمر التعديلات التي يجريها الأهالي بنظرة سلبية. إذ يرون أن أعمالاً مثل اضافة حظائر للدواجن على الأسطح، أو بناء الأكشاك، أو اقامة الأسوار التي تحيط بالعمارات والحدائق الملاصقة لها، أو تحويل نوافذ الدور الأرضي لمحلات بيع الأطعمة والمنظفات والأدوات المكتبية، ترجع أسبابها الى أن بعض الأهالي يميلون للعشوائية ويفسدون الصورة المثالية للمشروع، كما يشكو مسئولو الجمعية من عدم تعاون الحي الذي يردد دائماً أن البلد كلها عشوائية وفي حالة انفلات وأن باقي المناطق تعاني من مشاكل أكبر، وتخشى الإدارة في هذا الصدد أن يؤدي التأخر في إزالة التعديات إلى تفاقم المشكلة واستحالة الحل فيما بعد. غير أن الأهالي يرون الأمر من منظور آخر، فالنوافذ بالدور الأرضي منخفضة للغاية مما يكشف الغرف بسهولة لذا فهم يبنون الأسوار للخصوصية ولمنع البعض من التبول تحت النوافذ. أما عن الأكشاك فيقولون أن المنطقة تفتقر إلى الخدمات التجارية، حيث كان هناك خطة لبناء سوق تجاري الأمر الذي لم يتم أبداً، ومن دون هذه الأكشاك والمحلات العشوائية فإن السكان يضطرون للخروج إلي حي السيدة زينب لشراء احتياجاتهم. وبسؤال أصحاب الأكشاك أجمعوا على أنها احتياج اجتماعي ومصدر دخل لا يملكون سواه الآن كما أفادوا بأن الحي لا يضايقهم وأنه يطلب فقط عدم بناء منشآت ثابتة.
التكرار والخطط المستقبلية
من الصعب حالياً التنبؤ بإمكانية تكرار مشروع تطوير منطقة زينهم مرة أخرى حيث أن مثل هذا المشروع كانت له ظروف خاصة من الدعم والغطاء السياسي، وتوفر مساحة واسعة من الأرض مملوكة للدولة. ونظراً للتغيرات السياسية الحالية، لا نعرف إن كان من الممكن تكرار نجاح مثل تلك التجربة دون المساندة والضغط من قبل المؤسسة الرئاسية. خصوصاً وأن المشروع لم يؤثر في طريقة عمل المحافظة أو في السياسات والقوانين حيث تجاوز الدعم الرئاسي السابق كل ذلك.
رؤية تضامن
كثيراً ما يتحدث المسئولون في مصر عن مشكلة العشوائيات وعن مخططات الدولة لتطويرها أو على حسب تعبيرهم “القضاء عليها“. ولكن ما هي سياسات الدولة في التعامل مع هذه المناطق وما هي أساليب التدخل المختلفة التي يجب أن تنتهجها الدولة لتطوير هذه المناطق بناء على حالتها العمرانية؟ وما هي المعايير التي يتم على أساسها اتخاذ القرارات بانتهاج سياسة ما في تطوير هذه المنطقة أو تلك؟
طبقاً للدليل الإرشادي لصانعي القرار لتطوير المناطق اللارسمية بالمشاركة الذى أصدرته وكالة التعاون الفني الألماني GIZ في 2010، تنقسم الطرق المختلفة للتعامل مع المناطق اللارسمية إلى خمسة أنماط رئيسية:
تنتهج الدولة أسلوباً متكرراً في معظم المشروعات المتعلقة بتطوير المناطق العشوائية، ألا وهو إعادة التطوير ونقل السكان إلى مناطق نائية على أطراف المدينة. لذلك تعد تجربة تطوير منطقة زينهم من التجارب الهامة بمصر كنموذج لمشاريع التنمية والتطوير العمراني وإعادة التسكين للأهالي بنفس الموقع الأصلي (In-Situ Development). ولا يرجع الانطباع الإيجابي عن هذا المشروع إلى رؤية العديد من خبراء العمارة والتخطيط، ولكنه يرجع في الأساس إلى رأي عدد كبير من سكان وأهالي منطقة القاهرة التاريخية والذين أشاروا في العديد من الدراسات إلى “مساكن زينهم” كالنموذج المثالي – من وجهة نظرهم – للتطوير العمراني من قبل الجهات الحكومية.
بالطبع، يعد هذا المشروع تطوراً هاماً في طريقة تفكير كل من الجهات الحكومية والمجتمع المدني، وتبني مفاهيم هامة بالنسبة لعملية التنمية والتطوير العمراني سواء من المشاركة النسبية للمجتمع المحلي وعدم اللجوء لفكرة الإزالات بل العمل على التطوير وإعادة تسكين الأهالي بنفس المكان. يرى الأهالي أن هذا النموذج ناجح لأنه يحافظ على شبكة العلاقات الاجتماعية لأهالي المنطقة، ويهتم بإعادة السكان إلى المنطقة مرة أخرى بجوار أعمالهم ومدارسهم بعد عملية التطوير، الأمر الذي يندر حدوثه في التعامل مع مشكلة الإسكان اللارسمي والمتدهور.
يتفق الجميع على نجاح المشروع لكن الملاحظ هو تباين الرؤى بين الأطراف المختلفة. بدا لنا أنه هناك صورة مثالية لما يجب أن تبدو عليه المنطقة السكنية لمحدودي الدخل في ذهن القائمين على المشروع من جمعية الهلال الأحمر يسعون لتطبيقها والحفاظ عليها. كما أنهم يرون أن أي محاولة لتغيير تلك الصورة المثالية تأتي في الأساس من طبيعة “فوضوية” و”عشوائية” يجب التصدي لها، وليس من خلال احتياجات السكان المعيشية والذين لا تعنيهم كثيراً هذه الصورة المثالية. تبدو هذه الصورة النموذجية متأثرة بعدة أنماط للإسكان بعضها يحتوي على تناقضات، فلا يمكن ألا نلاحظ تشابه نماذج العمارات وتوزيعها المنتظم وافتراض تشابه السكان من حيث الحاجات والظروف. فعلى سبيل المثال، جميع الوحدات السكنية تتساوى في المساحة (67 متر مربع) بصرف النظر عن حجم الأسرة، وهو ما قد يرجع للاشتراطات الحكومية في هذا المجال. يتناقض ذلك في الأساس مع التنوع الموجود بالفعل في مساحات الوحدات السكنية المتاحة بالمناطق المحيطة من القاهرة التاريخية، والتي يستجيب تنوعها هذا للاحتياجات الاجتماعية المختلفة داخل المجتمع الواحد.
في نفس الوقت كانت نظرة الهلال الأحمر متأثرة إلى حد ما بالمجتمعات المسورة وهو ما ظهر في حديث بعض مسئولي الجمعية عن أن زينهم صارت تشبه “منتجعات الساحل الشمالي”. هذه الصورة المثالية عما يجب أن يكون عليه المشروع وعمران المنطقة وغياب الأنشطة التجارية المرتبطة بصورة مباشرة بالمباني السكنية – وهي الصورة التي تم إنتاجها في الأساس بصورة فوقية من خلال رؤية “السيدة الأولى” السابقة، أو جمعية الهلال الأحمر – تتناقض بشدة مع عمران القاهرة التاريخية وتعقيداته وكثافاته البنائية المرتفعة. فالنسيج العمراني لمشروع زينهم ونسبه البنائية المنخفضة – برغم تأثيرها الإيجابي على بعض مناحي الحياة، ورجوع ذلك لطبيعة تربة المنطقة – لا يمكن تكراره في مناطق القاهرة التاريخية لأسباب ترجع في الأساس لعدم جدواه الاقتصادية.
إن التحدي الأهم الذي يواجه مشروع مساكن زينهم الآن هو القدرة على إدارة الخدمات العامة بالمنطقة بنفس الجودة التي كان من المخطط لها أن تحدث في بداية المشروع، اعتماداً على قدرات الإدارة المحلية بحي السيدة زينب. كان من الممكن أن يصبح المشروع فرصة جيدة لرفع كفاءة الإدارة المحلية بالمنطقة مما يعود بالنفع ليس فقط على منطقة حدائق زينهم ولكن أيضاً على بقية المناطق بالحي. ولكن للأسف، اتبعت المقاربة الحكومية لهذا المشروع – على غرار العديد من المشروعات المماثلة – طريقة فوقية نبعت بالأساس من اهتمام السلطات العليا في البلاد بمشروع ما، فيتم تذليل جميع العقبات في سبيل تنفيذه ويتم الالتفاف حول نظام الإدارة المحلية المهترئ دون محاولة إصلاحه في سبيل تحقيق نتائج سريعة على الأرض.
في النهاية، يقدم مشروع مساكن زينهم تجربة إيجابية في تعامل الدولة مع العمران غير الرسمي وإبقاء السكان في أماكنهم الأصلية بعد التطوير. وبالرغم من ذلك الجانب الإيجابي، فإنه فرصة أخرى ضائعة لمحاولة إصلاح نظام الإدارة المحلية وبناء قدراتها وصياغة سياسة ارتقاء عمراني حقيقية وفاعلة تعتمد في الأساس على مشاركة حقيقية للسكان، وحشد الموارد العامة والمجتمعية، وكفاءة الإدارة المحلية دون الحاجة لأوامر “السيدة الأولى” وما تجمعه من تبرعات.
أرض الأحلام في زينهم!
ﻧﺣﻭ ﺗﻔﻌﻳﻝ ﺁﻟﻳﺔ ﻣﺗﻛﺎﻣﻠﺔ ﻹﺩﺍﺭﺓ ﻣﺷﺭﻭﻋﺎﺕ ﺍﻟﺗﻁﻭﻳﺭ ﺍﻟﻌﻣﺭﺍﻧﻲ ﻟﻠﻣﻧﺎﻁﻕ ﺍﻟﺳﻛﻧﻳﺔ ﺍﻟﻣﺗﺩﻫﻭﺭﺓ: ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻧﻁﻘﺔ ﺯﻳﻧﻬﻡ
“امتي يهدوا بيوتنا وعششنا ويبنوا لنا بيوت جميلة زي عمارات زينهم”؟
بناء أكثر من 71 عمارة بمنطقة زينهم بتكلفة 300 مليون جنيه
مارس 2008: قرينة الرئيس ترأس اجتماعا للهلال الأحمر لمتابعة تطوير منطقة زينهم
مساكن زينهم.. شهادة نجاح في القاهرة
بالصور.. وقفة احتجاجية لأهالي “مساكن زينهم”
جرس إنذار مساكن زينهم تستعيد العشوائيات
روابط بالإنجليزية
Archnet Digital Library: Zeinhom Slum Area Rehabilitation
Fire in Zinhum area
Egyptian Red Crescent: Summary of the Annual Reports During the period 2003 – 2009
Gardens instead
مصادر عامة
الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء: المناطق العشوائية في مصر
تطور ظاهرة العشوائيات في مصر
العشوائيات داخل محافظات جمهورية مصر العربية – دراسة تحليلية للوضع القائم والأساليب المختلفة للتعامل معها
سياسة المحافظة في تطوير العشوائيات
1. الهلال الأحمر المصري
2. Zeinab Khadr and Lamia Bulbul, 2011, Egyptian Red Crescent in Zeinhum: Impact Assessment of Comprehensive Community Development Model for Slums Upgrading
3. الهلال الأحمر المصري
4. للإطلاع على التقرير الصادر من الجامعة الأمريكية باللغة الانجليزية فى 2011 عن تأثير أعمال التطوير بمنطقة زينهم على الحالة الصحية وجودة الحياة
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Bemidji State iPhone 4s Cases Helmet Says:
I view something really interesting about your web blog so I saved to my bookmarks .
January 13th, 2015 at 9:48 am