وبغض النظر عن أن مخطط القاهرة 2050 تمت مراجعته وتغيير اسمه لاحقاً، فإن نبدأ هنا سلسلة مقالات تهدف إلى توضيح كيف أن المنطق الذي اعتمدت عليه القاهرة 2050 مازال هو المهيمن حتى يومنا هذا على الأسلوب الذي يجري به إعداد المخطط العام الجديد للقاهرة. ويتجلى المنطق التخطيطي هذا أكثر ما يتجلى في المقاربة الرسمية التي يتبناها المخطط للإيفاء بمبادئ المشاركة العامة، تبادل المعلومات، والشفافية.
هذا المقال التمهيدي سيعطي لمحة موجزة عن تاريخ مخطط القاهرة 2050 منذ بدايته خرج إلى الوجود وصولاً إلى آخر ما انتهى إليه حالياً، مروراً بالخلافات الأولية التي واجهته والتعديلات اللاحقة التي مازالت تطرأ عليه.
البدايات
في أواخر عام 2007 بدأ المجتمع المصري يسمع عن مخطط عام جديد للعاصمة أطلق عليه وقتها مخطط القاهرة 2020/2050. وفي ذلك الحين لم تُكشف معلومات كثيرة عنه، لكن في أواخر عام 2008 أتيح على شبكة الإنترنت عرض تقديمي لتفاصيل ذلك المخطط، يتضمن مجموعة من المشاريع من المقرر تنفيذها بحلول عام 2020، كما يقدم رؤية أشمل للقاهرة في عام 2050. ومن قام بتقديم هذه الرؤية أو هذا المخطط الإستراتيجي إلى رئيس مجلس الوزراء آنذاك أحمد نظيف هي الهيئة العامة للتخطيط العمراني (التي كان يرأسها في ذلك الوقت وزير الإسكان الحالي مصطفى مدبولى). اعتمد العرض على تسليط الضوء على التحديات التي من المتوقع أن تواجهها القاهرة بحلول عام 2050 إن استمر الوضع الراهن دون رادع، وهو يدفع بالحاجة إلى تدخلات إستراتيجية في جميع القطاعات إذا كان يراد بالقاهرة أن «تقوم بتعظيم فعالية دور مصر الإقليمي على المستوى العربي والإسلامي والأفريقي.» وحيث إن مشروع القاهرة 2050 يقوم مقام ’الرؤية المستقبلية‘ و’المخطط الإستراتيجي‘ في وقت واحد، فإن أهدافه تتباين تبعاً لذلك من أهداف عامة جداً (من قبيل تحسين مستوى المعيشة) إلى خطط محددة جداً على مستوى المناطق.
الرؤية والأهداف
تحت شعار «عالم أخضر مترابط» أكد العرض التقديمي للقاهرة 2050 على أنه من الأهمية بمكان أن يكون هناك رؤية للقاهرة الكبرى على غرار مدن أخرى عالمية مثل طوكيو وسيدني وباريس ودبي وشنغهاي. ومن المقرر البدء بتنفيذ المشاريع التي تستهدف تطوير شمال الجيزة ومطار إمبابة القديم، إخلاء المناطق غير الآمنة بالقاهرة، إزالة الكثافات السكانية العالية من المناطق العشوائية، إضافة خطوط جديدة إلى شبكة مترو الأنفاق، نقل مقابر القاهرة (والتي تعرف أيضاً باسم “مدينة الموتى “) إلى مشارف المدينة وتخصيص هذه المساحة للحدائق والمساحات الخضراء وعلى حسب ما قاله مدبولي، فإن هذا كله يجب أن يجري بالتوازي مع أنشطة أخرى على نطاق الدولة من بينها تحديد كردونات المدن المصرية والظهير الصحراوي لها، وتطوير مخططات إستراتيجية لكل مدينة منها..وقد اعتمد المخطط على إعادة توزيع جزء كبير من سكان القاهرة الكبرى لخفض الكثافة السكانية في المناطق المكتظة بالسكان، وتحسين شبكات الطرق والنقل العام، وخلق مساحات عامة خضراء.
وقد تم تقديم هذه المقترحات بهدف خلق تنمية شاملة، جذب للاستثمارات، تعزيز لقطاع السياحة، إيجاد فرص عمل، ورفع جودة الخدمات، والتي من شأنها أن تسهم في رفع مستوى المعيشة لسكان المدينة. كما عمد مخطط القاهرة 2050 إلى الحد من نمو القاهرة الكبرى بتحديد سقف لتعداد سكانها بـ24 مليون نسمة، بالإضافة إلى تقديم تصور للقاهرة كمدينة صديقة للبيئة قادرة على الحفاظ على تراثها الثقافي والتاريخي والاستفادة منه.
شارك العديد من الجهات الحكومية في إدارة عملية تطوير المخطط وتوجيهها، تأتي على رأس هذه الجهات الهيئة العامة للتخطيط العمراني ورئاسة مجلس الوزراء، إضافة إلى زعامات الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك (والذي تم حله في أعقاب ثورة يناير) مع ممثلين للوزارات المختلفة.
أما بالنسبة لآلية التمويل، فقد تم في عام 2007 تخصيص 20 مليون جنيه من ميزانية الهيئة العامة للتخطيط العمراني لمدة عامين للمساهمة في إعداد المخطط وعملية ترتيب المشاريع حسب أولويتها عبر طرحها على مكاتب استشارية سواء محلية أو عالمية. كما جرى توقيع مجموعة اتفاقيات مع عدد من الجهات المانحة تهدف إلى تقديم الدعم المالي والفني، كوكالة المعونة الدولية اليابانية (JICA)، تحالف المدن، البنك الدولي، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، وبرنامج المستوطنات البشرية للأمم المتحدة (UN-Habitat).
حالة من الجدل
بحلول عام 2010، حصل المخطط على موافقة رئيس مجلس الوزراء آنذاك أحمد نظيف ليقوم هذا الأخير بعرضه على مجلس الوزراء. في هذه الأثناء أصبح الحصول على معلومات خاصة بالمخطط أمراً أيسر من ذي قبل، حيث تم تناوله في مناقشات دارت في أوساط المخططين، وفيما بين باحثين في مجال العمران، وبين منظمات حقوق الإنسان. وكان نتاج هذه المناقشات أن مخطط القاهرة 2050 قد بات يوصف بعبارات من قبيل ’مثير للجدل‘، فالمساحات الخضراء الممتدة والشوارع العريضة المظللة بالأشجار، التي يقترحها المخطط، لم يتقبلها المهتمون بالشأن العمراني على أساس القيمة الظاهرية لها. فالعديد من المناطق المدرجة في المخطط محاطة بمبان سكنية غير رسمية ينبغي إزالتها من أجل تنفيذ المشاريع المقررة. على سبيل المثال، في العرض التقديمي للهيئة العامة للتخطيط العمراني (2008) توجد خريطة تظهر فيها عبارة «منتجع للإسكان السياحي (منشية ناصر سابقاً)» على واحدة من أكثر المناطق العشوائية في القاهرة تكدساً بالسكان. فالقضية الرئيسية هنا كانت ما سيترتب على تلك الرؤية من إخلاء لأحياء بكاملها من ساكنيها ذوي الدخل المنخفض وإعادة تسكينهم خارجها، وهو أمر لا يمكن القول إن الحكومات المصرية لها تاريخ ناصع فيه.
أما النقطة الخلافية الثانية فقد تمثلت في أن المشاريع والحلول المقترحة كانت موجهة لخدمة مصالح رجال الأعمال والمستثمرين في المقام الأول، ولا تُعنى بالمواطن المصري العادي، وقد بدا المخطط كأداة للتخلص من فقراء القاهرة.
والنقطة الثالثة التي اعتُبرت أيضاً مثيرة للجدل تتعلق بأسلوب التخطيط الذي تم اتباعه في وضع المخطط، حيث تم التخطيط من أعلى إلى أسفل، وهو أسلوب لا يرقى إلى المستوى المطلوب من الشفافية والمشاركة العامة، بل إن معظم المصريين لم يكونوا في الواقع على علم حتى بأن هناك مخططاً للقاهرة، والمعلومات المتاحة من خلال وسائل الإعلام لم تكن تفصيلية وأحياناً متناقضة، فهناك أكثر من عرض تقديمي للهيئة العامة للتخطيط العمراني مسربة عبر المدونات ومواقع التواصل تحتوي غالباً على معلومات متضاربة، وأحياناً لا تكون النسخة العربية منها متطابقة مع تلك التي بالإنجليزية. إضافة إلى ما سبق، رغم أنه قد تم في عام 2009 إجراء دراسة ميدانية حول أهداف المخطط وتصميمه، فإن تلك الدراسة اعتمدت على أسئلة مبهمة جداً من قبيل «اتفق جميع المشاركين على أن برامج الإسكان ينبغي أن تأخذ البعد الاجتماعي في الاعتبار» والتي من السهل أن تضمن الموافقة بالإجماع تقريباً.
ماذا حدث منذ ذلك الوقت؟
منذ ذاك الحين وحتى 24 يناير 2011، ظلت الهيئة العامة للتخطيط العمراني تدافع عن مخطط القاهرة 2050 وتروج له، قبل أن يتغير ذلك مع أواخر عام 2011، حينما خرج الناس إلى الشوارع مطالبين بالعدالة الاجتماعية، هنالك صرفت الهيئة النظر عنه باعتبار أنه أصبح مجرد ’حلم‘. وبذلك تكون المرحلة الأولى للقاهرة 2050 (والتي يمكن وصفها بمرحلة ما قبل الثورة 2008-2011) قد انتهت.
لكن الحديث عن مخطط منقح للقاهرة 2050، وكذلك عن مخطط قومي مرتبط به –سيطلق عليه بدءاً من هذه اللحظة اسم مصر 2052– لن يلبث أن يعود في 2012. ومثل مصر 2050، فإن مخطط مصر 2052 يركز على أجزاء مختلفة من الدولة بهدف جذب السكان خارج الشريط الضيق لوادي النيل، وتوزيعهم بصورة أكثر اتساقاً على كامل المساحة على امتداد الصحراء الغربية والشرقية، من خلال تطوير بعض المناطق غير المستغلة بعد في مصر. نفس المنطق يمكن أن ينسحب على القاهرة، حيث يمكن اجتذاب سكانها بعيداً عن وسط المدينة، إلى المدن الصحراوية الجديدة.
ومع أواخر 2012، ومع مجيء وزير إسكان جديد لمصر هو الدكتور طارق وفيق، أوردت وسائل الإعلام تقارير تفيد بأن وزارة الإسكان بصدد الإعلان عن رؤية إستراتيجية جديدة للقاهرة لكي تحل محل القاهرة 2050، وأن هذه الرؤية ستستبعد كل العناصر المثيرة للجدل وتحذف من عنوانها لفظ ’القاهرة 2050‘. ومع ذلك، خلال مقابلة مع وزير الإسكان آنذاك الدكتور طارق وفيق، أكد هذا الأخير على أن الهيئة العامة للتخطيط العمراني هي التي تقود هذا الجهد، مع مشاركة تكاد لا تذكر من جانبه أو من جانب وزارته.
لم يأتِ أحد على ذكر المخطط كثيراً خلال عام 2013، إذ شهدت البلاد سلسلة جديدة من الاضطرابات السياسية، لكن برنامج المستوطنات البشرية للأمم المتحدة واصل دعم عملية المراجعة للمخطط، والتي تقوم عليها الهيئة العامة للتخطيط العمراني. وبما إنه لم تصدر أي معلومات جديدة عن المخطط خلال تلك المدة، فقد كان هناك كثيرون ممن لا يزالون يهاجمون المخطط على أساس المعلومات المتاحة من قبل، إلا أن باسم فهمى، مدير برنامج المستوطنات البشرية للأمم المتحدة، أكد أن التعديل الجديد «أكثر [ارتباطاً] بالواقع بكثير.»
خلال عام 2014، توالى على وزارة الإسكان وزيران جديدان؛ الأول كان إبراهيم محلب الذي عين فيما بعد رئيساً لمجلس الوزراء ليخلفه في مارس 2014 مصطفى مدبولى، الذي كان يشغل منصب رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمراني وقت ميلاد مخطط القاهرة 2050. وقد استمر مدبولى في منصب وزير الإسكان في عهد الرئيس المصري الحالي. وفي الآونة الأخيرة بدأ يتاح مزيد من المعلومات عن المخطط، حيث يبدو أن الهيئة وبرنامج المستوطنات البشرية على وشك وضع اللمسات الأخيرة لعملية المراجعة. اليوم، لم يعد اسم المخطط هو ’القاهرة 2050‘، كما أن التاريخ ’2050‘ لم يعد يأتِ على الإطلاق على ألسنة المتحدثين الرسميين. بدلاً من ذلك، صار يُطلق على المخطط الجديد في بعض جلسات النقاش المجتمعية التي عقدتها الهيئة اسم «الرؤية الإستراتيجية لتطوير منطقة القاهرة الكبرى» لكن في أحد الكتيبات الصادرة مؤخراً عن الهيئة يحمل المخطط عنواناً آخر هو «المخطط الإستراتيجي لتطوير منطقة القاهرة الكبرى» وهكذا، يبدو أن الجمع ما بين كونها رؤية عامة ومخططاً تفصيلياً معاً هي خاصية ما تزال مستمرة مع المخطط الجديد كما نستشف من مضمون ذلك الكتيب. وعلى غرار القاهرة 2050، تتنوع المعلومات المقدمة في أحدث كتيب من أهداف شديدة العمومية تدور حول تحسين الحياة في القاهرة، إلى مخططات غاية في التحديد لأحياء بعينها. ووفقاً لما جاء في ذلك الكتيب، فإن المخطط يحتوي حالياً على 22 مشروعاً، هي كما يلي:
1. التعامل مع المناطق العشوائية (حي السلام، المرج، الفسطاط، المطرية ونزلة السمان)
2. توسيع شبكة مترو الأنفاق بإنشاء 4 خطوط جديدة
3. توسيع شبكة الترام بإنشاء 9 خطوط جديدة
4. تطوير شبكة الطرق السريعة بإضافة 750 كيلومتراً
5. بناء 6 محاور لوسائل النقل
6. بناء مركزين للتعليم/للبحوث يركزان على البحوث التكنولوجية المتقدمة والتطوير
7. بناء مجمعين طبيين كل منهما يحتوي على مستشفى عام وعدد من المستشفيات الخاصة ومدرسة للتمريض
8. بناء مركزين للمال والأعمال لإقامة أنشطة تجارية ومالية وإدارية
9. بناء مراكز لوجستية وإدارية داخل المجتمعات العمرانية الجديدة
10. إنشاء مدينة تجارية بحلوان
11. إنشاء مطار بالسادس من أكتوبر
12. تطوير المنطقة الاستثمارية في منطقة أبو رواش (بمحافظة الجيزة)
13. نقل الصناعات الملوثة خارج كتلة العمران الرئيسية
14. زيادة المساحات الخضراء
15. تطوير نظام إدارة النفايات من خلال إنشاء أماكن جديدة للفرز وإعادة التدوير والتخلص منها
16. التعامل مع جزر النيل على أنها محميات طبيعية
17. بناء مراكز سياحية بالسادس من أكتوبر لتدريب العاملين في قطاع السياحة (بما في ذلك أرباب الحرف اليدوية التقليدية)
18. تطوير منطقة هضبة الأهرامات واستكمال بناء المتحف المصري هناك، وتطوير المناطق غير الآمنة المجاورة لها
19. إنشاء حديقة سفاري
20. إنشاء مركز للخيول العربية
21. تطوير ضفاف نهر النيل بالقرب من حلوان والوراق
22. تطوير القاهرة الخديوية شاملاً نقل عدد من الوزارات
حالياً يقوم كل من الهيئة العامة للتخطيط العمراني وبرنامج المستوطنات البشرية للأمم المتحدة بتوزيع هذا الكتيب على الجامعات والمخططين، كما يعملان على إنجاز الجزء ’التشاركي‘ في عملية تطوير المخطط، إلا إنه ليس من الواضح بعد كيف أو متى سيجري تنفيذ بعض المشاريع، حيث إنه لا يزال يتعين دمج بعض مخططات المناطق في مشاريع قائمة بالفعل بالمحافظات الثلاثة التي تكوّن القاهرة الكبرى. وبصفة عامة، لا يزال هناك قدر كبير من الغموض فيما يخص المخطط وتنفيذه وأثره المتوقع.
فيما سيلي من هذه السلسلة للمقالات، سنحاول الكشف عن ماهية المعلومات المتاحة حول المخطط، وتوفير تحليل نقدي ومتوازن لأسلوب تطويره، إضافة إلى التأثير المحتمل للمشاريع التي يتضمنها، وذلك إيماناً من تضامن بأن التنمية التشاركية الحقيقية لا يمكن أن أبداً أن تتحقق إلا من خلال مشاركة المعلومات في وقتها المناسب وبطريقة شاملة وشفافة.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments
Trackbacks