اقتصر مفهوم الديمقراطية في مصر في الآونة الأخيرة على صناديق الاقتراع، الحاجة إلى إعادة كتابة الدستور، وتسليم زمام السلطة لحكومة ديمقراطية منتخبة. الانتخابات بالتأكيد هي القاعدة الأساسية للمشاركة، وكلما عقدت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية مبكراً، كان هذا أفضل للبلاد. لكن الانتخابات لا يجب أن تقتصر على المستوى الوطني. بينما يؤكد الوضع الحالي في مصر على أولوية التركيز على وجود حكومة وطنية، فإن الانتخابات المحلية لها نفس الأهمية على المدى البعيد؛ حيث تعد انتخابات المجالس المحلية أفضل الفرص للمصريين لانتخاب مسؤولين محليين يمكنهم الاستماع للمواطنين يوميا والعمل على تلبية مطالبهم في جميع أنحاء البلاد، في المدن والقرى على حد سواء. فالمجالس القادرة على حشد الأفكار من الدوائر الانتخابية ووضع الأجندة الخاصة بها بناء على تلك الأفكار هي القادرة على خدمة المصلحة العامة بصورة أفضل. فبدون هذا الأساس القائم على المشاركة على المستوى المحلي، لا يمكن تحقيق مشاركة فعالة أعمق وعلى نطاق عريض؛ وبدلا من ذلك، ستظهر المشاركة في صورة معارضة أو تظاهرات على نطاق واسع، كما حدث في الآونة الأخيرة، تدعوا إلى تغيير الحكومة المحلية. على الرغم من أن المعارضة والتظاهر ركن أساسي لحرية التعبير بشكل ديمقراطي، فهو ليس كافيا لإدارة البلاد.
ما هو حق المشاركة في الشأن العام؟
حق المشاركة في الشأن العام هو الحق المكفول لكل مواطن من الشعب للمساهمة في الحياة العامة. فلكل فرد أو مجموعة أو مجتمع حق المشاركة في اتخاذ القرارات التي من المحتمل أن تؤثر عليه، سواء كان هذا القرار حكومي أو قرار خاص له تأثير على المجتمع.1 فحق المشاركة في الشأن العام يتمثل بداية في حق التصويت، الترشح للانتخابات، والمشاركة في الاستفتاءات، ولكن الأولى من ذلك هو حق الفرد في التعبير الحر عن أفكاره وآراءه في المنتديات العامة، وأن تسمع هذه الآراء وتحترم، ويتم مناقشتها ومداولتها في المجتمع. فمن حق المواطنين أن تؤخذ همومهم في الاعتبار وتوضع باعتبارها نقاط أساسية على قائمة الأجندة الحكومية.
وللمشاركة في الشأن العام مستويات مختلفة. تحدث عدم المشاركة السلبية عندما يشترط على المواطنين قبول مجموعة من القرارات المحددة سلفا. والمشورة هي شكل من أشكال المشاركة يخبر بها متخذي القرارات العامة بحقوقهم ومسؤولياتهم ويأخذ في اعتباره ردود أفعالهم على الرغم من أنهم لا يلجأون بالضرورة إلى استخدام إسهاماتهم. فالمزيد من الأشكال الإيجابية للمشاركة، مثل الشراكة والسلطة المفوضة وإمكانية مراقبة المواطن للسلطة، تعطي المواطنين سلطة أكبر للتأثير على السياسة ومراقبة الخدمات العامة.2 فمعظم شعوب الدول الديمقراطية لها حق التدخل على مستوى المشورة والشراكة. على اختلاف العصور التاريخية، فقد تم دوماً حصر المصريين في حدود عدم المشاركة السلبية ووضعهم في إطار قبول مجموعة من القرارات تم اتخاذها سلفاً.
ما هو تأثير حق المشاركة في الشأن العام على حياتنا اليومية؟
خلق مناخ مناسب للمشاركة المحلية
هناك العديد من العقبات التي تقف حائلاً دون المشاركة الفعالة على المستوى المحلي للمواطنين المصريين الراغبين في توصيل شكوى ما للدولة. فعلى سبيل المثال: المواطنين المهتمين بالتواصل مع الإدارة المحلية بشأن المشكلات التي تواجههم في منطقتهم السكنية ينقصهم الآلية التي تسمح بوجود أية نتيجة فعالة؛ فقد يهدر المواطن أياماً في التنقل من مكتب للمكتب المجاور له بلا أي طائل؛ ذلك بالإضافة إلى المعاملة السيئة التي سيتلقاها ذلك المواطن إذا كان ينتمي إلى منطقة سكنية منخفضة الدخل.
كما يوجد عقبات مؤسساتية تعوق عملية المشاركة بشكل عام مثل القيود المفروضة على الميزانية في الإدارة المحلية وعدم توفر المعلومات. قدرت موازنات الإدارة المحلية بـ 12% من الميزانية الوطنية عامي 2011/12؛ فعلى سبيل المثال إذا أرادت الإدارات المحلية تبني اقتراحات عامة وتطوير بعض الخدمات، ستمنعها مواردها من القيام بذلك.3 في بعض الأحيان يتم حجب مخططات التنمية الخاصة بمناطق الإدارة المحلية ليس فقط عن العامة ولكن أيضا عن الكيانات الحكومية الأخرى (راجع ملخص تضامن في “الحق في تداول المعلومات” ). فكيف يشارك الجمهور بفاعلية في حين أنهم ليسوا على دراية بما يتم تخطيطه؟
تطوير إمكانات المواطنين المصريين
يعيش أغلبية سكان المدينة في المناطق اللارسمية على خدمات محدودة وامتيازات مواطنة محدودة، مع عدم تمثيل في الحكومة. وعندما يتواجد هؤلاء المهتمين بالمشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثر على منطقتهم السكنية؛ مثل قرارات رصف طرق جديدة أو اختيار المناطق الصالحة لإقامة مدرسة جديدة أو عيادة صحية جديدة، يجدون أنفسهم محددين بطرق رسمية قليلة وغير كافية. ومن ناحية أخرى، تتيح المشاركة في الحياة العامة فرص لإقامة علاقات وتحالفات مع مواطنين آخرين مهتمين بالمشاركة، ومن ثم يساعد ذلك على إعداد نشء قادرين على القيام بأدوار حكومية في المستقبل، كما يعطي المواطنين خبرة سياسية وإدارية سواء أرادوا أن يكون لهم دور سياسي رسمي أم لا. والأهم من ذلك، إذا أخذت مشاركة المواطنين في الشأن العام على محمل الجدية من قبل الحكومة، سيساعد ذلك على توطين قيم الخدمات العامة والحياة المدنية والصالح العام.
بناء الثقة
أصبح بناء الثقة بين المواطنين المصريين والحكومة صعباً بعد العديد من السنوات المضطربة وفترات مختلفة من الصراع السياسي، كان البعض منها عنيف والآخر مسبب للانشقاقات، ولكن هذه الثقة لا تزال ضرورية للنمو الديمقراطي للبلاد؛ وتعد المشاركة في الحياة العامة إحدى الطرق لإعادة هذه الثقة. فقد أثبتت التجارب حول العالم، مع وجود استثناءات، أن انخراط المواطنين بعضهم مع بعض ومع الحكومة ينحي الخوف جانبا ويعمل على إعادة الثقة.4 فالمشاركة والحوار المفتوح والتشاورات بشأن احتياجات المجتمع تظهر القاعدة المشتركة بين المواطنين وأعضاء المجتمع نحو تحقيق تلك الأهداف المشتركة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المشاركة ليست الدواء الشافي لجميع التحديات السياسية في مصر. فالمشاركة تستدعي التزام مدني لاحترام آراء الآخر وأفكاره وإدراك وجهات النظر المختلفة سواء التي عبر عنها المواطنون أو مسؤولو الحكومة أو ممثلون عنهما. ويتطلب ذلك اعتراف أن المصالح المشتركة تتلاقى مع المصالح الشخصية وأن مصالح المجتمع قد لا تتلاقى مع الأجندة الوطنية.
حق المشاركة في الشأن العام في الدستور المصري
تنص المادة 87 من الدستور المصري لعام 2014 أن “مشاركة المواطن في الحياة العامة واجب وطني”، ولكنها قصرت المشاركة على “حق الانتخاب، والترشح، وإبداء الرأي في الاستفتاء. وينظم القانون مباشرة هذه الحقوق”. تعد الانتخابات والاستفتاءات حجر الأساس للحق في المشاركة في الحياة العامة، ولكن هذه المشاركة يجب أن تتعدى صناديق الانتخابات. تضمن المادة 54 من دستور 2012 التي ظلت باقية كما هي في المادة 85 من دستور 2014 حق المواطن في التواصل مع السلطات العامة؛ إلا أنها لا تلزم السلطات بالاستجابة لذلك التواصل مع الجمهور بتوقيتات محددة كما أنها لم تنص على اتخاذ أية إجراءات في حالة تجاهل السلطات لهم.
وتلزم المادة 8 من دستور 2012 ودستور 2014 الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية والتضامن لتكفل الخير لجميع المواطنين. فإذا كانت المشاركة في الشأن العام تقتصر على التصويت والتعبير عن الرأي فقط من خلال الاستفتاءات، فكيف إذاً ستضمن الدولة العدالة الاجتماعية والتضامن دون الاستماع إلى عامة الشعب؟! كيف ستعمل الدولة على تحقيق الرفاهة لجميع المواطنين في حين أنها لا تدرك احتياجاتهم ومتطلباتهم؟! فإذا كانت المشاركة في الحياة العامة واجب وطني، فإن مشاركة الحكومة في الحوار العام يتطلب المزيد من الاهتمام.
أمثلة في دساتير دول أخرى
تشير العديد من الدساتير في دول العالم المختلفة إلى حق المشاركة في الشأن العام، وتتراوح هذه الدساتير بين تلك التي تقصر المشاركة على الحق في التصويت والمشاركة في الاستفتاءات كما هو الحال في مصر، وبين الدساتير التي تدعو إلى مشاركة شعبية مباشرة في الشؤون الحكومية، مثل دستور مملكة بوتان 1996 في المادة 22. 1:
تتحول السلطة والحكم الى اللامركزية، وسوف تنتقل إلى حكومات محلية منتخبة لتيسير المشاركة المباشرة لعامة الشعب في الأمور المتعلقة بتنمية وإدارة مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
تضمن دساتير عديدة في أمريكا اللاتينية حقوق دستورية واسعة في مجال المشاركة؛ حيث تنص المادة 26 من دستور بوليفيا 2009 “يحق لجميع المواطنين المشاركة بحرية في التدريب على السلطات السياسية وممارستها ومراقبتها، مباشرة أو عن طريق ممثلين، بصورة فردية أو جماعية. وتتم المشاركة في ظروف عادلة ومتساوية بين الرجل والمرأة.” وتذكر المادة 100 من دستور الإكوادور تفاصيل جميع طرق المشاركة والتي تلزم الدولة بتقديم دعم مؤسسي لعملية المشاركة:
يجب أن تؤسس كيانات للمشاركة، على جميع مستويات الحكومة، مكونة من سلطات منتخبة وممثلين عن الحكومة وممثلين عن المجتمع ، و يتم العمل فيها وفقا للمبادئ الديمقراطية. تهدف المشاركة في مثل هذه الكيانات إلى:
- صياغة خطط وطنية ومحلية وقطاعية بين الحكومات والمواطنين.
- تحسين جودة الاستثمار العام وصياغة أجندات للتنمية.
- إعداد موازنات تشاركية للحكومات.
- تعزيز الديمقراطية بآليات دائمة من الشفافية والمساءلة والمراقبة الاجتماعية.
- تدريب المواطنين وتقوية عمليات التواصل.
ولتنفيذ هذه المشاركة، يتوجب تنظيم جميع ما يلي: جلسات استماع للجمهور، لجان رقابة، مجالس، ضغط شعبي، مجالس استشارية، كيانات أخرى تعزز العقلية المدنية.
يستحق الجزء 87 من الدستور التايلندي لعام 2007 الذكر مفصلاً لبيان كيفية تناول حق المشاركة في الدساتير.
يجب على الدولة متابعة المبادئ التوجيهية لسياسات الدولة فيما يتعلق بالمشاركة في الشأن العام كالتالي:
- تعزيز المشاركة المجتمعية في تحديد السياسات والخطط الخاصة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية على المستويين الوطني والمحلي؛
- تعزيز المشاركة المجتمعية ودعمها في اتخاذ القرارات السياسية، التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير الخدمات العامة؛
- تعزيز المشاركة المجتمعية ودعمها في التدقيق في ممارسة سلطات الدولة على جميع المستويات في إطار تنوع المنظمات المهنية أو الفئات المهنية أو في إطار أشكال أخرى؛
- تعزيز القوى السياسية لدى الجمهور، وطرح قانون لإنشاء صندوق مدني للتنمية السياسية لمساعدة اجراءات الأنشطة العامة للمحليات، وتقديم الدعم لإجراءات المجموعات المدنية التي تشكل شبكات في هيئات متنوعة من أجل أن تكون هذه المجموعات قادرة على التعبير عن آرائها واقتراح مطالب المحليات في مناطقهم؛
- تعريف المجتمع بالتنمية السياسية ونظام الحكومة الديمقراطي، باعتبار الملك رأس الدولة، وتشجيع التصويت العادل النزيه من قبل الجمهور في الانتخابات.
تضمن العديد من الدول حقوق المواطنين في تقديم التماس للأجهزة التشريعية مثل كينيا (2007، مادة 197)، اليابان (1947، المادة 16) المغرب (2011، المادة 15)، نيكاراجوا (1987، المادة 52)، البرتغال (1976، المادة 52). يسمح دستور البرازيل 1989 للمواطنين ليس فقط بتقديم التماس للحكومة، بل أيضا بتقديم تشريعات لواضعى القوانين لأخذها في الاعتبار.
نحو دستور أفضل:
تعمل الحكومات المحلية باعتبارها الوسيط بين الشخصيات العامة وبين السكان. ومع ذلك، فإن هيكلة الإدارة المحلية المصرية ليست موجهة لدعم المشاركة في الشأن العام. فالمساحة الديمقراطية التي اكتسبتها الثورة يتنافس عليها الجميع ولن تبقى هكذا. فعلى الرغم من انبثاق الثورة الديمقراطية، هناك تيارات خفية قوية تقاوم التغيير وقد تجر البلاد إلى النظام الاستبدادي إلا إذا شارك المواطنون بفاعلية لضمان تحقيق مطالبهم. هناك الكثير من المعوقات المؤسساتية التي تحول دون تطبيق حق مشاركة المواطنين في مصر. أولها وأهمها ثقافة التعتيم التي لا تزال تسيطر على الحكومة، وتؤدى الى نقص وصول المعلومة للجمهور؛ ثانياً أننا لا نزال نعاني من مركزية الحكومة. يتطلب ذلك منا دعم حق المشاركة في الشأن العام في طرح سياسات جديدة وأساس دستوري قوي كما هو موضح في دساتير أخرى تم مناقشتها سلفاً. ذلك الأساس قد يتضمن:
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments
Trackbacks