أعلن السيد جلال سعيد محافظ القاهرة في يونيه من العام الماضي أن الحكومة قررت نقل الباعة الجائلين الموجودين بوسط القاهرة الى سوق تجاري دائم في وابور التلج الواقع في شارع الجلاء. وقد قال إنه سيتم الانتهاء من إنشاء السوق خلال أربعة أشهر. وكحل مؤقت ريثما يتم بناء السوق، تتطلب الخطة أن ينتقل الباعة الجائلون الى الترجمان، وهو موقف في بولاق أبو العلا لسيارات الأتوبيس الإقليمية. وبعد عدة محاولات فاشلة لنقل الباعة الجائلين إلى الموقع المؤقت طوال فترة الصيف، شنت وزارة الداخلية حملة أمنية في أواخر أغسطس لإبعاد عدة آلاف من الباعة الجائلين عن وسط المدينة. وسيطرت قوات الأمن على شوارع وسط العاصمة لعدة أسابيع مع كامل عتادها من عربات مدرعة ومعدات مكافحة الشغب ورجال شرطة ملثمين ودعم من قوات الجيش.
لطالما كان الباعة الجائلون جزءاً لا يتجزأ من وسط البلد بالقاهرة، ولكن بسبب عدم وجود أجهزة لتنفيذ القانون وتزايد معدل البطالة في صفوف الشباب منذ ثورة ٢٠١١ (غالبية الباعة الجائلين من دون سن الأربعين) ازداد عدد الباعة الجائلين في وسط المدينة بشكل كبير، مما جعلهم موضع اتهام بكونهم أحد الأسباب الرئيسية لازدحام حركة المرور. وذكرت الحكومة أيضا أن الباعة الجائلين مسؤولون عن سرقة الكهرباء والتعدي على الفراغات العامة. يشجع السكان وأصحاب المتاجر نقل الباعة الجائلين، ولكن العديد من الباعة الجائلين قلقون لأن الانتقال إلى الموقع الجديد سوف يضر بأعمالهم، ولا يعتقدون أن السوق الجديد سيتم بناؤه على الإطلاق.
أجرت الحكومة تعداداً للباعة الجائلين الموجودين في وسط المدينة قبل القيام بإعادة تسكينهم. وتزعم أنه تم تخصيص مواقع معينة في الترجمان عن طريق القرعة للباعة. وفي محاولة لاسترضائهم، أجرى كل من السيد إبراهيم محلب رئيس الوزراء ووزير الصناعة والتجارة ووزير التضامن الاجتماعي ومحافظ القاهرة لقاء مع مجموعة من الباعة الجائلين بعد ثلاثة أيام من بدء عملية إخلاء قوات الأمن لهم من وسط البلد، ووعدوهم بتعزيز الموقع الجديد من خلال حملة إعلانية.
عندما تقوم مجموعة من الناس بتخيل مستقبل مكان معين أو مساحة ما من الأرض، فعادة ما يتخيل كل شخص مستقبلاً يتوافق مع احتياجاته هو ومصالحه وقيمه. والتضارب بين تلك المساحات المقامة في خيال كل شخص وآخر أو رؤيته هو ما يدفع في النهاية بعجلة التطور للبيئة المبنية. والخلاف القائم حول الباعة الجائلين في الفراغات العامة في وسط القاهرة، يضم ثلاث مجموعات معنية رئيسية:
أولاً، المسؤولون الحكوميون والمخططون والمستثمرون وكبار الملاك الذين يتخيلون إعادة إحياء وسط البلد على أنها منطقة تراثية هامة بالشرق الأوسط، ومركز نشط للاستثمار العالمي، وقوة دافعة للاقتصاد المصري، وواجهة لتعزيز صورة القاهرة على المسرح العالمي. وهم في ذلك يتبعون نهج مدن مثل مدينة المكسيك بالمكسيك، وأسطنبول في تركيا، ومومباي في الهند، ونيويورك بالولايات المتحدة. لذا فوجود الكثير من الباعة الجائلين لا ينسجم مع هذه الرؤية. فهم يتخيلون -بدلاً من ذلك- شوارع نظيفة، وأشجاراً على الجانبين، ومبانيَ في حالة جيدة، وبنية تحتية تسمح للسائحين بسهولة الوصول للأصول الموجودة بوسط البلد، وبيئة جذابة للشركات الإقليمية والعالمية الكبرى.
المجموعة الثانية تتكون من الأشخاص الذين قد يتزعزع اقتصادهم إذا تحقق الاستثمار الذي تأمله الحكومة وكبار الملاك: وهم صغار الملاك أو أصحاب المتاجر، والمستأجرون، وقاطنو وسط البلد. وباستثناء أصحاب الملكيات التي قد تتزايد قيمتها مع الاستثمار في المستقبل، يفضل الباقون اتباع نهج أكثر تحفظاً لتطوير منطقتهم. فهم يودون أن يروا بعض التحسينات في المساحة العامة ولكنهم يستاؤون من الأعداد المتزايدة للباعة الجائلين.
المجموعة الثالثة تتكون من الباعة الجائلين نفسهم الذين يستخدمون الفراغات العامة في وسط المدينة لكسب لقمة عيشهم. حيث يبلغ معدل البطالة الرسمي ١٣٫٤ في المئة أما التقديرات غير الرسمية فأعلى من ذلك بكثير. ويعتبر البيع في الشارع مصدر دخل هام للغاية بالنسبة للأفراد الذين لا يجدون العمل “الرسمي” العادي ليتمكنوا من إعالة أنفسهم أو أسرهم. والباعة الجائلون هم جزء من قطاع العمل غير الرسمي في مصر، والذي يندرج تحته أي شكل من أشكال العمل غير الخاضع للضرائب أو للتنظيم، وهو يمثل ٣٠ في المئة من الاقتصاد القومي. ففي عام 2012 كان هناك ما يقدر بـ ٤٫٥ ملايين بائع متجول في الشوارع في جميع أنحاء الجمهورية، وقد ارتفع هذا الرقم أخيراً إلى حوالي ٦ ملايين بائع متجول. ويعتمد الباعة الجائلون اعتماداً اساسياً على البيع للزبائن السائرين على الأقدام، حيث يحتوي وسط المدينة على شوارع بها أعلى كثافة للمشاة في مصر كلها.
قد يكون التفاوض بشأن استخدام الفراغات العامة صعباً ومثيراً للجدل. وعندما يتعلق الأمر بالباعة الجائلين، فإن العديد من الحكومات، من كاتماندو في النيبال إلى بلانتيرفي ملاوي تتجاهل احتياجات الباعة الجائلين نفسهم ومصالحهم وقيمهم، وتستخدم القوة لإزاحتهم. هذا النهج القائم على مبدأ الأمن أولاً ما يفعله تجانس الاختلافات في الظروف والأنشطة والمقاصد بين البائعين بعضهم بعضاً. وهو أيضاً يتجاهل صوت الباعة فيما ينبغي أن يكون حواراً مدنياً حول استخدام الفراغات العامة. بل إنه على العكس ينظر إليهم، ويتعامل معهم، ليس كمواطنين وإنما كمصدر للتهديد وكعائق للتقدم وكعناصر إجرامية، لا سيما مقارنة بتجار الجملة والقطاعي وأي ’الرسميين‘ الذين لهم سجل ضريبي وخاضعين للتنظيم والرقابة.
لكن هناك نهجاً بديلاً أقل إثارة للجدل تتبعه بعض المدن لحل النزاع حول استخدام الفراغات العامة على وجه العموم ومع الباعة الجائلين على وجه الخصوص. ويقوم هذا النهج على الحوار والتفاوض. وهدف الحكومة لا يزال هو نفسه: إزالة الباعة الجائلين، مع السماح لهم بالاستمرار في كسب العيش، ولكن هذا النهج يخرج خروجاً جذرياً عن نهج الأمن الذي تتبعه الحكومة المصرية. وأحد الأمثلة البارزة لهذا النهج كان في سوراكاتا بإندونيسيا، المعروفة أكثر باسم سولو، حيث نجح عمدة المدينة ويدعى جوكو ويدودو في نقل جميع الباعة الجائلين من الأحياء التاريخية في المدينة، وأكثر من ٦٠ في المئة من إجمالي عدد الباعة الجائلين في المدينة دون أن يلجأ لاستخدام القوة.
اللامركزية وإجراء الانتخابات
تم انتخاب جوكو ويدودوعمدة لمدينة سولو في عام ٢٠٠٥. وكان من بين أول العمد المنتخبين ديموقراطياً في إندونيسيا عقب سقوط الدكتاتورية العسكرية للرئيس سوهارتو والتي استمرت طيلة ٣٢ سنة (١٩٦٦- ١٩٩٨). حكم سوهارتو البلاد -مثل الرؤساء في مصر في الماضي والحاضر من خلال حكومة مركزية مع دور قوي للجيش، حيث لم تكن هناك مساحة لأساليب بديلة بالنسبة للتحديات المحلية. وكان نظامه قد جعل مسؤوليات مستويات الإدارة المحلية في الحكومة تقتصر على تنفيذ السياسات العليا للدولة فقط. وجاء سقوط سوهارتو في أعقاب الأزمة “المالية الآسيوية” في عام ١٩٩٧، حيث انخفضت الروبية الإندونيسية إلى سدس قيمتها بالمقارنة مع قيمتها قبل الأزمة. وبعد وقوع احتجاجات واسعة النطاق، وشلل في الاقتصاد، وفقدان للدعم العسكري، أجبر سوهارتو على الاستقالة في مايو ١٩٩٨.
شرعت إندونيسيا في عام ١٩٩٩ في مبادرة طموحه لدعم اللامركزية. بعد ٣٢ عام من الحكم العسكري، كانت الرغبة في إرساء أسس الديمقراطية ملحة في جميع قطاعات المجتمع مع تنوع الأسباب وراء الرغبة في تحقيقها. فقد كانت هناك عدة حركات انفصالية نشطة في مناطق مختلفة من البلاد، والتي اعتقدت الحكومة المركزية أنه من الممكن استرضاؤها بتخصيص قدر أكبر من السلطة المالية والسياسية للحكومات الإقليمية. وقام بعض السياسيين بتوجيه اللوم إلى النظام المركزي الذي يركز معظم الاستثمارات في البلاد في عاصمة إندونيسيا: جاكرتا، وهذا يؤدي إلى إثراء عدد صغير من السياسيين، مما يخلق شعوراً بالاستياء في كل أنحاء الدولة. وذهب آخرون إلى الدفع باللامركزية كوسيلة أفضل للحكومة للتعرف على احتياجات الناس على المستوى المحلي وزيادة مشاركة المواطنين في عملية صنع القرار في الحكومة وتحسين تقديم الخدمات، والحد من الفساد، وزيادة الشفافية ومساءلة السياسيين (بوهلر ٢٠١٠ ).
صدر قانونان في عام ٢٠٠١ وتم تعديلهما في عام ٢٠٠٤، وقد أحدث هذان القانونان تغييراً جذرياً أدى الى إعادة تشكيل الأدوار والمسؤوليات والعلاقة بين مستويات الحكومة في إندونيسيا. كما أدى هذان القانونان والتعديلات اللاحقة لهما إلى تحقيق لامركزية شبه كاملة في جميع المهام الحكومية في المدن والمقاطعات 1 باستثناء الشرطة والعدل والدفاع والسياسة المالية. كما أدخلت القوانين أنظمة ضريبية جديدة تتلقى الحكومات المحلية بموجبها تحويلات من الحكومة المركزية كمنح غير مخصصة، كما يحق لهم الحصول على حصة من إيرادات الموارد الطبيعية الموجودة داخل حدودهم الإدارية ومن الإيرادات الضريبية المشتركة (بونيل ٢٠١٣).
وكان أحد قوانين إندونيسيا لعام ١٩٩٩ ينص على ضرورة تطبيق انتخابات غير مباشرة لرؤساء المقاطعات ورؤساء البلديات والمحافظين من خلال المجالس المحلية، حيث يتم التصويت من قبل المجالس المنتخبة ديموقراطياً لتعيين الجهاز التنفيذي. غير أنه نظراً للفساد على المستوى المحلي، فقد اعتمدت الحكومة المركزية قانوناً في عام ٢٠٠٥ يدعو إلى الانتخاب المباشر لهؤلاء المسؤولين الحكوميين، وبذا اكتملت الإصلاحات التشريعية “الانفجار الكبير” والتي أدت الى تحول إندونيسيا من دولة مركزية إلى نظام ديمقراطي في ست سنوات فقط (بولر ٢٠١٠).
جوكو ويدودو والباعة الجائلون في سولو
عندما انتخبت مدينة سولو جوكو ويدودو (المعروف باسم جوكووي) كعمدة، كانت للمدينة سمعتها كمدينة متقلبة. وكانت معروفة محلياً بـ”سومبوباندك” أو المدينة “قصيرة الفتيل”. على سبيل المثال خلال الأزمة الآسيوية في عام ١٩٩٧ احتج سكان سولو ضد ارتفاع أسعار الوقود ونقص الغذاء ومستويات البطالة العالية كما حدث في أجزاء أخرى من البلاد. غير أن الاحتجاجات في سولو كانت الأكثر عنفاً. فأعمال الشغب والغوغائية دمرت ٣٣٠ شركة و900 سيارة معظمها ملك الأقليات العرقية الصينية. وفي عام ١٩٩٩ أحرق أنصار المرشح الرئاسي الخاسر في سولو مبنى مجلس المدينة بعد أول انتخابات رئاسية ديموقراطية في إندونيسيا. وفي عام ٢٠٠٢ نشرت مجموعة الأزمات الدولية تقريراً يبين أن الجماعة الإسلامية، وهي جماعة إرهابية في جنوب شرق آسيا تربطها صلات بتنظيم القاعدة، قد نشأت في سولو. علاوة على ذلك فإن المشتبه فيهم في تفجيرات عامي ٢٠٠٢ و ٢٠٠٥ في بالي والتفجير الذي وقع في جاكرتا في عام ٢٠٠٣ كانت لهما أيضاً صلات بشبكات إرهابية في المدينة. (ماجيد ٢٠١٢).
بالإضافة إلى الشبكات الإرهابية والعنف السياسي، تواجه سولو التحديات التي أصبحت مألوفة جداً في المدن المصرية: خدمات عامة منخفضة الجودة وغير كافية، انتشار المناطق العشوائية والأحياء الفقيرة، ارتفاع في معدلات البطالة وتدني مستويات الاستثمار، تدهور النسيج الحضري التاريخي، فساد وصراع بين الأغلبية والأقليات من المجموعات الدينية والعرقية، بالإضافة الى عمليات التسجيل البيروقراطية المطولة للأعمال التجارية وللإجراءات التي تسهل أعمال المطورين العمرانيين، وميزانيات محدودة جداً.
مثل أهداف الرئيس عبد الفتاح السيسي لمصر (والقاهرة)، كان الهدف الأساسي لجوكووي عندما أصبح عمدة هو تشجيع النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل للسكان، ولكن جوكووي أدرك أنه بحاجة إلى تسوية المشاكل التي طال أمدها أولاً، مثل الازدياد المضطرد في أعداد الباعة الجائلين في المدينة.
في عام ٢٠٠٥ كان هناك حوالي ٦٠٠٠ بائع متجول في سولو. إذ دفع ارتفاع معدل البطالة وعدم كفاية فرص العمل في القطاع الرسمي البعض إلى البحث عن مصادر غير رسمية للدخل. وقد اعتبر المواطنون الباعة الجائلين مسؤولين عن القضاء على الفراغات المفتوحة، والزيادة في ازدحام حركة المرور، بالإضافة إلى تراكم القمامة في الشوارع وفي الحدائق العامة، وزيادة معدلات الجرائم. في مواجهة ذلك أكد الباعة الجائلون على أنهم يتعرضون للإساءة من قبل ضباط الشرطة والمسؤولين الحكوميين الذين يهددونهم بالطرد بالقوة من مكان مزاولتهم للتجارة، إلا إذا قدموا لهم رشاوى بصورة منتظمة. وقد حاولت الحكومات السابقة لجوكووي أن تفعل شيئاً حيال البائعين لكنها فشلت. وقد أجرت هذه الحكومات دراسات مستفيضة حول هذه المسألة، كما حاولوا إزالة البائعين بالقوة وبناء مراكز تسوق حديثة في المواقع التقليدية للسوق، ولكن الباعة الجائلين قاوموا واستمرت أعدادهم في النمو.
كان أول هدف لجوكووي هو إخلاء حديقة بانجارساري التذكارية التاريخية، والتي كان يعمل فيها حوالي ١٠٠٠ بائع. وأعلن أنه سوف يقوم بنقل الباعة الجائلين من الحديقة قبل ١٧ أغسطس وهو تاريخ عيد الاستقلال في إندونيسيا، وذلك بعد وقت قصير من توليه مهام منصبه في عام ٢٠٠٥. ولكن عندما احتج الباعة المتجولون علناً وكانوا يحملون لافتات كتب عليها: “النضال حتى آخر حياتنا. نحن نفضل الموت على الانتقال”، وحيث إن جوكووي لم يكن يريد إشعال الفتيل القصير للخلاف في سولو في الأشهر الأولى من توليه منصبه؛ لذا بدلاً من استخدام القوة في إعادة توطينهم فضل أن يتخذ مساراً مختلفاً.
على مدى الأشهر الستة التالية عقد جوكووي ١٠٤ اجتماعات مع الباعة الجائلين للاستماع لمشاكلهم ومعالجتها والتوصل إلى اتفاق معهم (بونيل ٢٠١٣). وأجرى الباحثون بالجامعة جمعاً للمعلومات حول الباعة الجائلين، بما في ذلك عددهم وحجم الأكشاك وأنواع السلع التي يبيعونها؛ حتى يتمكنوا من فهم وضعهم والتحديات التي تواجههم. من خلال الحوار مع البائعين، والبيانات التي تم جمعها من قبل الباحثين، تعهد جوكووي ببناء أكشاك مناسبة في موقع بديل على مسافة أربعة كيلومترات من حديقة بانجارساري، وتوفير وسائل النقل العام إلى المنطقة الجديدة. ووافق أيضاً على أن يتم الإعلان عن الموقع من خلال حملة تسويقية. وكما عرض تقديم حوافز للبائعين لكي ينتقلوا، مثل تراخيص مجانية وعربات ومظلات وخيام وأكشاك، فضلاً عن دورات تعليمية وتدريب. ووافق أيضاً على إعفاء البائعين من الضرائب في الأشهر الستة الأولى في الأسواق الجديدة، ووضع برنامج لتقديم القروض بأقساط في متناول البائعين لمساعدتهم على الانتقال. ومع حلول شهر ديسمبر ٢٠٠٥ كان جميع ال ٩٨٩ بائعاً في بانجارساري قد وافقوا على النقل. وفي يوليو ٢٠٠٦ كان السوق الجديد قد اكتمل (ماجيد ٢٠١٢). السوق مساحته ١١٠٠٠ متر مربع، وقد صممته إحدى الجامعات المحلية، وكلف الحكومة حوالي مليون دولار أمريكي، ويمكن أن يستوعب أكثر من ١٠٠٠ بائع (المرصد الشامل للمدن، بدون تاريخ).
وقد أدرك جوكووي أن الباعة الجائلين جزء لا يتجزأ من اقتصاد المدينة، وأن البيع في الشوارع مصدر أساسي لدخل للعديد من الأسر في سولو، وأن أي زيادة في العوامل السلبية المؤثرة على دخل تلك الأسر سوف يزيد من حدة الفقر والصعوبات للمواطنين. وهو أيضاً يتفهم الفوائد الاقتصادية التي تعود على المدينة من خلال محافظة البائعين على مصدر دخلهم. لقد تبين له أن استرداد تكاليف نقل الباعة بالكامل سيستغرق سبع سنوات فقط من خلال تحصيل الضرائب والإيجارات المفروضة عليهم (ماجيد، ٢٠١٢).
تم نقل الباعة الجائلين من حديقة بانجارساري إلى السوق الجديدة في موكب احتفالي تقليدي. وكان الموكب بمثابة إظهار لدعم المجتمع والحكومة للباعة الجائلين، وتكريماً لدورهم في المجتمع. وشملت المسيرة جوكووي ونائب عمدة المدينة والباعة الجائلين والمسؤولين الحكوميين المحليين وقادة المجتمع المحلي، بالإضافة إلى نشطاء المنظمات غير الحكومية وفرق موسيقية من المدارس المحلية والجنود. وبنى جوكووي على نجاحه مع البائعين في حديقة بانجارساري حيث أدار عمليات تفاوض مع بائعين آخرين بأحياء أخرى بشأن نقل أماكنهم. ومع حلول عام ٢٠١١، تم نقل ٣،٧١١ بائعاً جائلاً من إجمالي ٥،٨١٧ بائعاً -كما جاء بالدراسة الاستقصائية لعام 2005- إلى الأسواق المركزية في سولو (بونيل وآخرون، ٢٠١٣).
إصلاحات أكبر
كانت جهود جوكووي المبذولة لنقل الباعة الجائلين جزءاً من سلسلة من الإصلاحات لتنشيط سولو وإنعاش الاقتصاد وإعادة تشكيل الصورة العامة للمدينة محلياً ودولياً على حدٍ سواء. فقد قام في ٢٠٠٣ بإحياء إستراتيجية تسويق للمدينة تسمى، “سولو: روح جاوا”، وقد اتخذ خطوات للاستفادة من التراث الثقافي والمعماري في سولو لجذب الاستثمارات الدولية والسياحة. قام جوكووي بتبسيط إجراءات التسجيل والترخيص في المدينة، كما قام بمحاربة البيروقراطية، وطبق إجراءات صارمة ضد الفساد والسلوك الاستغلالي، اللذين كانا قد أصابا كفاءة الخدمات الحكومية وفعاليتها بالشلل.
لم يفعل جوكووي أي شيء من هذا بمفرده بالطبع. فقد كان يعمل بشكل وثيق مع نائب رئيس البلدية، ف. أكس هادي رادياتمو، وهو سياسي محنك له قاعدة شعبية كبيرة وخبرة في التنفيذ، هذا إلى جانب طاقم كبير من الموظفين. إن جوكووي ورادياتمو يكمل كل منهما الآخر بشكل جيد: وضع جوكووي رؤية أكبر لسولو، وقام رادياتمو بتنفيذ الخطط. كما كانا يقومان أيضاً بالتأكد أن كل الموظفين يشاركونهما رؤيتهما. ولم يقوما بمعالجة كل مشكلة بشكل منفصل عن بقية المشاكل، لكنهما عملا على التعليم والصحة والتنمية الاقتصادية والتخطيط العمراني دفعة واحدة، إذ إنهما أدركا أن كل الإصلاحات الضرورية لتنشيط سولو مترابطة.
وكما يتضح من مثال الباعة الجلئلين، فإن الانفتاح والحوار جزء هام من نهج جوكووي في الحكم. وبموجب خلفيته السابقة كرجل أعمال، فهو يتفهم أهمية دعم مجتمع الأعمال له لكي يحقق النجاح. كان يعقد اجتماعات غير رسمية بصفة دورية مع رجال الأعمال لفهم احتياجاتهم على نحو أفضل. كما أنه تبنى أيضاً أسلوب قيادة منفتح جداً لكي يعزز صلاته مع المجتمعات في جميع أنحاء المدينة. كان عمدة المدينة ونائب عمدة المدينة ورؤساء الإدارات يقومون بزيارة أحياء مختلفة بصورة أسبوعية لتقييم الخدمات الحكومية ولتشجيع موظفي الخدمة المدنية على إصلاح المشاكل التي يلاحظونها. ومن أجل استمرار الضغط على موظفيه ومحاسبتهم، قام بإعطاء السكان رقم هاتفه المحمول ليكون بمثابة خط ساخن للشكاوى على مدار ٢٤ ساعة (مجيد، ٢٠١٢).
كان جوكووي أيضاً يدافع عن حق المواطنين في الحصول على المعلومات. على سبيل المثال، في عام ٢٠٠٩، قام العمدة جوكووي بدعم مبادرة من طلاب الجامعات المحلية لإجراء مسح ميداني ورسم خريطة للـ ٥١ حياً في سولو كلها. المعلومات التي تم جمعها من خلال مشروع سولو كوتا كيتا متاحة الآن لأي فرد على شبكة الإنترنت، ويمكن الوصول إليها من خلال خريطة تفاعلية. وتشمل معلومات عن مستويات الفقر، وإمكانية حصول الأسر على المياه والوصول للصرف الصحي، ونسبة المنازل غير الصالحة للسكن، ومواقع المدارس والمستشفيات والفراغات المفتوحة.
خاتمة
إن صعود جوكووي بشكل سريع عبر طبقات النظام السياسي في إندونيسيا يدل على نجاح أسلوبه في الحكم، ورغبة الإندونيسيين في قائد منفتح وشفاف وسهل التواصل معه. نشأة جوكووي المتواضعة وظهوره كغريب عن المشهد السياسي غير ملوث بالفساد، كانت من الأشياء التي اجتذبت الكثير من الإندونيسيين. وعلى عكس النخب السياسية الأخرى، كان يمكن للإندونيسيين أن يصلوا إليه. ولد جوكووي في سولو وعاش في حي فقير يقع على ضفة النهر. وكان يدير شركة تصدير أثاث لمدة ما يقرب من 20 عاماً، قبل أن ينضم إلى الحزب الديمقراطي الإندونيسي للنضال (PDI-P) في عام ٢٠٠٤. وكان ما يزال غير معروف نسبياً إبان انتخابات عام ٢٠٠٥ لانتخاب عمدة سولو، وقد فاز جوكووي بنسبة ٣٦ في المئة فقط من الأصوات. في عام ٢٠١٠، أعيد انتخابه عمدة للمدينة بانتصار ساحق، حيث حصل على أكثر من ٩٠ في المئة من الأصوات. إن شعبية جوكووي واسعة النطاق في مسقط رأسه جذبت انتباه حزبه فقام بترشيحه لانتخابات حكام الولايات عام ٢٠١٢ كحاكم لجاكرتا عاصمة إندونيسيا. وقد استقال من منصبه كعمدة مدينة سولو من أجل انتخابات جاكرتا. وعلى الرغم من كونه من خارج المدينة، فقد فاز على الحاكم الذي كان في ذلك المنصب آنذاك بسهولة. في عام ٢٠١٤ اكتمل صعوده غير المتوقع إلى السلطة، عندما رشحه الحزب للانتخابات الرئاسية. وفي عام ٢٠١٤ فاز في الانتخابات المتنازع عليها بشدة، ليصبح أول رئيس لإندونيسيا يظهر من خارج النخبة السياسية أو العسكرية.
لكن سولو هي المكان الذي بدأت فيه قصته، وفي سولو تعلم كيف يحكم. أثناء عمله كعمدة استفاد جوكو ويدودو استفادة كاملة من السلطة والمسؤوليات التي حصل عليها المسؤولون التنفيذيون في الحكومة المحلية من خلال تشريعات عام ١٩٩٩ وعام ٢٠٠٤ بخصوص اللامركزية. وكان لديه السلطة التشريعية والمالية والإدارية التي مكنته من الابتكار وإيجاد حلول لبعض من أصعب التحديات في سولو، وقد أظهر فعالية التفاوض والحوار كأداة للحكم. لم يكن جوكووي مضطراً إلى أن يتعامل مع ضغوط لا داعي لها من الحكومة المركزية لكي يلتزم بسياساتها. وكانت لديه حرية أن يقوم بتخصيص الأموال على حسب الحاجة لبرامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وكممثل للشعب، كان يعمل بشكل وثيق مع جميع قطاعات المجتمع لفهم احتياجاتهم، وكان يعمل نيابة عنهم لتحسين الخدمات العامة والخدمة المدنية.
لسوء الحظ، إن المديرين التنفيذيين المصريين على مستوى الإدارة المحلية ليست لديهم الحرية في تنفيذ برامج مماثلة لتلك التي قام بها جوكووي. عادة ما يكون المديرون التنفيذيون المصريون حيث إنهم معينون بواسطة الحكومة-متوائمين أيديولوجياً مع الحكومة المركزية، والتي-كما كان الحال في ترحيل الباعة الجائلين تضع الأمن فوق أي اعتبار آخر. وهم ليست لديهم إلا قدرة محدودة على الدخول في حوار هادف مع دوائرهم الانتخابية؛ لأنهم في آخر الأمر مسؤولون أمام رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. بدون اللامركزية أو قدرة المواطنين على انتخاب رؤساء البلديات باعتبارهم المسؤولون التنفيذيون لمدينتهم أو منطقتهم، فإن احتمال تشكيل حكومة واقعية ومنفتحة ومتجاوبة في مصر تستطيع أن تخدم احتياجات شعبها يكاد يكون منعدماً. ومع ذلك فإنه من المهم أن نتذكر أن طريق الرئيس الجديد في إندونيسيا إلى السلطة بدأ مع التغيير التشريعي الذي سمح إلى حد كبير بالحكم الذاتي على المستوى المحلي، كما سمح للقادة السياسيين الجدد بالظهور بعد إثبات مهاراتهم الإدارية والسياسية أثناء توليهم مناصبهم. وللأسف، فإن عملية إعادة إحياء الحياة السياسية في إندونيسيا آخذة أيضاً في التراجع بسبب التغيير التشريعي، فأحد آخر أعمال البرلمان الوطني المنتهية ولايته كهيئة تشريعية في سبتمبر ٢٠١٤ كان تغيير قواعد انتخاب رؤساء البلديات وغيرهم من ممثلي الحكومات المحلية. إن انتخاب عمداء المدن الإندونيسية لم يعد مباشراً من قبل الشعب، ولكن مرة أخرى تتم الانتخابات بشكل غير مباشر من قبل المجالس البلدية. ومع ذلك، فإن المرء يتساءل عما هي الإصلاحات والمبادرات التي سوف يأتي بها جوكووي إلى البلاد بعد أن أصبح رئيساً جديداً لإندونيسيا.
1. المدن تناظر في مصر المحافظات مثل القاهرة، الإسكندرية، بورسعيد، السويس، أو أياً من العواصم الـ24 المتبقية للمحافظات. أما المقاطعات أو التقسيمات الاقليمية فتناظر في مصر المراكز، التي هي تقسيمات داخلية بالمحافظات يكون لها طبيعة حضرية ريفية مختلطة.
المراجع
Buehler, Michael. 2013. Decentralization and Local Democracy in Indonesia: The Marginalisation of the Public Sphere. In Problems of Democratisation in Indonesia: Elections, Institutions, and Society. Eds. Aspinall, Edward and Marcus Mietzner. Institute of South East Asian Studies Publishing, Singapore.
Bunnell, Tim, Michelle Ann Miller, Nicholas A. Phelps, and John Taylor. 2013. “Urban Development in a Decentralized Indonesia: Two Success Stories?” Pacific Affairs 86:4, 857-876.
Inclusive Cities Observatory. No date. “Surakarta Indonesia: Empowering the Informal Sector: Street Vendor Management.” UCLG Committee on Social Inclusion, Participatory Democracy, and Human Rights. Accessed 10 October 2014. http://www.uclg-cisdp.org/sites/default/files/Surakarta_2010_en_final.pdf
Majeed, Rushda. 2012. “Defusing a Volatile City, Igniting Reforms: Joko Widodo and Surakarta, Indonesia, 2005-2011.” Innovations for Successful Societies. Princeton University.
الصورة المختارة من usbpanasonic
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments