حملت امبابة خلال تاريخها رصيدًا ثقيلًا من الصور النمطية والتصورات أكثر من مناطق أخرى بالعاصمة. لمع اسمها مرات وتردد في وسائل الإعلام والكتب والخطابات وغرف السياسة والحكم في الحكومة والبرلمان وخفت كثيرًا أيضًا. لمع وقت انشاء كوبري السكة الحديد وتسميته باسمها في أواخر القرن التاسع عشر، ثم عند بناء مدنها العمالية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، وبلغت ذروة شهرتها في التسعينيات كأرض معركة بين الدولة وجماعات الاسلام السياسي، وعاشت امبابة لسنوات بوصمة التطرف والفقر والعنف والعشوائية، لتخلق اليوم مجتمعًا متفردًا في تنوعه وغنيًا بتفاصيله.
امبابة في أرقام
المحافظة: محافظة الجيزة
الحي: حي شمال الجيزة
المساحة: 8,28 كم2
عدد السكان: 695902 نسمة في أحد التقديرات الحكومية1 ، ومليون نسمة أو يزيد في تقديرات أخرى
تذكر مصادر حكومية مختلفة أرقام متفاوتة حول تعداد امبابة أقصاها يقارب السبعمائة ألف، بينما يدّعي عدة باحثون أن تعداد سكان امبابة يصل لمليون نسمة دون ذكر مصادرهم ( راجع: بيات ودينيس 2000 ؛ ديفيز 2006) . أما سكانها فيعتقدون عددهم أكبر بكثير. يخبرنا أحد شباب امبابة المهتمون بالشأن العام ممن راقبوا انتخابات السنوات الأخيرة أن الأعداد في كشوف الناخبين بلجان امبابة قاربت المليون ومئتي ألف ناخب جميعهم مسجلين على عنواين داخل امبابة، هذا بالإضافة لعددٍ كبيرٍ من سكان امبابة وخاصة مناطق المنيرة الغربية مازالت بطاقات هويتهم تحمل عناوين في محافظات أخرى في صعيد مصر لم يلجأوا لتعديل بياناتهم رغم سكنهم في المنطقة لسنوات وعقود.
تمثل امبابة رسميًا2 كل ما هو داخل نطاق حي شمال الجيزة الإداري، اي اننا في هذا المقال نرصد هذا الحيز الجغرافي الواسع الذي يحده من الشرق نهر النيل، ومن الغرب الطريق الدائرى، ويفصله عن حي العجوزة جنوبًا شارعي السودان والمطار، و عن حي الوراق شمالًا شوارع النصر وطرح البحور والقومية العربية. حتى وقت قريب ضم هذا الحيز الجغرافي قسم إداري واحد3 ، هو قسم إمبابة، مقسّمًا إلى 9 شياخات. ثم تم إعادة تقسيم هذه الشياخات وانشاء قسم جديد لتصبح إمبابة حاليًا مقسمة إداريًا إلى قسمين إداريين يضمان 18 شياخة:
حكاية امبابة
لا نملك تاريخًا محددا لنشأة امبابة ولكن نعرف انها نشأت كقرية حول المجرى المائي وسميت باسم امبابة منذ قرون–وقيل انه تحريف عن الاسم الأصلي نبابة-، ذكرها المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي (1356- 1441) الذي اعتبر أهم مؤرخي مصر في العصور الوسطى –العصر المملوكي-، في مخطوطته ’’المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار‘‘ الشهيرة بخطط المقريزي لوصف تخطيط القاهرة ومصر ومبانيها وطبوغرافيتها. ومن بعده عبد الرحمن الجبرتي (1753- 1825) في كتابه الشامل لوصف مصر ’’عجائب الآثار في التراجم والاخبار‘‘ الشهيرة بتاريخ الجبرتي ومن أهم الكتب للتأريخ للمدن والقرى المصرية في هذه الفترة. لم تنل امبابة مع ذلك وصفًا شافيًا وافيًا لمبانيها وسكانها وأنشطتهم شأنها شأن مناطق العاصمة على البر الشرقي للنيل، فلم تكن أكثر من قرية متواضعة تكرر ذكر اسمها في كتب التاريخ حيث تصادف أن تكون موقعًا لأحداث أسطورية خالدة.
الأسطورة الدينية الشعبية: الشيخ اسماعيل “الامبابي”
ارتبط أقدم ظهور لاسم “امبابة” في التاريخ منذ قرون بأسطورة صوفية شعبية، ’’سيدي اسماعيل الامبابي‘‘ ولي الله الصالح، فامبابة هي القرية التي اختارها الشيخ اسماعيل ليسكنها واستقر بها حتى مات ولحق اسمها بكنيته، وأقيم ضريحه ثم مسجده في نفس البقعة التي سكنها، ومازالا قائمين عليها حتى الآن.
ما يورد في التاريخ الشفهي للصوفية، أن “العارف بالله اسماعيل يوسف الامبابي” كان ابنًا لمتصوف من مريدي السيد البدوي-شيخ طنطا الأشهر، ونشأ ملازمًا للبدوي ولخليفته عبد المتعال من بعده فأصبح من تلامذتهم ووُرِّثَ مكانتهم. قدم إلى القاهرة ليستقر في بولاق ثم أوذي من أهلها فعبر النيل إلى الجهة المقابلة (مكفرسون، 1941).-تقول الأسطورة التي يتناقلها السكان”عدى البحر على منديل” واستقر في امبابة إلى آخر حياته.وما زال بعض أهالي امبابة والمريدين من مناطق عدة، إلى يومنا، يؤمنون بكراماته ويروون معجزاته ويزورون ضريحه للتبرك والتشفع، ويقيمون له احتفالا سنويًا يحجون إليه من شتى بقاع مصر. “مولد سيدي الامبابي”، أحد أقدم موالد مصر ، من عمر مولد السيد البدوي الذي يزيد عن 700 عام، حتى ان المصريون وقتها لم يربطوا تواريخهم بالأشهر القمرية فموعد المولد هو العاشر من شهر بؤونة في التقويم القبطي ، وهو نفس التاريخ الذي كان قدماء المصريون ينتظرون فيه دمعة إيزيس التي تنزل في النيل حزنا على أوصال زوجها المقطعة واستمر الاحتفال بهذه الليلة التي عرفت في الثقافة الشعبية المتوارثة ب”ليلة النقطة” (مكفرسون، 1941) . ألقت طقوس ليلة النقطة بظلالها على مولد الامبابي فكانت الفلايك تملأ النيل في ليلة سيدي الامبابي كما كانت في ليلة “نقطة” ايزيس قبلها. وحتى يومنا هذا تظل المنطقة المحيطة بضريح اسماعيل الامبابي، المسماه بكفر الشيخ اسماعيل، أقدم الشواهد على استقرار امبابة منذ قرون عديدة في مكانها الحالي.
وبرغم استمرار تبرك الأهالي بالضريح وحضور هذه الأسطورة في العمران المحيط به حاليًا ، إلى أن الاحتفال بمولد سيدي اسماعيل قد خفت في الآونة الأخيرة شأنه شان العديد من الموالد، ويرجع ذلك لأسباب متداخلة قد يكون منها انحسار الطرق الصوفية والأساطير الشعبية والذي أثر في أعداد مريدي الموالد، وانتشار الأيدلوجيات الدينية التي تستنكر إقامة موالد وتعتبرها بدعة وتحرم إحياءها، تجلى هذا في حالة مولد سيدي اسماعيل عندما تقدم أعضاء من جماعة “الإخوان المسلمين” فى إمبابة عام 1946م بلاغًا للشرطة ضد ما وصفوه ب”الإنتهاكات” خلال المولد، كما ترجع بعض الأسباب أيضًا في التحليل السياسي لزيادة السيطرة الأمنية والرغبة الحكومية في التحكم في الفراغات العامة بالقاهرة الكبرى خصوصًا وبمدن مصر عمومًا. ومع ذلك يحكي أهالي جزيرة امبابة الحاليين أنهم شهدوا وفود الجموع لإحياء ليلة الامبابي بالآلاف، وكانوا يفترشون الشوارع ويبيتون لأكثر من ليلة تمهيدًا واستعدادًا إلى “الليلة الكبيرة” ويقوم أهالي الجزيرة بتحضير الولائم والتبرع بالطعام والأغطية لمريدين المولد. إلى أن غابت احتفالات المولد تماما في السنوات الأخيرة -ما بعد 2011 خاصة- ويرجع الأهالي ذلك لاعتبارات أمنية حيث يقع ضريح الامبابي خلف مبنى قسم الشرطة مباشرةً.
الأسطورة العسكرية : معركة إمبابة
معركة تاريخية كبرى حدثت خلال الحملة الفرنسية على مصر، ووثقتها الكتابات ورسوم الفنانين كمعركة هامة في تاريخ الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابارت، فهي تشتهر بكون نابليون قد سجل فيها تكتيكًا عسكريًا جديدًا اُعتُبر أحد أهم اسهاماته في الفنون العسكرية، وقضى فيها على أغلب الجيش المملوكي بمصر وقتها حتى اضطرهم للانسحاب من مصر إلى سوريا لإعادة ترتيب صفوفهم. واعتبرت في الأدبيات الفرنسية انتصارًا هامًا لأوروبا ما بعد الثورة الفرنسية على المملكة العثمانية في الشرق الأوسط.
دارت هذه المعركة في 21 من يوليو 1798، بعد احتلال الاسكندرية تحركت جيوش نابليون إلى القاهرة حيث قابلت قوات المماليك بقيادة المملوكين الجورجيين “مراد بيك” و”ابراهيم بيك” وهزمتهم في معركتين أولهما صغرى على البر الشرقي والثانية المعركة الكبرى الفاصلة التي قابل فيها جيشه جيش المماليك قرب قرية امبابة غرب النيل. اختلفت الأرقام في المصادر المتنوعة عن قتلى وجرحى الجانب المصري بقيادة مملوكية الذين قدروا بالآلاف من الجنود والفلاحين أيضًا – وصلت في بعض المصادر لعشرون ألفًا- بينما قدرت خسائر الجيش الفرنسي بالعشرات فقط. بعد الهزيمة الساحقة لجيش المماليك هرب مراد بيك إلى الصعيد ودخل نابليون القاهرة واسس لنظام حكم محلي جديد لم يستمر طويلًا. سمى نابليون المعركة بعدها بمعركة “الأهرام المصرية” لظهور اهرامات الجيزة في الأفق من أرض المعركة، والتي اعتبرها شاهد تاريخي على انتصاره.
لسبب ما – رغم التنكيل بالجانب المصري المملوكي وقتل فلاحين القرية- يردد سكان امبابة الحاليين روايات مبتسرة مجهلة التفاصيل عن المعركة بفخر، ففي هذه البقعة تحديدًا حدثت معركة هامة جدًا في وقتٍ بعيدٍ جدًا بقيادة رمز تاريخي عالمي شهير كانت سببا في تخليد اسم امبابتهم للأبد.
درب الأربعين الأفريقي ومحطته الأخيرة لبيع الجمال في امبابة
“سفرة بتديك واخرى بتشيل من جيبك.. وسفرة بتوريك عيب رفيق من عيبك” من أناشيد القوافل السالكة لدرب الأربعين.
لم تنتهي الأساطير المرتبطة باسم امبابة في التاريخ بعد، فما زال من أهمها طريق التجارة والتبشير الديني الشهير ب”درب الأربعين“، الطريق القديم الواصل من دارفور (السودان) إلى إمبابة، الذي تشكل عبر مئات السنين و سلكه المتاجرين بجمالهم وبضائعهم في رحلة الذهاب والعودة كل عام ليبيعوا جمالهم في محطتهم الأخيرة في مصر، “سوق الجمال” بامبابة، أرض كبيرة خالية تأتي لها الجمال من أثيوبيا والسودان لتباع في امبابة كل عام ، حتى قيل أن اسم امبابة هو تحريف الأسم الأصلي “نبابة” وهو اسم أطلقه عليه القادمون من الجنوب الأفريقي ويعني باللغة الأمهرية (لغة اثيوبية) شجرة الدوم المصرية. تخبرنا الحكاوى الشعبية أن درب الأربعين لعب دور ديني كبير في نشر الطرق الصوفية وقيل أنه سمي بدرب الأربعين لانه شهد ميلاد ونشر أربعين طريقة صوفية، بينما يرجح البعض الآخر أنه سمي بهذا الاسم نسبةً للأربعين يومًا مدة الرحلة التي يسلكها المسافر في الصحراء من وسط السودان لامبابة–وقيل لأسيوط وقيل دراو في صعيد مصر. وما زالت بقايا درب الأربعين تشق صحراء مصر الغربية بين أسيوط وواحات الداخلة، كما يوجد بقية له بالسودان كذلك. ولكن من الواضح أن الكثيرين يجهلون تاريخه والأساطير الشعبية المرتبطة به.
وإلى أوائل التسعينيات ظل سوق الجمال والمجزر المجاور له يعملان ويوردان لحوم الجمال إلى مناطق القاهرة المختلفة والمحافظات أيضًا، حتى نجد أن مقال النيويورك تايمز لعام 1989 الذي يوثق عن أحد تجار الجمال رحلة ال40 يوم من الفاشر غرب السودان إلى قلب القاهرة يصفه بأحد أكبر الأسواق في أفريقيا والشرق الأوسط في وقتٍ قريبٍ جدًا من يومنا هذا.
بداية تشكل امبابة المعاصرة : بناء كوبرى على النيل يصل المركز الريفي بالعاصمة
تطورت القرية محل الأحداث على مدار القرون وصولا لنهايات القرن التاسع عشر، لم تكن إمبابة وقتها مجرد قرية صغيرة كالقرى المحيطة بها ، بل مركزًا ريفيًا يقارب في حجمه مركز الجيزة الذي أصبح قلب الحضر على هذا البر الغربي. جمع مركز امبابة في نطاقه عدة كفور وعزب متجاورة منها كفر الشيخ اسماعيل و تاج الدول وكفر الشوام وميت كردك.
ومع الوقت اكتسبت امبابة أهمية أكبر من مثيلاتها من قرى البر الغربي، ففي عام 1890 اتخذت أول الخطوات لجعل هذه القرية محطة من محطات قطار الصعيد ببناء كوبري لخط السكة الحديد القادم عبر محطة قطارات الجيزة ليعبر به نهر النيل وصولًا لمحطة مصر في قلب القاهرة على البر الشرقي، وسمي كلًا من الكوبري والمحطة باسمها، ’’امبابة‘‘. ثم في عام 1913 جاء قرار السكة الحديد ببناء كوبري جديد يستوعب حمولة أكبر وكثافة مرورية أعلى، فصُمِّم كوبري امبابة الجديد ليسع خطين قطارات سكة حديد وطريقين ممهدين للسيارات و على جانبيه طريقين لعبور المشاة أيضًا. كانت هذه نقلة نوعية في تسهيل الوصول لإمبابة من حضر القاهرة وتنشيط حركة الأفراد والبضائع منها وإليها تمهيدًا لحضرنتها. كُلِّف بتنفيذ الكوبري الجديد مقاول فرنسي، بدأ التنفيذ على مسافة 35 متر شمال الكوبري السابق بينما الآخر ما زال يؤدي مهامه. توقف البناء خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ثم استكمل ليتم الانتهاء منه أخيرًا في 1925 ليحل محل القديم الذي تم تفكيكه ثم نقله بعدها والاستعانة بأجزائه في بناء كوبري مدينة دمياط.
كان كوبري امبابة هو الكوبري المتحرك الأول والوحيد الذي يعمل بالكهرباء من إجمالي 41 كوبري يعبر النيل في مناطق مصر المختلفة عام 1937 بحسب تقرير عسكري عن مصر للجيش الانجليزي في نفس السنة. نرصد في هذا التقرير أيضًا ما يدل على اعتبار امبابة منطقة مركزية وهامة من مناطق مصر في هذا الوقت فهي واحدة من 11 منطقة بها وحدات لصيانة الطرق موزعة في أنحاء مصر من شمالها لجنوبها، وتم إنشاء وابور مياه بها ليعمل على ضخ المياه لباقي البر الغربي للنيل بجانب وابور الجيزة. ويمر خط الترانك القادم من الصعيد عبر كوبريها للقاهرة.
وكما سنرى من تطور إمبابة لاحقًا، فقد لعب هذا الكوبري الدور الأساسي في تغير طبيعة المنطقة وتحولها من مركز ريفي إلى مدينة حديثة تحمل أحلام وطموحات الدولة ومخططيها العمرانيون.
شاطئ الترفيه والفن لوجهاء وأغنياء وسياسيي القاهرة
اشتهر كورنيش امبابة في هذه الفترة، وخاصة منطقة الكيت كات، بالعوامات والملاهي الليلية التي لعبت دورًا هامًا في الحياة الفنية في مصر، بل والسياسية أيضًا، خاصًة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. كانت هذه الملاهي وجهة هامة للوجهاء وأبناء العائلة المالكة ولجنود الجيش الإنجليزي للسهر واللهو وإجراء الصفقات خارج نطاق اللياقة والصرامة المحددين لتعاملاتهم في أماكنهم بالقاهرة. من أشهر هذه الملاهي وأكثرها ذكرًا في تاريخ تلك الفترة ملهى الكيت كات ، الذي ظل لسنين طويلة–قيل أنه أنشئ من زمن الحملة الفرنسية في قلب المنطقة التي تمثل حاليًا ميدان الكيت كات. شهد هذا الملهى الشهير قصص صعود كثير من مشاهير التمثيل والغناء والرقص كبديعة المصابني أشهر فنانات وقتها، وبعدها تحية كاريوكا ونعيمة عاكف وغيرهن. كما شهد قصص الجاسوسية والمؤامرات السياسية الكبرى، التي من أشهرها قصة حكمت فهمي الراقصة التي رقصت أمام هتلر في ألمانيا ورشحتها علاقاتها بالجنود الانجليز في ملهى الكيت كات لتكلف بالتخابر على قوات الحلفاء لصالح ألمانيا النازية. واستمر تقليد اقتناء الفنانين للعوامات على كورنيش الكيت كات لعدة عقود، حيث شهدت هذه العوامات حياة اجتماعية صاخبة مليئة بالحفلات وجلسات الأصدقاء وشهدت ميلاد الكثير من التراث الفني الذي نملكه اليوم.
البناء الصناعي في الضواحي الريفية أطراف العاصمة
بدأت مرحلة البناء الصناعي في امبابة في نفس الفترة أوائل القرن العشرون، في الأغلب مع ازدهار ورواج الصناعات في الثلاثينيات، بعكس ما يظنه البعض من ارتباط البناء الصناعي في امبابة بحكم جمال عبد الناصر. فبمجرد النظر إلى خريطة القاهرة لعام 1930 نجد عددًا من المصانع وعددًا أكبر من مضارب الطوب قد احتل مساحة لا يمكن تجاهلها من أراضي امبابة، وبالتقصي والبحث في قائمة المصانع التي بنيت في فترة أواخر الثلاثينيات وخلال الأربعينيات نجد عديدًا من المنشآت الصناعية الهامة قد بني في امبابة تحديدًا كمنطقة صناعية ناشئة على أطراف العاصمة .
يمكننا القول بأن الصناعة في هذا الوقت مثلت قضية ساخنة على أجندة السياسة الوطنية؛ تصاغ لها التشريعات وتخصص لمناقشتها جلسات مجلس الأمة واجتماعات الأحزاب وكبار أصحاب الأموال والأملاك (بنين ولوكمان ، 1998). ولم يقتصر الاهتمام بإنشاء مصانع كبيرة ومحدّثة في هذه الفترة على السياسيين المروجين للصناعة كأحد أعمدة الاستقلال الوطني، أو أصحاب الأموال الراغبين في الاستثمار في مجال جديد واعد فحسب، بل أصبح هذا المجال أيضًا محل تنافس أهم المعماريين والإنشائيين المتخصصين في التصميم والبناء وقتها؛ فالمنشآت الصناعية تتيح مجالًا أكبر لتبني الطرز المعمارية الحداثية بفلسفتها التجريدية وخطوطها البسيطة وأساليب إنشائها المتطورة، التي انتشرت في أوروبا–حيث تلقى أغلبهم تعليمه وتدريبه وأصبحت جزء من الهوية المعمارية لهذا العصر (بودنستاين، 2010).
حظيت امبابة كغيرها من المناطق الصناعية بعدد من هذه المنشآت الهامة، نعرض منها على سبيل المثال منشأة شركة الأنجلو-إيجيبشيان موتورز للسيارات الذي صممها عام 1937 المعماري محمود رياض، معماري مبنى الحزب الوطني المحترق على الكورنيش المقابل الذي يتم هدمه في لحظات كتابة هذا المقال. منها أيضًا مبنى مصنع الشوربجي للنسيج، “ملك الأقمشة” بتعبير صحافة هذا العصر، والذي صممه المعماري علي لبيب جبر عام 1940، وكان من الأهمية أن خصصت مجلة ’’العمارة‘‘ المطبوعة المتخصصة المرموقة وقتها4- عددًا كاملًا لعرض تصميم منشآت المصنع باعتباره “المصنع الحديث النموذجي” شارحةً مزايا خطوط الانتاج الحديثة والصالات الضخمة والأساليب الإنشائية المستخدمة (راينولدز، 2012). ظل مصنع الشوربجي بامبابة لسنوات لاحقة أحد أهم المصانع وأكبرها في هذه الفترة واشتهر بالدور الهام لعماله في الحركة العمالية المصرية واعتصامهم الكبير الذي شهدته امبابة في الخمسينيات من القرن العشرين.5 وما زال مصنع الشوربجي يعمل إلى الآن وهو من المصانع القليلة الباقية بامبابة بعد بيع أغلب المصانع وهدمها واعادة استخدام الأراضي لأغراض أخرى.
وخلال العقود اللاحقة، شهدت امبابة حركة واسعة من نقل المنشآت الصناعية التابعة للدولة من بولاق إلى الشاطئ المقابل. كان أهم خطواتها بناء مباني المطابع الأميرية الجديدة على مساحة 35000 م2، والتي كلف بتصميمها عام 1956 المعماري علي لبيب جبر ، ثم نقلت المطابع الأميرية رسميًا من بولاق أبو العلا إليها عام 1973. كذلك ترسانة السفن التي أسسها محمد علي باشا عام 1812 على شاطئ بولاق لبناء السفن الحربية، وظلت تعمل لقرون حتى تم نقلها لإمبابة سنة 1967.
وبجانب هذه المنشآت التي تمثل علامات في تاريخ الصناعة والعمارة المصريتان معًا، احتوت امبابة عددًا كبيرًا وهامًا من المنشآت الصناعية الصغيرة والمتوسطة أهلها لتكون المثال المستشهد به عن هذه الفترة في العديد من الدراسات كواحدة من المناطق الصناعية الناشئة. كما استمر بناء عدد ضخم من المصانع في امبابة وغيرها من المناطق الصناعية في الستينيات، مع انتاج كهرباء السد العالي وازدياد استخراج مصادر الطاقة الطبيعية كالبترول والغاز من البحر الأحمر والدلتا والبحر المتوسط لتوفير الطاقة للمشروع القومي الطموح للنظام بالنهضة الصناعية (بودنستاين، 2010). وإلى يومنا تظل بعض هذه المنشآت الصناعية، أو أراضيها الخالية بعد توقف النشاط بها وهدمها، تمثل علامات شهيرة في عمران امبابة كمثال مصنع الكراسي ومصنع السكر ومصنع الشوربجي والترسانة والمطابع وصوامع القمح وغيرها.
مساكن عمال امبابة بذرة حضرية في قلب الريف
في السياق السابق من إزدهار المشروعات الصناعية في إمبابة في الأربعينيات والخمسينيات وما بعدها، من المنطقي توقع ظهور مشروعات سكنية كبرى لاستيعاب هذه العمالة الوافدة على المنطقة، ولكننا إذ تتبعنا حكاية “مدينة عمال” إمبابة منذ بدايتها سنجد أن ميلاد الفكرة يعود إلى العشرينيات. لا لتسكين مجتمع عمال امبابة الذي لم يُشكّل بعد ، بل كجزء من مشروع أكبر لإعادة تخطيط حي بولاق أكثر أحياء القاهرة ازدحامًا في وقتها–حسب دراسة إحصائية رسمية- (فوليه، 2001). ونقل كتلة سكانية كانت وحيّها الفقير يؤرقان المسئولين والمهتمين بالتخطيط العمراني لكون الحي لا يندرج تحت معاييرهم للقاهرة التاريخية كما مناطق القاهرة الفاطمية ولا يرقى ليكن جزءًا من قاهرة القرن العشرين الراقية أوروبية التخطيط الخديوية/الإسماعيلية (وسط البلد) وهيليوبوليس.
البداية كانت بتولي المخطط المصري الذي تلقى تعليمه وتدريبه كمخطط مدن ببريطانيا، المهندس محمود صبري محبوب، لديوان التنظيم في الحكومة المصرية. وقيامه لأول مرة بتصميم المخطط العام لمدينة القاهرة بمفهومه الحداثي، والذي طرح فيما طرح من رؤى ومقترحات تخطيطية إعادة تخطيط حي بولاق الذي وصفه محبوب في دراسته ملاحظات حول القاهرة بأنه “أشنع الأحياء العشوائية الفقيرة (slums)” ، ووصف سكانه بأنهم “أكثر طبقات السكان تدهورًا. جحافل من المتسولين والمتشردين تتداخل مع عدد كبير من العمال والحرفيين وما إلى ذلك.” (كما ذكر في فوليه، 2001). هكذا رأى محبوب التركيبة السكانية لأول مجتمع حضري يقترح هو انشائه بامبابة، المرجح أن امبابة نفسها وسكان قراها الأصليين لم يشغلوا مساحة من تفكير محبوب فلم تكن سوى منطقة ريفية على أطراف القاهرة. تلخص مخطط بولاق الجديد في هدم وإعادة بناء كل ما عليها من شوارعٍ ومبانٍ، ونقل الصناعات الحكومية من ورش السكة الحديد والمطابع الأميرية وغيرها، مع السكان العاملين بها، إلى مدينة جديدة تنشأ خصيصًا لهم على أرض إمبابة، حيث تتاح الفرصة لخلخلة عمران بولاق ذو الشوارع الضيقة والكثافة العالية واستبداله بآخر راقي بشوارع أوسع ومساحات عامة أكبر (فوليه ، 2001). مما يعكس تصور مقارب إلى حد كبير من تصورات تطوير أو تطهير العشوائيات ونقل السكان إلى مدن جديدة أطراف المدينة التي ما زالت حاكمة إلى اليوم.
تضمن المخطط كذلك مقترح حضرنة البر الغربي المقابل للعاصمة الجيزة وامبابة وما بينهما ببناء مدينة جديدة سميت في إعلام الثلاثينيات “المدينة الفؤادية” نسبةً للملك فؤاد،ولم تتحق في أرض الواقع قط. تضمن كذلك بناء مشاريع إسكان إجتماعي وبالأخص لفئات العمال وصغار الموظفين العموميين في مناطق عدة، تم تنفيذ الكثير منها بالفعل. وفي إطار المخطط العام للقاهرة ككل، وحسب دراسة مفصلة ألحقها محبوب بالمخطط بعدها، اقترح محبوب بناء مدينة حديثة مخططة تسع 5000 أسرة عامل، بتمويل من الدولة، ونقل السكان والصناعات من بولاق إليها، واختار موقعها في إمبابة على الضفة المقابلة غرب النيل والمربوطة بهذا الجزء الشمالي من القاهرة من خلال كوبري إمبابة الذي يسهل إمكانية التنقل للمشاة والعربات والقطارات معًا. ولم ينفذ مخطط محبوب في وقته لأسباب عديدة (لتفاصيل أكثر أنظر؛ فوليه،2001).
بعد ما يقارب العقدين وخروج محبوب من المشهد، ورواج مشاريع اسكان العمال الحكومية والخاصة على حد سواء، شهدت امبابة أخيرًا ميلاد مدينة العمال. المدينة الأولى على أرضها الزراعية بجوار قراها التاريخية، في نفس المكان شمال كوبري امبابة وبنفس الحجم تقريبًا الذي اقترحه محبوب. بينما ظلت بولاق على حالها مع الإكتفاء بنقل بعض السكان من عمال المطابع وترسانة السفن لاحقًا إلى المدينة الجديدة. كُلِّفَ بتخطيط المدينة عام 1946 المهندس علي المليجي مسعود، عضو المعهد الملكي البريطاني لتخطيط المدن –مما يعكس أن الرؤى الأوروبية وخاصة البريطانية في تخطيط المدن كانت هي المسيطرة على الحكومة المصرية في وقتها- وذلك بصفته مدير مكتب تخطيط المدينة بإدارة البلديات والمجالس المحلية آنذاك. وبالفعل بدأ تنفيذ مخطط “مساكن العمال” الحكومي على مساحة 1,4 كم2 من الأراضي الزراعية، كما كلفت الحكومة متخصصين -محمود رياض وأحمد حسين بكتابة تقرير عن اسكان المواطن منخفض الدخل-تم نشره في 1949- لتحديد قيمة الإيجارات المناسبة للطبقة العاملة المصرية (فوليه، 2005)، وذلك كله بالتزامن مع كتابة وإقرار أول قانون للاسكان المدعوم من الدولة في مصر “القانون رقم 206 لسنة 1951 بشأن الاسكان الشعبي”6 (سيمز، 2012) مما يعطي تصورًا لأهمية قضية الاسكان الاجتماعي ونموذج مدينة عمال امبابة تحديدًا في هذا الوقت وتصدره للأجندة السياسية بصورٍ عدة.
صمم مسعود هذه المدينة الجديدة بشبكة شوارع واسعة منتظمة تتخللها مساحات خضراء، مع تخصيص أتوبيسات نهرية وخط ترام لخدمة المدينة، وتخصيص قلب المدينة للخدمات والمنشآت الهامة كالمستشفى والمدارس والسوق والسنيما وحديقة الأطفال والحدائق عامة . كما اهتم مسعود بتخصيص بعض الممرات للمشاه فقط. كان 75% من المساكن مخصص لأسرة واحدة ، مكون من طابقين وله حديقة خلفية. والبقية كان مكون من طابقين ولكنه مقسم إلى شقتين لكل طابق . كانت المباني متلاصقة ولها شرفة وحديقة خلفية (townhouse) وتتنوع في واجهاتها بين الحجر والطوب والجير، وكان واضحًا تأثر تصميم مسعود المباشر بنموذج الاسكان التقليدي للطبقة العاملة في بريطانيا في وقت سابق (فوليه ، 2005) .
عام 1950 تم الانتهاء من المرحلة الأولى التي تضمنت 1106 وحدة سكنية من إجمالي 6000 تم تخطيطهم ، وتم تسليم الوحدات بالفعل، حاز العمال مساكنهم بعقود إيجار دائمة، تتحد قيمتها حسب تكلفة بناء الوحدة السكنية ومساحتها وموقعها. يذكر أن بعض السكان الحاليين لمدينة العمال يملكون أوراق استلام آبائهم لمسكنهم الخاص في 1951 الذي أصبح فيما بعد مسكن العائلة وتم بناء أكثر من طابق بشكل غير رسمي لاستيعاب نمو الاسرة واحتياج الابناء وأسرهم الجديدة للمسكن.
امبابة الآن مدينة .. مدينة صناعية مستقطبة للسكان وقابلة للتمدد
توقف العمل في “مساكن العمال” سنة 1952، والواقع أن مشروع الستة آلاف وحدة الذي صممه مسعود ووضع تصوراته الأولى محبوب لم يكتمل أبدًا –نظريًا على الأقل- وانتهى بانتهاء بناء المرحلة الأولى منه. لا يوجد في المصادر المتاحة ما يشير لوجود علاقة مباشرة بين هذا التخلي عن المشروع الواعد و الوضع السياسي المحتدم في هذه الفترة، ولكننا نرصد أنه بعد التطورات السياسية الاستثنائية خلال العامين اللاحقين، شرعت الدولة في 1954 ببناء مدينة جديدة لنفس الهدف – تسكين العمال وصغار الموظفين- في الموقع الذي كان مخصصا للمرحلة الثانية من مساكن العمال ولكن بتخطيط جديد ومسمى جديد أيضًا “مدينة التحرير”. استمر البناء في مدينة التحرير في السنوات اللاحقة، بل وتم نسخ مخطط مدينة تحرير امبابة لمشروعين متماثلين في حلوان وحلمية الزيتون. بني ما يزيد عن 4000 وحدة سكنية في المدن الثلاث في الفترة ما بين 1954 و 1958. وكانت هذه هي آخر المشاريع الكبرى للاسكان الاجتماعي المدعوم المصممة وفقًا لمفهوم المسكن الخاص للفرد/الأسرة، هذه المساكن الشبيهة بفيلات الطبقة الوسطى التي تتمتع بمدخل خاص وحديقة خلفية وقابلية للامتداد الرأسي للأسرة في المستقبل، حيث تحولت سياسة الاسكان المدعوم بعد 1960 كليًا ، وتم تعميم نموذج العمارات السكنية متعددة الطوابق ومتعددة الأسر أيضًا وهو النموذج المتعارف عليه في هذا المجال إلى يومنا هذا (فوليه، 2001).
نستطيع هنا أن نتجاهل إمكانية الربط بين القرار السياسي بإنشاء مدينة جديدة بدلًا من استكمال المخطط الأصلي و اختيار اسم “التحرير” لهذه المدينة الجديدة التي بنيت بعد انتزاع الضباط الأحرار حكم البلاد من الملك فاروق وإعلان النظام الجمهوري، وبين رغبة النظم السياسية المصرية عادةً في افتتاح مشروعات كبرى كشاهد على سلطتها المستقرة وجهودها التنموية بحيث تنسب إليها بالكامل دون أن يرتبط تاريخها بشكل أو بآخر بجهود نظامٍ أسبق.
تبعت مدينتي العمال والتحرير عدة مشاريع كبيرة لمدن داخل امبابة منها مدينة السادات و مساكن أرض الجمعية، بعضها حكومي والآخر أهلي، ولكن جميعها مخطط ورسمي وتم إنشاؤه وفق الرؤى حكومية للاسكان والتنمية أو على الأقل بموافقتها.
القرية والمدينة وما بينهما : الإمتدادات اللارسمية للعمران
لم تكن الامتدادات الرسمية للمدينة التي تخططها وتتبنى بنائها الدولة هي الملمح الوحيد للتطور العمراني لإمبابة، فقد تنوعت أشكال الامتدادات اللارسمية للعمران في المنطقة. ارتبط أحد أشكال الامتدادات اللارسمية لحضر امبابة بالمدن العمالية الرسمية نفسها، حيث رصد باحثان من معهد دراسات التحول العمراني (ETH Studio Basel ) في صورة جوية لإمبابة من الخمسينيات مساكن تلقائية التخطيط ملاصقة لمساكن مدينة عمال امبابة، يرجحان أنها قد أنشئت في البداية كعشش للسكن المؤقت لعمال بناء مساكن مدينة العمال ومن بعدها مدينة التحرير منذ أواخر الأربعينيات وخلال الخمسينيات، ثم استقروا هناك بعدها بشكل دائم. ويزعمان أن هذا التجمع هو أول عمران حضري غير رسمي بامبابة (برونيت ورودماير، 2010).
أما القرى غير المخططة بالأساس –وهي طبيعة الحال في الريف المصري- فاستمرت في النمو والبناء بنفس قواعدها اللارسمية المتوارثة. فرغم كل هذا التوسع في بناء المدينة المخططة، تكتلت كلها شمال خط السكة الحديد وكوبري امبابة، وظل هذا الجدار المهيب يفصل قرى امبابة التاريخية ومدن امبابة العمالية الحديثة. لم تشمل هذه المخططات طمس القرى القديمة أو هدمها وإعادة تسكين سكانها في المخططات الحضرية الجديدة ذات البنايات السكنية الحديثة والحدائق والشوارع الواسعة. وكما هو واضح لنا من الصورة العامة لم تشمل كذلك احتياجات هؤلاء ووضعهم في ظل التطورات ومدى تأثيرها على مستقبلهم.
النتيجة كانت بقاء مساكن القرى القديمة جنوب الكوبري على حالها مع استمرار تجريف الأراضي الزراعية -مصدر رزق سكانها- واستمرار بناء المدينة تلو الأخرى بجانب هذه القرى التي لم يلتف لها تخطيط الدولة وظلت إلى يومنا بنسيجها القروي التقليدي الظاهر في شوارعها الضيقة المتعرجة وتقسيم مساكنها غير المنتظم. ومع النمو السكاني وتغير النشاط الاقتصادي لسكان هذه القرى والتغيرات الاجتماعية والثقافية العامة، قامت الأجيال المتعاقبة من ساكني القرى بهدم منازلهم القديمة الريفية التي كانت تتكون من دور واحد أرضي بحوش داخلي و حوله حجرات يسكنها الأبناء وأسرهم في بيت كبير واحد للعائلة، وعملوا على تقسيم أرض مسكن العائلة لعدة قطع وبناء مسكن منفصل خاص بكل فرد وأسرته ثم أسر أبنائه وأحفاده فيما بعد. تشرح ساكنات امبابة القديمة الحاليين هذا التغير بعبارة بسيطة “كل واحد يتقفل عليه بابه” في إشارة للاحتياج المستحدث للخصوصية بين أفراد العائلة الواحدة الذي طرأ على المجتمعات الريفية المصرية عامة. مع الوقت أصبحت ارتفاعات هذه المساكن تصل لثلاث وأربع أدوار على نفس الشوارع الضيقة، لتصبح شقها بلا أشعة شمس ولا تهوية تذكر.
مع استمرار الاتجاه الحكومي في تجريف الأراضي الزراعية والتوسع في بناء حضر الجيزة الذي أصبح يضم مدن كبيرة وراقية كمدينة الأوقاف –المهندسين حاليًا- الملاصقة لامبابة، وارتفاع قيمة الأرض لدخولها أو لقربها من زمام العمران الحضري وتغير الأنشطة الاقتصادية، وعوامل أخرى، توسع الأهالي في بيع الأراضي الزراعية وتقسيمها والبناء عليها بشكل غير رسمي، فأصبح النسيج العمراني عاكسًا لتقسيمات الزراعة وتم ردم الترع لتمثل الشوارع الرئيسية بين المساكن ، ولان تعميير الأهالي لا يتم وفقًا لمخطط مسبق مدروس، لم يؤخذ في الاعتبار توفير مناطق خدمية أو المساحات الخضراء أو مساحات عامة واسعة ملائمة تعمل كنقاط تجمع للمواصلات وتوزيع الحركة وغيرها من متطلبات تخطيط المدن.
لم تختص امبابة بهذا التطور وحدها، بل أصبح هذا النمط اللارسمي من التعمير والنمو العمراني هو الأكثر استيعابًا للنمو السكاني في اقليم القاهرة الكبرى حيث ارتفعت نسبة قاطني العمران اللارسمي من حوالي 15% من السكان في 1960 إلى 64% في 2009 (سيمز، 2012) . ولم تكن مجهودات التخطيط الحكومية من الكفاءة والفاعلية وسرعة الاستجابة لاستيعاب هذا النمو السكاني.
الأراضي الزراعية المحيطة التي كانت سابقًا تمثل أطراف امبابة، أصبحت في قلب عمرانها، وتشكلت مناطق سكنية بأكملها على هذه الأراضي. تنوع سكان هذه المناطق اللارسمية داخل نطاق امبابة؛ فبينما تشكلت مناطق من المهاجرين من الأقاليم المتنوعة أو أبناء القاهرة الباحثين عن سكن بأسعار ملائمة، كانت هنالك مناطق أكثر تميزًا في نشأتها حيث تشكلت بالكامل من عائلات أو قبائل من صعيد مصر قدمت إلى إمبابة في نزوح جماعي مستمر لسنوات، وشكلوا مجتمعهم الذي فرض خصائصه على المكان، فسميت المستوطنة البشرية الجديدة باسمهم وتشكلت بقواعدهم . منها ما هو قائم حتى الآن كمنطقة عزبة الصعايدة قرب ميدان الكيت كات، والتي نشأت في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي من مهاجرين من الصعيد ينتمون لعائلات كبرى شهيرة من محافظة قنا بالأساس كعائلات النوايتة والفَجَر، ويقال أن أقدمهم في القاهرة كان يعمل ويستقر في جزيرة الزمالك واشترى مساحات زراعية واسعة في امبابة وجلب من بلاده بعض الأقارب للعيش والزراعة وأصبح هو عمدتهم ثم توالى وفود الأقارب والبلديات على امبابة ليقيموا في مساكن متواضعة مؤقتة –عشش من الخوص- ومع الوقت استقروا وطوروا مستعمرتهم السكنية في الخمسينيات والستينيات على يد مقاول بناء قسمها إلى شوارع وعمارات تضم شقق ومحال تجارية، سميت عزبتهم بعزبة الصعايدة ومازالت المنطقة تحمل بين سكان امبابة نفس الاسم الموشي بنشأتها.
شابهت قصة عزبة صعايدة قنا مناطق أخرى شكلتها بالكامل هذه المجتمعات النازحة. منهم من استقر، ومنهم من قدم ورحل فلم يعد له وجود في امبابة سوى في ذاكرتها. نختص بالذكر منطقة “الزبالين” القادمين من أسيوط الذين احتلوا مساحة من أرض امبابة لحوالي الأربعين عامًا في الفترة ما بين 1930 إلى 1970 في منطقة البصراوي بالمنيرة الغربية، وكانوا يجمعون القمامة من أنحاء القاهرة الكبرى ويقومون بأعمال الفرز وتربية الخنازير والأغنام حول مساكنهم اللارسمية التي شكلها مجتمع الزبالين حسب احتياجاته الوظيفية وامكانات أفراده المادية. يذكرهم من عاصرهم من سكان امبابة الحاليين بشيء من الضيق فلا يرى في مجتمعهم سوى أناس يربون في منازلهم الخنازير “النجسة” وتعبق رائحة محيطهم برائحة القمامة العفنة. ظلت مستعمرة الزبالين جزء من عمران امبابة حتى واجههم انذارًا بالاخلاء من محافظ القاهرة في أواخر الستينيات ونقلوا بعدها الى أسفل تل المقطم، للمنطقة التي خصصت لهم بأمر من رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر ، “منشية ناصر” ، كما يحكي الزبالون القدامى.
مر الطريق الدائري حول امبابة في أواخر الثمانينيات وشجع هذا المرور الزحف العمراني على الأراضي الزراعية المتبقية في هذا الجانب من امبابة شأنها شأن أغلب مناطق داخل حزام الدائري . اليوم لم يتبقى داخل نطاق امبابة تقريبًا أية أراضٍ زراعية، وامتد البناء اللارسمي للأبراج العالية حول الدائري إلى منطقة بشتيل على الجهة الأخرى من الطريق والتي كانت حتى يومً قريب قرية تابعة لمركز امبابة الريفي – الذي لم يعد له وجود إداريًا. يبدو ما حدث نتيجة طبيعية ومتوقعة للغاية -بل على الأحرى مخططة- لإنشاء الطريق، فقطع المساحة الزراعية الآخذة في التآكل بأهم طريق سريع حول القاهرة الكبرى يرفع من سعر الأرض ويجعل العائد من بنائها والاستثمار فيها كعقار في ظل أزمات الإسكان المستمرة أجدى من زراعتها، بخلاف ما واجهه الفلاحون في هذه المناطق وغيرها من مشكلات جعلت استمرارهم في الزراعة أقرب إلى النضال منه إلى نشاط اقتصادي لكسب قوت اليوم . مرة أخرى لم تكن امبابة فريدة بهذا التطور فقد ارتفع معدل التوسع العمراني في أطراف القاهرة الكبرى بنسبة ثلاث أضعاف تقريبا بعد افتتاح الطريق الدائرى (بيفيرو، ٢٠٠٩). رغم أن المخطط الذي اقترح شق الطريق الدائري، “المخطط العام” لمعهد “إيل دي فرانس” – الذي اعتمده حسني مبارك كمخطط عام للقاهرة مارس 1983- طرح الطريق كوسيلة لتحزيم القاهرة وتحديد توسع كتلتها العمرانية واعتبرته “أكثر الأجراءات إلحاحا” (دورمان، ٢٠٠٧). ووضعت افتراضات لتجنب الخطر القائم فى أن الطريق الدائري قد يؤدي إلى خلق مناطق غير رسمية أخرى على امتداده “لكيلا تشجع النمو العمراني على المناطق الزراعية” وخاصة الأراضي الصالحة للزراعة في أطراف مدينة الجيزة (ريموند، ٢٠٠٠)، إلا أنها كلها أثبتت غياب الرؤية، وعدم صلاحية أي مخطط للقاهرة الكبرى منزوع السياق عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والغياب التام للعدالة المكانية في أنحاء مصر كلها. لا حاجة إلينا أن نوضح ان هذا الافتراضات التخطيطية فشلت في تحقيق هدفها إلى درجة أن حققت نتيجة عكسية تمامًا كما رأينا في النموذج المصغر في امبابة.
إمارة إمبابة الاسلامية
كانت لجماعات الإسلام السياسي تاريخ طويل في إمبابة الحديثة، ابتداءًا بجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين وجماعة التبليغ والدعوة وانتهاءًا بالجماعة الاسلامية الجماعة الأكثر عنفًا والأكبر تأثيرًا في عمران امبابة بشكل مباشر وغير مباشر لما ارتبط بكيانها من جدل وصراع متعدد الأطراف، سنهتم بوصف ما أدركناه منه هنا.
قررت الجماعة الإسلامية أن تستوطن وتنمو في قلب العاصمة في المنيرة الغربية غرب امبابة والقاهرة الكبرى وتصارع الدولة على السيطرة عليها. يتحدث باتريك هاينّي عن الصراع على المجال العام للمنيرة الغربية بين رابطة ’’الإخوة في الله‘‘ التي اسستها وعبئت مجتمع حولها الجماعات الإسلامية وبين رابطة الدم ’’القبائل والعوائل‘‘ والجوار الجغرافي ’’البلديات‘‘ (هاينّي، 2009). وكيف تم استبدال القيادات المجتمعية في هذه الفترة لتعبر عن توازن القوى الجديد، وما دور الدولة وسلطتها في هذا الصراع المعلن أحيانًا والخفي غالبًا . ما علاقة ذلك كله بالدولة والمواطن . كيف شكلت هذه العلاقات العمران وأدارته.
ظهر تأثير الجماعات الاسلامية في العمران في مسميات الشوارع والمساجد، ’’الإيمان بالله‘‘ ’’الإخلاص‘‘ ،’’الدعوة‘‘،’’الاعتماد‘‘ ليست مسميات تقليدية للمساجد في السابق في الصعيد وفي أي مكان ، كانت عادة ما تسمى المساجد بأسماء بانيها أو أسماء الأولياء أو الرموز الإسلامية التاريخية أو القادة المجتمعيين ، وكذلك الشوارع ’’شارع الاعتماد، شارع الجهاد وشارع الصحوة . يجادل باتريك أن الهدف لم يكن فقط أسلمة العمران ولكن أيضًا تفرقتها عن تلك التي بناها العائلات الصعيدية المسيطرة (هاينّي، 2009). حظيت جماعات الاسلام السياسي بشعبية وتأييد يربطه الكثيرون بما قدموه من خدمات لهؤلاء المواطنين الذين تخلت عنهم الدولة ووجوا أنفسهم في عوز شديد للخدمات الأساسية. على سبيل المثال عندما قام أنصار السنة المحمدية بإمبابة ببناء مسجد ومدرستين ووفروا الرعاية الطبية وطبقوا برامج إجتماعية في إحدى مناطق المنيرة الغربية ساهم ذلك في زيادة شعبيتهم وثقة الأهالي بهم (بيات، 2009)
لم تكن العلاقة بين السكان غير المنخرطين في السياسة والجماعة الإسلامية ذات طابع توافقي دائمًا، فالأعمال الخيرية والمساعدات والتعمير والدعوة الدينية لم تكن المظاهر الوحيدة لتوغل سلطة الإسلاميين في المنطقة، فقد ظهر مع امتداد سلطتهم مظاهر عنف عديدة لفرض السيطرة على المجال العام في امبابة بقوة حرب الشوارع، حتى أنهم استهدفوا الشباب ممن لهم تاريخ في الفتونة والإجرام ويمتازون بالقوة البدنية لتجنيدهم. وأصبحت الأفراح الشعبية هدفًا أساسيًا لعنف الجماعة الاسلامية في امبابة، فرؤية أفراد الجماعة بالجنازير والأسلحة البيضاء يهاجمون الحفلات التي تقام في الشوارع والتي من تقاليدها الخمور والحشيش والراقصات-، كانت مشهدًا متكررًا في الأفراح. أصبح لسكان امبابة مخاوف وشكوك تتعلق بطبيعة هذه المجموعات التي كانت تقدر بدرجة من قبل لالتزامها الديني (هاينّي، 2009).
يخبرنا بعض سكان امبابة ممن عاشوا هذه الفترة بان قادة ’’الجماعة الإسلامية‘‘ كانوا من القوة والسيطرة على بعض المناطق حتى أنهم عند إقامة افراحهم -الحدث الاجتماعي الأهم والأكبر في المجال العام في مناطق شعبية عديدة- كانوا يتوجهون لقسم الشرطة لأخذ ’’الإذن‘‘ –ويقصد به تصريح شفهي غير رسمي- فيخبروهم أن عليهم التوجه لاستئذان الشيخ جابر أولًا.7
عندما حل زلزال 1992، الأكثر تدميرًا في تاريخ القاهرة الحديث، لم يكن الأداء الحكومي لمواجهة الكارثة على المستوى المطلوب وظهر العجز والفشل في إنقاذ الضحايا، بينما على العكس في الجانب الآخر قامت لجان الزكاة في المساجد والمجموعات الإسلامية بتوفير الخيام والأغطية والأطعمة وغيرها من الاحتياجات الملحة للسكان. بالطبع أثر هذا التجاوب اللحظي مع الحدث على صورة المجموعات الإسلامية وزاد من شعبيتها مما جعل البعض يدعون أن لحظة الشعبية الضارية هذه هي ما شجع الإسلاميين على الوقوف في مواجهة الدولة بشكل أكثر مباشرةً ووضوح (سينجرمان، 2009).
الأكيد أن قرب امبابة من وسط العاصمة كان له أثرًا مخيفًا على السلطة المركزية ، فسلطتها هنا لا يتم التصارع عليها في أطراف الصعيد وانما في قلب منطقة سيطرتها الكاملة. ينقل عن الجهات الأمنية وتقاريرها أن الداخلية اتجهت لتصفية ما أطلقت عليه مثلث العنف: أسيوط – عين شمس- امبابة . وهنا تتعدد الروايات حول اللحظة الفاصلة التي حولت دفة سياسات الدولة تجاه الجماعات الاسلامية في امبابة تحديدًا من التجاهل بل والتعاون أحيانًا إلى هذه المواجهة الشرسة. نقلت وسائل الإعلام أن الجماعة الاسلامية قد أعلنت استقلال المنطقة تحت اسم ’’إمارة امبابة الإسلامية‘‘ ، بينما يزعم باحثون أن وكالات الأنباء العالمية وبالأخص رويترز وأسوشيتد بريس هي من أطلقت هذا التعبير. وتدعي تقارير أخرى أن السبب كان مظاهرة ضد حكم إعدام صدر على إسلاميين بمحكمة عسكرية بالاسكندرية، وقيل أنه نتيجة لعرض الجماعة الاسلامية للفيديو المحظور لعملية اغتيال السادات على أجهزة تليفزيونات أعدوها للعرض في شوارع امبابة (سينجرمان، 2009). أحد هذه الأسباب أو جميعها أذن باشتعال حرب بين الدولة وجماعات الإسلام السياسي في منطقة المنيرة الغربية بإمبابة، كانت أهم حلقاتهاحصار قوات الأمن لإمبابة في ديسمبر 1992 الذي ظل مؤثرًا على النقاش العام لفترة طويلة، لدرجة ألهمت صناع الفيلم السينيمائي ’’دم الغزال‘‘ لانتاج فيلم درامي مستوحى من إحدى الروايات عن الحصار وعرضه على الجمهور بعدها بأكثر من 12 عامًا.
حصار امبابة كنقطة تحول في سياسات العمران
“ما بين 8 و 9 ديسمبر 1992، تحولت مدينة مجهولة إلى رمز، إلى نموذج : حوصرت امبابة من 16 ألف فرد أمن يقودهم ألفان ضابط، في واحدة من أكبر عمليات التمشيط الأمني في تاريخ القاهرة . وبهذا سلطت الأضواء على مجتمع اللارسمية، ولم يعد في الإمكان تجاهله. أصبح لهذا المجتمع اسمًا، وقريبًا سيصبح له وفرة من الأوصاف، والنقاشات الرسمية، والتحليلات المتخصصة لتوقيع حدوده الجغرافية.” هكذا وصف الباحث إيريك دينيس (1994) ما حدث (كما ذُكر في سينجرمان، 2009).
في هذا اليوم نشرت وسائل الإعلام تواجد ما بين 12 ألف و18 ألف فرد أمن حول منطقة المنيرة الغربية بامبابة في واحدة من أكبر عمليات التمشيط الأمني التي حدثت في تاريخ القاهرة حتى وقتها. حوصرت المنطقة بالبلدوزرات والكلاب البوليسية وعربات الأمن ومعدات أخرى -وصفها البعض بأنها تليق بحرب بين جيشين نظاميين. تعرض المئات من سكان المنطقة للاعتقال، وقتل القليل، خلال حصار استمر ستة أسابيع (سينجرمان، 2009).
كانت هذه الواقعة من المحطات الهامة في تاريخ تعامل الدولة مع العمران اللارسمي، فالتحركات الحكومية بدافع احكام السيطرة الأمنية على المناطق التي اعتبرت مأوى للخصوم السياسيين الأساسيين في التسعينيات من أبناء التيار الإسلامي وما صاحبها من خطاب اعلامي أسسا لمفاهيم شكلت الوعي العام تجاه هذه المناطق، وبشكل مفاجئ حتى لأبناء هذه المناطق نفسها تجاه منطقته ومناطق أخرى شبيهة، ورسمت سياسات وخطط الدولة على مدار العقدين الأخيرين تجاه ما أصطلح على تسميته بالعشوائيات، فهي لم تعد فقط مناطق الفلاحيين الذين يهددون مدنية المدينة بل أصبحت أيضًا مناطق العنف والتطرف وإنعدام الأخلاق، واستمر انتاج خطاب تمييزي وتحريضي ضد سكان المناطق اللارسمية التي هي مناطق الفقراء بشكل أساسي، ما زالنا نعاني منه إلى يومنا هذا.
في 1 مايو 1993 بعد شهور قليلة من الحصار، فوض رئيس الجمهورية حسني مبارك حكومته لمهمة التطبيق الفوري لبرنامج تطوير المناطق العشوائية وامدادها بالخدمات والمرافق الهامة في كل المحافظات. كانت الوكالة الأمريكية الانمائية (USAID) قد تحركت بالفعل في إمبابة لرصف الشوارع وتطوير نظام الصرف ثم تبعتها المنظمات الأهلية الأوروبية لتنفيذ مشاريع ’’تنمية المجتمع‘‘. بدورها أعلنت الحكومة خطة قومية خمسية لتنفيذ مشروعات تطوير العشوائيات في الفترة من 1993 إلى 1998 بتكلفة 3,8 مليار جنيه. نشرت جريدة الأهرام الاسبوعي أنه حتى 1996 كانت 127 من أصل 527 من المناطق المستهدفة قد طوّرت بالكامل. وكما هو متوقع تلقت المنيرة الغربية بامبابة تمويلًا أكبر من أي منطقة أخرى من شمال الجيزة ، إلى شرق القاهرة –حيث المناطق المستهدفة. فما بين الأعوام المالية 1992-93 و 1995-96 خُصصت مبالغ تزيد عن 372 مليون جنيه على تطوير المنيرة الغربية فقط (بيات، 2009).
أصبحت امبابة أرضًا خصبة للبحث والتحليل ، كتبت أطنان من الأبحاث والدراسات والمقالات حول المناطق اللارسمية منطلقة من تحليل ما حدث بامبابة إلى تحليل ما سمي بالظاهرة، “ظاهرة العشوائيات” –رغم كون هذا النمط مستقر من قبلها بعقود لفئات كثيرة من متوسطي الدخل والشباب وحديثي الزواج والفقراء والمهاجرين من الحضر والريف على حد سواء. اهتم بامبابة الإعلاميون والمفكرون والمثقفون المصريون، ومتخصصو الدراسات الشرق-أوسطية في أوروبا وأمريكا، والمنظمات الدولية وهيئاتها المالية الكبرى. أصبحت امبابة هي المنيرة الغربية ، والمنيرة الغربية هي إمبابة ؛ امبابة العشوائية، موطن الفقر والعنف السياسي والإجرام والتطرف والجهل والفوضوية. وغابت عن الأنظار لسنين كل تنوعات امبابة الأخرى.
امبابة تختبر المجال العام المفتوح بعد 2011
نلحظ أن ما ان اختبرت امبابة مساحات الحركة المفتوحة والحرية النسبية ما بعد يناير 2011 كغيرها من المناطق، حتى ظهر تنوع سكان امبابة وتفاوت ظروف معيشتهم ، وميولهم السياسية وتحركاتهم، بشكل متجاوز لأي تعميم سبق أن أطلق على هذه المنطقة. ورغم الزخم السياسي وسيل الأخبار والفاعليات في أرجاء الجمهورية وخاصة في القاهرة الكبرى مركز الأحداث، فقد اجتذبت امبابة الأضواء لأكثر من مرة خلال الأعوام القليلة الماضية، حيث اشتهرت كمنطقة هامة لخروج المظاهرات السياسية الضخمة في 2011، فكانت الجموع تخرج من شوارع امبابة وتتجمع في أكثر من نقطة أهمها وآخرها مسجد خالد ابن الوليد في ميدان الكيتكات متجهة إلى ميدان التحرير بوسط البلد. ونشأت بها العديد من التنظيمات للدفاع عن حقوق سكان امبابة؛ كاللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة في امبابة . وكثرت بها –كغيرها- الصراعات الانتخابية بين التيارات المختلفة. المفارقة أن إمبابة التي التصقت بها صورة “معقل الإسلاميين” في وقت ما، حين أتيح لها الاختيار –بدرجة- صوتت بشكل ملفت ضد ممثلي الإسلام السياسي في انتخابات رئاسة الجمهورية 2012. يقال أن الإسلاميون تركوها إلى مناطق أخرى حولها بعد استهدافهم بها طول فترة التسعينيات. ولكننا في الحقيقة لا نملك الكثير من المعلومات حول التوجهات السياسية للسكان، كما لا نستطيع حصر كل التنظيمات والحركات الاجتماعية لا اليوم ولا في أي وقت مضى لأن رصد مثل هذه التوجهات يستلزم وجود آليات مشاركة فعالة للمواطنين تمكن من رصد توجهاتهم وتفضيلاتهم بل واحتياجاتهم والتغيرات التي تطرأ في تركيبتهم والديناميات الاقتصادية والاجتماعية داخل المنطقة والتي تؤثر بشكل مباشر على شكل العمران وحالته وحياة الناس به.
لم تخلو امبابة في هذه السنوات الأخيرة من أحداث العنف الطائفي التي تشي بكثير من الاحتقان والعنف المستتر، أشهرها وأقساها أحداث العنف التي شهدها شارعين رئيسيين في امبابة في مايو 2011 و أفضت حسب تقرير إحدى المنظمات الحقوقية إلى 15 قتيل و242 مصاب، وحُرق على إثرها كنيستين بامبابة وهما مارمينا والسيدة العذراء، و على إثرها تم القبض على 190 شخص وإحالتهم إلى النيابة العسكرية العليا للتحقيق معهم، واستلزم الأمر من السلطة السياسية أن يتدخل الجيش لحماية المنشآت ثم التكفل بإصلاحها لاحقًا بالإشراف والتمويل على أعمال الترميمات التي قام بها فريق من مرممي الآثار المختصين. وبينما اتخذت هذه الأحداث طابع الصراع بين طوائف من المواطنين فشلت السلطات في أن تلعب دورها في احتوائها وتحجيم خسائرها، شهدت امبابة بعد 30 يونيو 2013 –كغيرها من المناطق أيضًا- أحداث عنف في صراع بين الدولة وخصومها الإسلاميين كان أكبرها في التأثير على شكل العمران المحيط تفجير قنبلة أمام مبنى مجمع المحاكم الضخم على ناصية شارع ترعة السواحل في 14 يناير 2014 دون خسائر في الأرواح بالتزامن مع الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، وما زالت أعمال الإصلاح به قائمة إلى اليوم.
ولكن في النهاية لا يجب التركيز على أحداث العنف السياسي التي تتداخل بها العوامل كمبرر لإخلاء المجال العام والسيطرة عليه. ولا يجب اعطائه حجما أكبر من حجمه في وسط حياة يومية يعيشها مئات الآلاف في منطقة حيوية، استخدامهم العفوي للفراغات العامة في أنشطة البيع والشراء والتسامر في المقاهي والسهر والأفراح والمآتم والأعياد والموالد وغيرها. وكيف يمتلئ المكان بالمحال التي توفر الاحتياجات اليومية من القطاع الخاص واللارسمي، التي تغطي تقريبًا كل ما يمكن أن يرد على البال من مشتروات وخدمات صيانه.
المكان وأهله
امبابة اليوم من أكثر المناطق كثافة سكانية في القاهرة بل وفي العالم. تقع شمال العاصمة على كورنيش نيل محافظة الجيزة، حيث يعتبر الكورنيش واجهتها الرئيسية، يميزها القادم جنوبا من كورنيش العجوزة حين يصل لميدان الكيت كات الشهير. وتلعب الكباري دورًا هامًا في وصل امبابة بمناطق محافظة القاهرة من خلال كوبري امبابة وكوبري الساحل المؤديان لبولاق ابو العلا ومنها لمناطق وسط البلد و مصر القديمة وكورنيش المعادي جنوبا وروض الفرج والساحل وشبرا شمالًا. تشارك امبابة منطقة المهندسين شارع السودان أحد شوارعها الرئيسية كما تشارك الوراق شمالا شارع القومية العربية أحد أهم الشوارع الرئيسية بامبابة كذلك. ويربطها الطريق الدائري بمناطق عديدة حول القاهرة الكبرى من خلال خطوط ميكروباصات وسلالم قام الأهالي بأنفسهم ببنائها.
يتكدس سكان امبابة في عمرانها الذي تشكل بمزج كل هذه الطبقات من الحضر والريف والمخطط وغير المخطط. نجد مناطق الطبقة الوسطى وبجانبها المساكن الحكومية للاسكان الشعبي وبجوارها المباني اللارسمية الفقيرة، وعلى بعد عدة مربعات سكنية برج سكني تطل أدواره العشر أو أكثر على شارع واسع، ويداري ورائه عمارات سكنية أقل كلفة تتراص في شوارعها الضيقة. وكما تمتاز امبابة بالتنوع في شكل عمرانها، تتنوع أيضًا في تركيبتها السكانية المتباينة إلى حد كبير في الأصول المكانية لأسلافهم والخلفيات الاجتماعية والتعليمية المختلفة لهم، وفي القطاعات الاقتصادية التي يعملون بها. حتى في إدراكهم للمنطقة التي يعيشون بها ومعالمها الهامة ومشاكلها فهم متباينون، فمشاكل كل منطقة تختلف عن الأخرى والمعالم الهامة للبعض لا تمثل أي شيء للبعض الآخر .رصدنا بوضوح إدراك سكان مدن العمال والموظفين واختلافه عن ادراك سكان المنيرة الغربية على سبيل المثال وكيف تغلب على كل منها الصور النمطية عن الآخر وحياته. أي أن إدراك أهالي امبابة أنفسهم لمنطقتهم ليس شاملا، فامبابة منطقة كبيرة وكلٌ غالبًا ما يتحرك في محيطه دون الحاجة لزيارة مناطق أخرى داخل امبابة. لذا، لفهم عمران امبابة، رأينا تقسيمه إلى مناطق جوار ومحاولة النظر عن قرب لطبيعة كل منطقة وتنوعاتها والعلامات المميزة بها.8
المنطقة جنوب امبابة، المحصورة بين كورنيش النيل وشارع السودان وخط السكة الحديد، أكثر المناطق وضوحًا في حدودها الجغرافية. منطقة تحمل الكثير من تنوعات وتناقضات عمران امبابة. مدخلها الرئيسي من ميدان الكيت كات على الكورنيش، يميزه جامع خالد ابن الوليد الذي يداري خلفه مناطق امبابة القديمة في أماكنها التي حملتها من قرون على امتداد الشريط الموازي لكورنيش النيل، حتى أنها ما زالت تسمى رسميًا بأساميها التاريخية، ميت كردك وكفر الشوام وتاج الدول وسيدي اسماعيل وجزيرة امبابة. كورنيش النيل هو المتنفس الأهم للكثيرين من أهالي امبابة؛ حتى أن بعضهم وصف قاعات الأفراح والحدائق الممتدة على شريط النيل بأنها من “أهم مميزات امبابة”. العوامات أيضًا رغم خفوت رواجها عن عقود مضت ولكن ما زال بعضها يعمل كملتقى اجتماعي وثقافي وترفيهي كمطعم أو فندق بسيط هادئ على النيل.
يحتل واجهة كورنيش النيل بعد شريط المساكن منشآت حكومية عديدة أهمها قسم شرطة امبابة في نفس مكانه منذ انشائه أوائل القرن الماضي جنوب كوبري امبابة، ولكنه اليوم أصبح أشبه بالحصن بعد إحاطتها بالبلوكات الخرسانية المميزة المستخدمة لخلق نطاق حماية حول المنشآت الحيوية كالأقسام والوزارات وسفارات الدول القوية والتي أصبحت علامة مميزة حديثة في شوارع المدن المصرية. أمامه محطة الأتوبيس النهري تزدحم في أوقات النهار بأعداد من الشباب الذين يستخدمون الأتوبيس للعبور لجزيرة الزمالك. ومن جانب القسم يقودنا شارع التروللي إلى قلب امبابة كأحد مداخلها الهامة من الكورنيش حيث يمتد بموازاة خط السكة الحديد إلى أن يصل لميدان التروللي، الميدان الذي كان يمثل المحطة الرئيسية للتروللي-باص (الكهربائي) الذي كان يتجول في شوارع امبابة في السابق وتم إلغاؤه. ما بين القسم والميدان نشاهد العديد من العلامات المميزة كسنترال امبابة ومحطة القطار ومركز ثقافي اجتماعي لأهالي المنطقة يحوي عدة ملاعب كرة قدم وطاولات البلياردو التي يستأجرها شباب المنطقة بالساعة ليقضوا أوقات فراغهم. خلف قسم الشرطة، يقع مسجد وضريح الشيخ اسماعيل محاط بكفر الشيخ اسماعيل ومنطقة جزيرة امبابة التي لا تختلف كثيرًا عن بقية مناطق امبابة القديمة. شوارع ضيقة تحوي بعض البيوت القديمة المبنية بالطرق التقليدية من الحجارة أو الطين اللبن ومونة الأسروميل، وأخرى جديدة من الخرسانة والطوب الأحمر تم بناؤه بارتفاعات تصل ل3-4 أدوار بينما لا يتخطى عرض الشارع أحيانا المترين. تفتقد الشوارع للإنارة والرصف كليا، باستثناء بعض الشوارع التي ينيرها الأهالي بمصابيح علقت على واجهات مساكنهم المتواضعة. تحمل المنطقة العديد من المساكن المهجورة أيضًا التي تسبب عدة مشكلات لأهالي المنطقة، كأن تتهدم نتيجة القدم والإهمال وتؤثر على العقارات المجاورة، أو أن يستخدمها الأهالي في الجوار لإلقاء القمامة التي تتسبب في بعض الأوقات في حرائق يصعب احتوائها لالتصاق البيوت وضيق الشوارع الذي يمنع عربات الإطفاء من الوصول لمكان الحريق. وأكثر من ذلك، تعاني مناطق امبابة القديمة من مشكلات أكبر من المناطق المجاورة، أحيانًا تسبح الشوارع في مياه الصرف الصحي ولا يستطيع الأهالي التحرك حيث تصبح الأرض طينية ويضطرون للعبور في مياه الصرف. تتنوع التركيبة السكانية كذلك، بعضهم من الفقراء والعاملين باليومية في القطاع اللارسمي وبعضهم أصحاب ورش ومحال وبعضهم يعمل في المهن المرموقة وسطهم كالطب والهندسة والمحاماة . يرى أهالي المنطقة ميزة كبيرة في العلاقات الاجتماعية المتوارثة والقوية بينهم، فمن غير الممكن أن تكن من أهالي المنطقة ولا يعرفك كل فرد فيها بل ويعرف تفاصيل عملك وحياتك الأسرية وصلات قرابتك. وهو ما يشعرهم بالأمان داخل منطقتهم لتمكنهم من رصد الغرباء وتحركاتهم وما ان كانت في صالح المنطقة أم لا.
شارع ترعة السواحل هو الشارع الرئيسي الذي يخترق هذه المنطقة، يبدأ من شارع السودان حيث يحمل على ناصيته مبنى محكمة امبابة –رسميًا مجمع محاكم شمال الجيزة-، وينتهي بميدان التروللي في الجهة الأخرى. تتشكل على جانبيه مناطق عديدة لارسمية كان أساسها في يوم ما عشش الصعايدة ثم تطور البناء وتوسع ليشكل مجموعة من الشوارع على نفس نمط شارع عبد النعيم (عزبة الصعايدة) كشارع الطناني وبيومي سلام، وتوكل عسران في الجهة المقابلة وغيرهم. ارتفاعات أغلب المباني تتراوح بين 4-5 أدوار تم بناؤها في أوقات متقاربة غالبًا خلال الخمسينيات والستينيات كما يقول السكان الحاليين، على يد مقاول بناء واحد، لذا تجدها جميعًا بنفس التصميم وتقسيم وتوزيع الغرف. أغلب السكان هم أصحاب البيوت أنفسهم وأبنائهم وتقل الإيجارات في هذه المناطق. مع وجود عدد قليل من السكان مستأجرين بنظام الإيجار الجديد أغلبهم في العمارات المنشأة حديثًا والتي تصل لارتفاعات 8-10 أدوار وما زال عددها قليل على أطراف المنطقة . أغلب شوارع هذه المناطق يتشكل من أقارب وبلديات -أي الأفراد الذين لهم نفس الأصول المكانية- ، يشتهر الطناني على سبيل المثال بوجود مجتمع نوبي كبير في المنطقة قد يسكن الشارع الواحد أفراد عائلة نوبية ممتدة بأكمله دون غريب. وبالطبع الصعايدة الذي عمروا وتوارثوا عزبة الصعايدة. تحمل هذه المناطق تنويعات من طبقات اجتماعية متقاربة فلا هم أغنياء أو فقراء شديد الفقر ولكن يوجد تفاوت بالطبع في مستويات الدخول والخلفيات التعليمية والثقافية والتي تعتبر شأنًا طبقيًا في امبابة وغيرها من مناطق مصر- والأصول والأعراق والأديان. بالحديث مع أهالي المناطق ملأ حديثهم التسامح والمثالية في التعايش بين الطوائف المختلفة، يقولون أن الصعايدة والنوبيين قد شكلوا مجتمعا مترابطا متحابا رغم كون أبناء العرق الواحد –نوبي أو صعيدي- لا يتزوجون إلا من عرقهم ولا تختلط أنسابهم، إلى يومنا هذا يأخذ الكثير من العائلات هذا الأمر بجدية وصرامة. يتحدثون كذلك عن الترابط بين ميسوري الحال والمتعسرون ماديا في مواقف عدة، والمعارف الاجتماعية المتوارثة التي تشكل علاقات تحافظ على التضامن التلقائي بينهم في الأزمات. لديهم كذلك قصص للتعاملات بين المسلمين والمسيحيين يغلب عليها الخطاب المتزن عن الوحدة الوطنية والتعايش. لا تحوي المنطقة وظائف، فيما عدا بعض المشروعات الصغيرة كالقهوة والصيدلية والبقالة والعطار وغيرها من المحال والورش المتفرقة التي يديرها ويعمل بها أصحابها ولا توفر فرص عمالة إلا لعدد محدود. يخرج أغلب أهالي المنطقة للعمل في مناطق أخرى بامبابة أو في القاهرة الكبرى عموما.
في قلب هذه المنطقة على يمين ترعة السواحل، يحتل النادي السويسري أحد القصور الأثرية الذي بني غالبًا في النصف الأول من القرن الماضي حيث يدعي سكان المنطقة أنه كان استراحة للملك فاروق، وأصبح منذ سنوات مقر للنادي الاجتماعي الثقافي التابع للسفارة السويسرية والذي يحتضن العديد من الفاعليات والأنشطة الثقافية والاجتماعية لسكان مناطق مختلفة من القاهرة والجيزة. يعرفه الأهالي جيدًا ولكن لا يزوره الكثيرون منهم ولا يملكون علاقة معه فهو بالنسبة لهم ليس مكانا ملائما لهم أو انهم ليسو ملائمين للمكان.
النصف الثاني من شارع ترعة السواحل يحمل على جانبه الأيمن مساكن عزيز عزت وهي بلوكات حكومية للاسكان الشعبي بنيت على الأرض التي شغلها لسنوات طويلة سوق الجمال الكبير. تمتاز بشوارع واسعة إلى حد ما وجيدة الإضاءة، البلوكات جميعها بنفس التصميم، متدهورة وتفتقر إلى صيانة مرافقها الأساسية، و لكن تظل حالتها نسبيًا جيدة مقارنة بالمناطق المحيطة. رغم كون هذه المساكن حكومية ومخططة وحالتها المادية أفضل من غيرها إلا أن أغلب سكان امبابة من المناطق المختلفة – حتى سكان المنيرة الغربية الموصومون بالفقر والعنف والخروج عن القانون- يرون أن مساكن عزيز عزت واحدة من أسوأ مناطق امبابة كلها. يكثر الحديث عن انتشار تجارة المخدرات بها وافتقاد سكانها للإحساس بالأمان. يميز منطقة مساكن عزيز عزت سوق السيراميك – وهو تجمع كبير لمحال بيع السيراميك ومواد التشطيبات- وسوق الخضراوات، ومنطقة المدارس التي تضم مدرسة امبابة الثانوية العسكرية ومدرستين للتعليم الثانوي للبنين والبنات، ومدرستين للتعليم التجاري، و حوالي خمس مدارس للتعليم الابتدائي والاعدادي. كما توجد أيضًا منطقة مدارس في شارع السلام بجانب النادي السويسري ومدرستان للتعليم ابتدائي على شارع ترعة السواحل. وفي نهاية شارع ترعة السواحل يقع مصنع الشوربجي المصنع التاريخي الذي أشرنا اليه من قبل، وأرض فضاء يعرفها الاهالي بانها “مصنع الخزف” حيث حملت سابقًا مصنعًا كبيرًا للخزف وتحولت بعد غلقه لمخازن، يخبرنا أهالي المنطقة أن الأرض مرشحة لان تبنى عليها مساكن جديدة. كما يشاع استغلال قطعة أرض فضاء كبرى في نهاية سور مصنع الشوربجي ، مجاورة لمبنى المطافئ لنفس الغرض.
وراء خط السكة الحديد وكوبريه المميز وعلى امتداد الكورنيش تطالعنا المدن السكنية المقابلة لبولاق أبو العلا، مدن العمال والموظفين المخططة بالكامل من الدولة في الأربعينيات والخمسينيات والتي توارثها أبناءهم من متعلمي الطبقة الوسطى. مداخلها الرئيسية من الكورنيش، وتمثل أرقى مناطق امبابة من وجهة نظر سكانها. بالتأكيد تدهورت حالتها فهي الأخرى كباقي مناطق امبابة تعاني من سوء الإدارة، ولكن تظل شوارعها الأوسع بين شوارع مناطق امبابة مع نسبة جيدة من التشجيير وارتفاعات مباني ملائمة لعروض الشوارع-وإن كانت أعلى مما خطط لها. يقع هنا المدخل الثالث لامبابة من جهة الكورنيش -بعد مدخل ميدان الكيت كات ومدخل قسم امبابة-، يحملك هذا المدخل إلى قلب مدينة العمال عن طريق شارع طلعت حرب الذي ينتصفه ميدان حجر الأساس –قيل أن حجر الأساس الذي وضعه جمال عبد الناصر لتدشين مدينة التحرير كان في هذا المكان. يفصل شارع طلعت حرب مدينة العمال ومدينة التحرير، ويتوسطه أشهر مطاعم امبابة وهو مطعم “البرنس” المختص بالأكلات المصرية التقليدية والذي يحظى بشهرة واسعة ويستقبل الزوار من مناطق عديدة من خارج امبابة حول القاهرة الكبرى. ثم تتوالى المداخل من جهة الكورنيش، شارع الطيار فكري ثم شارع الوحدة، شوارع رئيسية عريضة تظللها الأشجار وحولها شبكة منتظمة من الشوارع الفرعية ومباني حالتها جيدة نسبيًا وخدمات مثل وحدة اسعاف امبابة بشارع سعد زغلول بمدينة العمال، ومستشفى الرمد بشارع الطيار فكري بمدينة التحرير، كما يميز مدينة التحرير منطقة مدارس كانت من قبل مدرسة واحدة للتعليم الأساسي كانت تسمى “مدرسة التحرير” مع الوقت تم تقسيمها إلى ثمان مدارس أصغر منها مدارس النيل و رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وغيرها.
يعتبر سكان هذه المدن أن مدنهم تمثل امبابة المتحضرة، يتحدثون بنبرة نوستالجيا واضحة عن جودة الحياة سابقًا في هذه المدن وكيف أن هذه المدن هي امبابة –كما يعرفونها- ولكنها تدهورت كغيرها. يتذكرون أن المناطق المحيطة كانت جميعها أراضي زراعية. “بعدين اتعمل شارع الوحدة، وبعده زكي مطر، وشارع الجامع ، واتعمرت كلها ” هكذا يخبرنا ساكن بالمنطقة. يخبرنا أيضًا أن مع انتتشار البناء اللارسمي، “العشوائيات” على حد قوله، رحل العديد من ميسوري الحال ممن استطاعوا ادخار مبالغ تسمح لهم أن يتركوا المنطقة لمناطق أخرى أرقى.
تتميز الواجهة النيلية لهذه المنطقة بعدد من العلامات والمنشآت الهامة كالمطابع الأميرية والمنزل الأثري للمهندس الذي كان قائمًا على تحريك كوبري امبابة، كما يحتل شريط الكورنيش في هذه المنطقة عددًا من المعاهد القومية على مستوى الجمهورية مثل معهد السمع والكلام ، ومعهد التكامل العصبي الحركي. وكذلك مستشفى حميات امبابة المركزي التي تخدم مناطق عدة خارج امبابة ويعتبرها الأهالي أهم المستشفيات بمنطقتهم ويلجأون إليها للعلاج، كما يعتبرونها علامة مميزة تسبق مدخل آخر هام لامبابة وهو شارع الوحدة الذي يمثل امتداد كوبري الساحل القادم من روض الفرج. تكمن أهمية شارع الوحدة أنه الشارع الرئيسي المؤدي لميدان البوهي وشارع البوهي ومنه لشارع القومية المؤدي بدوره للطريق الدائري، كما يدخل امتداده –يسمى بشارع “امتداد الوحدة”- إلى قلب مناطق المنيرة الغربية ويتقاطع مع شارع الأقصر أحد أهم شوارعها. أي أنه المدخل الذي يوصلك لشبكة الشوارع الرئيسية داخل عمق عمران بامبابة بأكملها.
بعد كوبري الساحل نرى الصوامع الكبرى للغلال–رسميًا مطاحن شمال الجيزة-، يقابلها على شاطئ النيل أرض الترسانة البحرية التي أغلقت ويتوقع الأهالي استبدالها بحديقة أو ملاذ ترفيهي آخر على النيل. وأخيرًا الاسطورة العمرانية “مصنع الكراسي “، ورغم توقف مصنع الكراسي عن انتاج الكراسي، وإغلاقه ثم هدمه ثم بناء أبراج سكنية تسمى بأبراج العربي على أرضه مؤخرًا، إلى أن الموقع مازال يسمى عند الأهالي مصنع الكراسي ويمتد الاسم ليشمل شارع مصنع الكراسي الذي يحمل رسميًا اسم محمود سالم،و رغم هدمه إلا أنه مازال من أشهر المصانع بإمبابة إلى يومنا هذا وتحول لأيقونة للتندر انتشرت ليس فقط محليًا ولكن عالميًا أيضًا، فأصبح التهديد “ورا مصنع الكراسي” هو التهديد الأشهر للتنكيل بالخصوم.
المنطقة الثالثة في جولتنا تمثل امبابة الأكثر إثارة للجدل، الأعلى كثافة سكانية والأكثر ازدحامًا والأضيق في شوارعها والأفقر في خدماتها؛ المنيرة الشرقية والمنيرة الغربية. مناطق متداخلة يصعب رسم حدود فاصلة بينها، بنيت جميعها على الأراضي الزراعية وتوسعت بسرعة هائلة خلال العقود الثلاث الأخيرة، تظهر في نسيجها العمراني تقسيمات الأحواض الزراعية التي كانت أساسًا لتخطيطها العفوي اللارسمي، مساكنها متلاصقة وشوارعها تشكلت من ردم الترع فأصبحت الترع الكبيرة شوارع رئيسية والفروع بين الأحواض شوارع فرعية.
تتصل المنيرة الشرقية بشارع التروللي وشارع ترعة السواحل من خلال نفق امبابة –أو نفق المنيرة- في بداية مدخلها من ناحية هذا النفق توجد أهم نقطة تجمع للمواصلات والتنقل داخل امبابة ، حيث موقف الأتوبيس العام وموقف الميكروباص الذي يصل أهالي امبابة بأحياء عدة في الجيزة والقاهرة وسوق للخضروات والفواكه والبضائع الصغيرة والملابس في محلات وأكشاك متواضعة متراصة وعربات للبيعمتجولة. يمتد من بعد النفق شارع امبابة الرياضي ، الذي يفصل مدن العمال والموظفين عن المنيرة الشرقية، حسب تعبير بعض سكان امبابة “يفصل بين المناطق الراقية والعشوائيات”، يتقاطع شارع امبابة الرياضي مع الشوارع الهامة القادمة من الكورنيش لتكون نهاية مسارها في هذه النقطة شارع طلعت حرب والطيار فكري والوحدة.
المنيرة الشرقية هي المنطقة بين شارع امبابة وشارع البوهي الموازي له، منطقة سكنية هامةشوارعها الفرعية هادئة نسبيًا بها نسبة معقولة من الأشجار ، ليست ممهدة بالكامل ولكن عروضها ملائمة نسبيًا لارتفاعات مبانيها المتوسطة. . يعد شارع امبابة الرياضي من الشوارع التجارية الهامة حيث يحمل محلات الملابس والأحذية والأجهزة الكهربية الشبيهة بمحلات وسط البلد شارع واسع يحمل العديد من الخدمات. أما شارع البوهي على الجانب الآخر فهو شارع مزدحم وصاخب تملأه أنواع المواصلات المختلفة ويمر بمنتصفهخط سكة حديد مصمم خصيصًا لنقل القمح إلى الصوامع منذ عقود. هو أيضًا الشارع الذي اختارته الحكومة المصرية ليمر على طوله خط المترو الجديد، وتفتح في منتصفه محطة مترو البوهي في قلب ميدانه، ميدان البوهي، ليصبح نقطة انطلاق المتنقلين بالمترو قيد التنفيذ الي مناطق امبابة المحيطة.
يفتح على شارع البوهي شوارع الأقصر والبصراوي اهم شوارع المنيرة الغربية. المنطقة ذات الشهرة العالمية، حيث دارت أحداث صراع التسعينيات بكل اطرافها المتشابكة، المنيرة الغربية اليوم أكثر ازدحامًا ويتنامى عدد سكانها يومًا بعد يوم، أصبحت تحمل أكبر كثافة سكانية بفارق ضخم بحسب سكان امبابة من كل المناطق، يقول أحد السكان “الشوارع ضيقة والمباني بتوصل لارتفاعات عشر أدوار على مساحة 100 متر تتقسم لشقتين في الدور الواحد” تدليلا على الكثافة السكانية المرتفعة بالمنطقة . تعاني المنطقة من الإهمال الظاهر لعمرانها حيث أغلب الشوارع غير مرصوفة أو ممهدة ويشتكي السكان من مشكلات الصرف الصحي والمياه وعدم وجود مدارس أو مستشفيات. ولذا يلعب القطاع الخاص و اللارسمي دورًا رئيسيًا في حياة سكان المنطقة حيث يعتمدون بالأساس على المدارس الخاصة والعيادات والحضانات التي يفتح بعضها في عمارات سكنية وتشكل الأسواق اللارسمية عصب الحياة هناك لتوفيرها الاحتياجات الأساسية من المأكل وأدوات المنزل وغيرها؟ كما تلعب المؤسسات الدينية دورًا هامًا في تقديم الخدمات التعليمية والصحية، فنجد أن الكثيرون يعتمدون بشكل أساسي على مستوصف الجمعية الشرعية الاسلامية أو مستوصف الكنيسة . يتشكل عمران المنيرة الغربية كما ذكرنا حول الشوارع الرئيسية التي تشكلت في مسارات الترع. تضم المنيرة الغربية مناطق كثيرة معروفة للأهالي ويصعب توقيع حدودها حيث تنمو حول شوارعها الرئيسية المتقاطعة وأهمها البصراوي والأقصر والعروبة، ومعها أيضًا مناطق بني محمد وعزبة المفتي وغيرها.
تتنوع أصول سكانها أيضًا وتتعدد الروايات حولها، ولكن يجمع الكثيرون أن أوائل من انشئوا أغلب هذه المناطق من صعيد مصر، بنسبة كبيرة من محافظة أسيوط، كما تشكلت مجتمعات أقليات أيضًا بداخل هذه المناطق كمجتمع الغجر بعزبة المفتي الذين استقروا هناك خلال ترحالهم في احدى السنين وشكلوا مجتمعهم الخاص الذي عانى ويعاني من وصمات الغجر في أغلب مناطق العالم. يخبرنا أهالي امبابة أيضًا أن أكبر نسبة مسيحيين في امبابة توجد في مناطق المنيرة الغربية كمنطقة بني محمد والبصراوي، مما ينعكس في تركز العديد من الكنائس في هذه المناطق والأيقونات الدينية التي تعرض بفخر وتميز الكثير من المساكن والشوارع في شكل رسوم ومجسمات. الحقيقة أن الرموز الدينية تمثل عنصرًا هامة في مظهر هذه المدينة، سواء المسيحية أو الإسلامية حيث تعطي الزائر انطباع أنها مباراة في إعلان الهوية الدينية لقاطني المسكن أو الشارع برسوم وعبارات أجمل وأكبر وأكثر وضوحا وأعلى تكلفة، أما الشوارع الرئيسية فتتجاور بها رموز المسيحين والمسلمين في سلام ملفت.
يحد هذه المناطق من الشمال شارع القومية العربية الشارع الرئيسي الفاصل بين حي شمال الجيزة (امبابة) وحي الوراق، يصفه سكان المناطق المحيطة بانه “أهم شارع في امبابة”، فالشارع بالنسبة للمناطق المحيطة به شريان الحركة في مدينتهم، عرضه كبير حيث يضم كل اتجاه من الطريق المزدوج ثلاث حارات بالإضافة لأماكن ركن السيارات في كل جانب، ويمتلئ بالأنشطة الاقتصادية، وتتفاوت ارتفاعات المباني السكنية حول الشارع ولكن كل حين تستطيع أن ترى مجموعة من الأبراج التي يصل ارتفاعها لخمسة عشر دورًا ، آخر الشارع نجد النفق الذي يعبر لبشتيل في الجهة المقابلة ومطلع للطريق الدائري وحديقة صغيرة يسمونها حديقة الدائري ويعتبرها الأهالي متنفس هام للمنطقة من هذا الجانب. ورغم هذا يعاني الشارع من الإهمال لكونه متنقسم بين حيين إداريين يلقي كل منها بمسئولية تحسين الشارع على الآخر . ويطوق المنيرة الغربية بأكملها من ناحية الغرب الطريق الدائري، وقد قام الأهالي ببناء أكثر من سلم للمشاة بأنفسهم للوصول للدائري والتي خلقت بدورها محطات لا-رسمية على الطريق لوسائل المواصلات التي يستقلها سكان امبابة للتنقل إلى باقي أنحاء القاهرة.
أسهل الطرق للوصول للمنطقة الأخيرة في جولتنا بامبابة هو سلك شارع أحمد عرابي بالمهندسين إلى نهايته والعبور من الكوبري المنشأ مؤخرًا لمنطقة مطار امبابة. على اليمين من شارع المطار بعد منزل الكوبري ما زالت مساحة شاسعة من الأرض الفضاء تحتل هذه المنطقة حيث كانت سابقًا موقعا لمطار . شارع الكيلاني هو الشارع الرئيسي الذي يشق هذه المنطقة فيفصل بين الأرض الفضاء التي يطمح المسئولون لتحويلها لمنطقة استثمارية ويتبعها على نفس الجانب حديقة الجيزة إحدى أكبر الحدائق بالقاهرة الكبرى، وبين عزبة المطار على الجانب الآخر . يقع في المنطقة عدة منشآت هامة مثل المعهد القومي للقلب الذي يخدم مرضى القلب على مستوى الجمهورية. وبعض المنشآت التعليمية كمعهد الطيران وبعض المدارس الحكومية ما زالت قيد الإنشاء، في إطار مشروع تطوير يشمل منطقة المطار بأكملها، سنخصص فصلًا كاملا في هذا المقال لسرد تاريخه وتبيان تفاصيله ومناقشة آثاره الحالية والمتوقعة على العمران وصورته وحياة المجتمع المحيط به.
حديقة الجيزة، والتي هي جزء من مشروع التطوير كذلك، تعتبر أكبر وأهم متنزه في المنطقة يزورها السكان خاصة في المناسبات والأعياد ، ويعتبرها الكثيرون إضافة رائعة لمنطقتهم ووجهة قريبة وجميلة وفي متناول اليد لقضاء أجازة الأسرة بمساحاتها الخضراء الواسعة وألعاب الأطفال التي تسمح لهم بالركض واللعب بشكل كانوا محرومون منه في السابق في منطقتهم المتكدسة بالمباني الخرسانية .
بجانب الحديقة يقع مشروع إسكان حكومي كبير، اكتمل بناء أغلب مساكنه ولكنه لم يفتتح بعد . عمارات موحدة التصميم والألوان من خمسة أدوار بينها ممرات واسعة للمشاة . ولا يظهر بعد ملامح لشكل الحياة بمساكنها وفراغاتها العامة والخدمات بها.
أما عزبة المطار وهي المنطقة المقابلة لأرض المطار والحديقة ومشروع الاسكان الرسمي، فهي مجتمع لارسمي لا يختلف كثيرًا عن بعض مناطق المنيرة الغربية، غير أن حال السكان المباني أكثر تواضعًا قليلًا . هو في النهاية مجتمع محروم من كثير من الخدمات والمرافق بني بالمجهودات الذاتية لسكانه. شوارعه ضيقة ومبانيه الخرسانية التي تركت دون تشطيب للواجهات حيث تعتبر تكلفة إضافية ورفاهية لا طوق للسكان بها في مثل هذه المناطق. لا يعرف السكان ماذا سيطولهم من نوافع مشروع التطوير الضخم بمنطقتهم ولكن ما يظهر لهم أنهم في الأغلب لن يطولوا شيئًا إلا ما قد يظهر من فرص عمل لبعضهم مع وجود مناطق ترفيهية في المنطقة، ولكن ما زال الكثيرون منهم يترقبون خائفين من أن يؤثر المشروع على حياتهم بالسلب ويقلبها رأسًا على عقب حين يكتمل وترتفع قيمة الأرض التي يسكنوها فيطردوا منها بشكل مباشر أو غير مباشر.
مشاكل امبابة
أزمات الإدارة المحلية
تتنوع مشاكل امبابة بتنوع مناطقها، وهو في حد ذاته مشكلة تواجه الكثير من مناطق مصر. فهذا الحيز الجغرافي الواسع الذي يقع تحت سلطة جهة واحدة للإدارة المحلية وهي حي شمال الجيزة يضم مناطق متباينة في مشكلاتها ومصالح سكانها، يصعب رصدها والتعامل معها بجدية ووضع خطط وموازنات تشاركية لتلبية احتياجاتها دون تقسيم الإدارة المحلية والموازنات المخصصة للحي إلى وحدات إدارية أصغر . لا يقتصر الأمر على وضع كل هذه المناطق في حي واحد وعدم وجود معايير واضحة لتقسيم المصروفات على الشياخات أو المناطق الأصغر أو آلية لمشاركة السكان أو سماع أصواتهم، بل أن مبنى رئاسة الحي الخاص بهم لا يقع في منطقتهم من الأصل، بل يقع خارج نطاق هذا الحي الواسع كله وداخل نطاق حي العجوزة ، مما يعطي للأهالي شعورًا بان هذا المبنى لا يخصهم ولايهتم بفتح أبوابه اليهم أو تلقي شكاواهم وطلباتهم على أقل تقدير.
بسؤال عينات من السكان في المناطق المختلفة يتفق الجميع على وجود مشكلات كثيرة تتعلق بسوء وفساد الإدارة المحلية و غياب الرقابة أو امكانية مساءلة ومحاسبة المسئولين المحليين من السكان أنفسهم. في بعض المناطق يأس السكان من أي تحرك حكومي لحل مشاكل لبنية التحتية المتهالكة، وخاصة شبكات الصرف الصحي حيث تعاني العديد من مناطق امبابة من أزمات الصرف الصحي التي قد تصل لحوادث انهيار عقارات في بعض المناطق ، ففي عام ٢٠١١ واجه أهالي شارع الإمام الغزالي بالمنيرة الغربية هبوط حاد في الأرض نتيجة انهيار شبكة الصرف الصحي الذي أثر على أساسات المنازل وأدى لانهيار العديد من العقارات وتصدع البعض الآخر، واجه أهالي الإمام الغزالي أزمتهم بتحركات احتجاجية أمام مبنى محافظة الجيزة والإعلام يطالبون بحماية حيواتهم من الخطر. صاحب مشكلة الإمام الغزالي نزول مهندسين من سكان امبابة بشكل تطوعي لدراسة الموقف وحددوا بؤر للمياه الجوفية يجب أن يتم عمل حقن خرساني لها وهو حل مكلف للغاية ولا يستطيع الأهالي تحمل تكلفته، وشبكات الصرف الصحي يجب تغيرها فهي لا تتحمل الكثافة السكانية الحالية فضلًا عن كونها قديمة ومتهالكة. بدرومات مساكن عزيز عزت لم تكن أقل سوءًا فقد اجتاحتها مياه الصرف الصحي غمرتها بشكل كامل مهددة سلامة المبنى الانشائية. وبحسب ما قاله أعضاء اللجنة الشعبية بامبابة تكررت المشكلة أيضا على مدار السنوات الماضية في مناطق المسابك وبني محمد والقومية والعروبة والمنيرة الشرقية.
تعاني امبابة كذلك على مستوى أغلب مناطقها من مشكلات خاصة بالقمامة وإدارة المخلفات حيث يضطر أغلب السكان لالقائها في الشارع لعدم وجود نظام نقل مخلفات فعال. تملأ القمامة الشوارع وتجلب الحشرات والقطط والكلاب وترعى بها الأغنام وطائر أبو قردان في وسط شوارع المدينة. اتفق سكان المناطق المختلفة على ضيقهم من مشكلة عدم جمع القمامة من الشوارع، ويرون أن حل هذه الأزمة يجب أن يكون على قمة مهام الحي وعلى أجندة أي مشروع تطوير يستهدف امبابة. حتى أن هذا المطلب قد وجد مكانًا له في خضم الاحتجاجات السياسية الكبرى في 2001 عندما نظم شباب اللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة في امبابة ومجموعة من السكان فاعلية احتجاجية للضغط على الأجهزة الحكومية لحل أزمة إدارة المخلفات تحت عنوان “ارمي زبالتك قدام المحافظة“، والتي واجهها المسئولون كما هو متوقع باتهامات التآمر، بدلًا من مناقشتهم والتفاوض بشأن ايجاد حلول عملية يتعاون فيها المواطنون مع أجهزة الدولة لحل الأزمات المتراكمة. اليوم ما زالت مشكلة القمامة بلا حل ، ففي منطقة المنيرة الغربية لا يجد المواطنون من يرفع قمامتهم من منازلهم واعتادوا حملها بأنفسهم إلى مواقع محددة في الشوارع الرئيسية كالبصراوي والأقصر، وتركها بوسط الشارع إلى أن تأتي سيارات الحي لرفعها، يقول أحد سكان المنيرة الغربية “الحكومة مش قادرة تتعامل مع الكثافة السكانية العالية، بييجوا كل كام يوم يشيلوا الزبالة المتكومة. المفروض ييجوا مرتين في اليوم.” بينما في منطقة عزبة الصعايدة والطناني يأتي “زبال” –قطاع غير رسمي- لحمل القمامة من المنازل في مقابل مبلغ مالي شهري متفق عليه، يقول بعض السكان أنه “بياخد مننا الزبالة ويرميها على الشارع برة ]يقصد شارع ترعة السواحل] وكوم الزبالة بتوع الحي بيجوا بالليل يشيلوه.” . في مناطق امبابة القديمة، أعلن الحي لأهالي المنطقة منذ أشهر البدأ في تنفيذ نظام جمع مخلفات جديد يعتمد على شراكة ناشئة بين الحي وشركات نظافة مصرية صغيرة –بعد فشل التعاقد مع الشركات الأجنبية- ولكن الأزمة لم تحل بعد، فالشركات تتقاضى أجرها من الحي ولا تظهر لخدمة الأهالي لعدم وجود علاقة مباشرة بينهم ولا آلية للتظلم. يدلنا هذا على تخبط نظام الإدارة المحلية الذي يعمل بمنهجية التجربة والخطأ ثم إعادة الخطأ دون التعلم لا من تجاربنا المحلية ولا من تجارب المدن المشابهة في العالم.
من أهم المشكلات أيضًا غياب المواصلات العامة عن امبابة وصعوبة التنقل داخل المنطقة حيث تتحرك أتوبيسات النقل العام في الشوارع الرئيسية على حدود امبابة ولا تصل لداخل المنطقة، بينما يخدم المنطقة بالكامل شبكة مواصلات خاصة أو لارسمية من الميكروباص والتوك توك وسيارات نقل، خطوط سيرها قصيرة للغاية، حتى أن الفرد قد يضطر للتنقل بين ثلاث أو أربع وسائل مواصلات مختلفة لينتقل من مكان لآخر داخل امبابة نفسها قبل أن يبدأ رحلة التنقل خارجها للذهاب لبقية مناطق القاهرة الكبرى. يذكر السكان وجود التروللي وهو أتوبيس يعمل بالكهرباء على شريط علوي معلق فوقه وله خط ثابت ينقل السكان ولكن تم الغاؤه منذ سنوات ، كما كانت الأتوبيسات العامة تصل لشارع ترعة السواحل ولكن تم تغيير خطوط سيرها وأصبحت تتحرك على طريق كورنيش النيل فقط. ليس هذا فحسب بل يشكو العديدين من الزحام و غياب التنظيم المروري في المنطقة، فباستثناء كورنيش النيل ومنشآته الهامة لا يقف أي عسكري مرور داخل امبابة لتنظيمها رغم اتساع مساحتها و يسبب ذلك انتشار الفوضى في الشوارع. مع ذلك يعتبر العديد من السكان أن امبابة منطقة مركزية قريبة في قلب القاهرة الكبرى تتوافر المواصلات اليها من مناطق كثيرة خارجها، كما يضعون أملًأ كبيرًا على خط المترو الجديد لتسهيل حياتهم اليومية وحراكهم داخل المدينة الكبرى.
بشكل عام يشكو سكان امبابة من نقص الخدمات العامة وعدم جودتها، فعلى سبيل المثال لا يوجد في امبابة المنشآت الصحية التي تغطي كل هذا العدد من السكان بأسعار ملائمة، كما يشكو مستشفى امبابة العام من الإهمال وسوء الخدمة الصحية المقدمة وكونه غير كافي لتغطية احتياجات السكان الصحية، غير ذلك فان المستشفيات المركزية على النيل لا تخدم بالأساس أهالي امبابة بل تعتبر قومية أي تخدم الجمهورية ككل. وقد وُعد السكان من قبل ببناء مبنى لاستقبال حالات الطوارئ ولم يتم تنفيذ المشروع لأسباب غير معروفة. يعاني سكان امبابة أيضًا من نقص الخدمات التعليمية فرغم كثرة المدارس بامبابة الا أنها لا زالت غير كافية للسكان والكثافة بها تصل لأكثر من 80 طفل في الفصل الواحد، كذلك تتركز المدارس في المناطق على الشريط الأقرب للكورنيش بينما كلما اقتربنا من الطريق الدائري يعاني السكان من عدم وجود مدارس على الإطلاق، ولا يقبل أبنائهم في المدارس في المناطق الأخرى في امبابة لأنها لا تضعهم كأولوية على قوائمها المزدحمة بعدد طلاب أكبر من قدرتها على الاستيعاب في أغلب الأحوال.
مسألة التصنيف والوصم
التصق وصف العشوائية أو اللارسمية بمنطقة امبابة منذ زمن في الكتب ووسائل الإعلام وحتى في وثائق عدة صادرة عن الحكومة المصرية والمنظمات الدولية الكبرى العاملة في مصر. وترتب على هذا التصنيف كثير من التحليلات والخطابات الاعلامية التي رسخت الوصم الاجتماعي لسكان المنطقة والاهمال الحكومي لاحتياجاتهم. ولم تؤثر هذه التصنيفات على سمعة المنطقة فحسب، بل ساهمت في ارباك الباحثين والمهتمين برصد وتحليل واقع العمران بشكل عام واعطائهم انطباعات خاطئة بالطبع ستبنى عليها تحليلات وتوصيات واستنتاجات لا قيمة لها. على سبيل المثال، نجد أن الباحث مايك ديفيز قد حدد امبابة كواحدة من أكبر “العشوائيات الكبرى” في العالم في عام 2005 (بالانجليزية: largest megaslums) (ديفيز2006) فهي حسب ديفيز تحتل مع عزبة الهجانة في القاهرة الترتيب السابع من حيث أكبر عدد سكان لمنطقة عشوائية في العالم بتعداد مليون نسمة. أصبحت امبابة هنا توضع في نفس التصنيف مع كيبيرا نيروبي كينيا، ودهارافي مومباي الهند، رغم الفارق الضخم في شكل وحالة العمران وطبيعة المنشآت والوصول للخدمات. (خليفة 2011) كذلك وصف المنطقة بمجملها بأنها لارسمية ليس دقيقًا، فالكثير من سكان يمتلكون بالفعل وثائق تثبت ملكيتهم لمساكنهم وجميعهم تقريبًا متصلون بشبكات المرافق العامة، ويدفعون فواتير الماء والكهرباء والغاز الطبيعي بشكل دوري. وعلى أي حال لا يوجد تعريف في القانون المصري للعشوائيات، التصنيفات المحددة رسميًا هي ’’المناطق غير المخططة‘‘ و’’المناطق غير الآمنة‘‘، فهل تصنف إمبابة بمجملها رسميًا كمنطقة غير مخططة أو غير آمنة؟ في الحقيقة لا.
في تقرير حصر وتصنيف المناطق غير الآمنة بمحافظة الجيزة، الصادر عن صندوق تطوير المناطق العشوائية9 في 2013، تم تصنيف ثلاث مناطق فقط داخل إمبابة كمناطق غير آمنة، وهي مناطق جزيرة إمبابة وحكر توكل عشران وميت كردك، جميعها أملاك خاصة وجميعها تمثل القرى التاريخية في قلب إمبابة. وجميعها أيضًا صنفه الصندوق تحت “خطورة من الدرجة الثانية” وهي وفقًا لمعايير الصندوق المناطق التي تتكون من مساكن تم بناؤها بفضلات مواد البناء أو على تربة غير ملائمة للبناء أو المناطق ذات المنشآت المتهدمة والمتصدعة. ولكننا إذا دققنا النظر في مناطق امبابة القديمة سنجد أن أغلب المباني القديمة المبنية من الطين قد هدمت وبنيت في أماكنها مباني خرسانية وأن نسبة المباني المتهدمة بها قليلة. بالطبع هناك عدة مشاكل في هذه المنماطق عددناها من قبل ولكن معايير التصنيف ما زالت إشكالية، إذ كيف يمكن أن تصنف منطقة بأكملها كمنطقة غير آمنة وليس كل مبنى أو مجموعة مباني متلاصقة. يخشى سكان هذه المناطق من الإخلاء القسري ويتوجسون من وجود أي غريب يقوم بالبحث حولهم ويسألوه إن كان هناك مشروع للتطوير وإن كانوا سيطردون من مساكنهم التي توارثوها عبر الأجيال. يتشكك البعض منهم في نية الحكومة في الحصول على الأرض لكونها قريبة من الكورنيش وسترتفع قيمتها مع تطوير شريط الكورنيش واستغلاله بشكل استثماري. بينما لا يرون أن هناك سعي لتحسين شبكات الصرف الصحي أو رصف الشوارع وإنارتها على سبيل المثال وهي احتياجات أساسية تفتقر اليها المنطقة.
الوثيقة الرسمية الأخرى التي تصنف مناطق امبابة، هي دراسةالهيئة العامة للتخطيط العمراني10 والتي تفيدنا بيانات إمبابة بها ان الإسكان المخطط يمثل نسبة 90,5 % من اسكان امبابة، و لا تملك امبابة في أراضيها مناطق غير مخططة بتعريف الحكومة المصرية سوى 175 فدان فقط لا غير من إجمالي 3012 فدان، منها 13 فدان فقط مناطق غير آمنة. وإذا دققنا في مواقع المناطق على الخريطة كما حددتها الدراسة، سنجد أن هذه المناطق غير المخططة وغير الآمنة تتركز جميعًا في امبابة القديمة والنطاق المحيط بها، بينما مناطق المنيرة الشرقية والمنيرة الغربية وعزبة المطار وغيرها من المناطق التي توسع البناء بها في الثمانينيات والتسعينيات بشكل غير مخطط -وفي كثير من الأحيان غير رسمي- لا يشير لها التقرير كمناطق غير مخططة. تثير هذه البيانات والخرائط المتوفرة اسئلة كثيرة حول آلية تصنيف المناطق ومعايير استبعاد مناطق وضم أخرى في بيان كهذا تطلقه الجهة الحكومية المركزية المسئولة عن وضع رؤية تخطيطية استراتيجية للمنطقة.
أمر آخر بالغ الأهمية هو أن هذه التصنيفات في الحقيقة لا تخبرنا شيء عن واقع المنطقة العمراني واحتياجات سكانها، فهذه التصنيفات لا تخبرنا إذا كانت المنطقة تحتاج إلى المدارس أم لا ، أو إذا كان سكان المنطقة من الفقراء أم من ميسوري الحال، والأمثلة لا تنتهي فإذا نظرنا إلى مساكن عزيز عزت وهي مساكن حكومية التخطيط والبناء سنجد أن حالتها متدهورة ويفتقد سكانها الأمان أكثر من مناطق أخرى عديدة غير 11مخططة بإمبابة. فتقرير الهيئة العامة للتخطيط لا يضيف لمعرفتنا أو لمعرفة صاحب القرار معلومة ملهمة وفارقة حين يخبره أن المنطقة الملونة بالأزرق بنيت بدون تخطيط من الدولة شأنها شأن 75% من مناطق مصر. بينما يعطينا التقرير انطباعًا أن ملامح الفقر العمراني عامة وتشمل مناطق سكن أغلب سكان امبابة، وهو ما نحتاج أن نعرفه بالفعل بعيدا عن التصنيفات، كأن نعرف أن نصيب الفرد في امبابة من المساحات الخضراء لا يتعدى 0,21 م2 فيدلنال ذلك على أن أغلب السكان محرومين تقريبًا من المساحات الخضراء و الأشجار والترفيه والرياضات المرتبطة بوجودهم. فيصبح من الأهمية انشاء حديقة كحديقة الجيزة في مكان كهذا ، وعدة حدائق أخرى كلما سنحت الفرصة بأرض فضاء هنا أو هناك.
تطوير امبابة
ما بين 2022 و2032 ستحظى امبابة بحديقة مطلة على النيل في إطار تطوير كامل لشريط الكورنيش سيتيح استغلاله بمنطق استثماري لأبنية فندقية وإدارية، ستحظى أيضًا بمنطقة راقية متكاملة على أرض مطار امبابة، وستشق شوارع واسعة تمثل محاور مرورية جديدة داخل المنطقة لتسهيل الحراك. وسيتم “التعامل” مع المناطق غير الآمنة، هكذا تخبرنا استراتيجية التنمية العمرانية للقاهرة الكبرى. يلخص بعض المسئولين رؤية الدولة للتطوير في أن امبابة ستتحول قريبًا إلى “مهندسين جديدة” كما جاء بتصريح رئيس الجهاز المسئول عن تنفيذ المشروع، اللواء محمود مغاوري رئيس الجهاز المركزي للتعمير.
إذن فتطوير امبابة ليس مجرد إمكانية يطرحها فريق تضامن، بل هو واقع بدأ تنفيذه بالفعل منذ سنوات قليلة ومازال مستمرًا تحت مسمى “مشروع تطوير قطاع شمال الجيزة” الذ ي يضم في خطته تطوير إمبابة والوراق، ويعد من أكبر مشروعات التطوير التي تتبناها الحكومة المصرية مؤخرًا بما يحظاه من اهتمام اجهزة الحكومة و قدر ضخم من ميزانيتها. استمر العمل بالمشروع رغم كل ما حدث خلال السنوات السابقة من التغيرات والأحداث سياسية التي أدت لتوقف وإلغاء العديد من المشروعات وتعديل أخرى. فمنذ بداية الحديث عن المشروع في 2003، ومرورًا بنقطة الانطلاق الحقيقية للمشروع عند صدور قرار رئيس الوزراء بشأنه في 2008 وانجاز مرحتله التنفيذية الأولى بافتتاح بعض مكوناته خلال 2013 و2014، وحتى صدور قرار رئيس الوزراء مؤخرًا بشأن مرحلة جديدة من المشروع في ابريل 2015 ، نجد قدرًا كبيرًا من التماسك في رؤية المشروع والتنسيق بين المؤسسات الحكومية وبعضها لاخراجه بشكل مقارب جدًا لما تخيله صناع القرار من حكوميين ومخططين عمرانيين منذ البداية. في الفقرات القادمة سنشرح كيف بدأ المشروع الهام وما هي مكوناته الأساسية وما مدى استجابته لاحتياجات السكان وطموحاتهم وكيف سيؤثر على مستقبلهم وما هي امكانات التطوير التي يطرحها السكان لما هو أبعد من هذا المشروع.
بدأ التفكير في تطوير امبابة مع اتخاذ قرار حكومي بالاستفادة من أرض مطار امبابة التي أصبحت خالية بعد قرار وقف الأنشطة الملاحية نهائيًا في المطار ونقل المطار إلى مدينة السادس من أكتوبر، ذلك المطار الذي كان قد أُنشئ في الأربعينيات من القرن الماضي لأغراض تدريب الطيران المدني عندما كانت أغلب المنطقة المحيطة أراضي زراعية واسعة سماؤها مفتوحة، اما بعد الزحف الحضري وارتفاع المباني السكنية في الأراض المتاخمة لأرض المطار وتكرر الحوادث التي راح ضحيتها بعض سكان المنطقة منذ الثمانينيات وحتى أوائل الألفية أصبح من الحتمي تبديل النشاط على هذه البقعة التي تحتل مساحة 209 فدان من أراضي امبابة تشمل ساحة الطيران ومباني الأكادمية المصرية لعلوم الطيران التي تم نقلها أيضًا إلى مقرٍ آخر.
تم تعيين الهيئة العامة للتخطيط العمراني التابعة لوزارة الإسكان والمرافق لدراسة أفضل استخدام لأرض مطار امبابة، وطُرحت عدة رؤى لإعادة تخطيطها؛ إحداها تمثلت في مقترح بناء مجمع مدارس والذي تم استبعاده لما سيتسبب به من أزمة مرورية وتكدس للخدمة في مكان واحد. والثانية تمثلت في مقترح انشاء حديقة عامة كبرى على غرار حديقة الأزهر بالقاهرة نظرًا للفقر الشديد في المساحات الخضراء في المنطقة، وتم استبعاده كذلك لأسباب تتعلق بالجدوى الاقتصادية ولكونه لا يستجيب للاحتياج الماس إلى الخدمات العامة الأساسية لأهالي المنطقة. في النهاية استقر رأي صناع القرار على تصميم مشروع تطوير متكامل لمنطقة امبابة بأكملها مرحلته الأولى إعادة استخدام أرض مطار امبابة ومرحلته الثانية تطوير باقي مناطق امبابة من خلال تطوير شبكة الشوارع الرئيسية وخلق محاور مرورية جديدة وإمداد المنطقة بالخدمات العامة االلازمة.
1.أرض مطار امبابة : ما يمكن أن تتيحه قطعة أرض فضاء شاسعة في قلب العمران
إذن كان خلو أرض مطار امبابة والرغبة في استغلالها هما المحرك الأساسي لمشروع التطوير. مئتان وتسع فدادين تقرر تحويلها إلى مركز حضري جديد. مدينة متكاملة بمنشآت خدمية واستثمارية مختلفة وحيوية لخدمة سكانها وسكان المناطق المجاورة. خطط هذا المركز الحضري الجديد من قبل الهيئة العامة للتخطيط ومستشارين تم اختيارهم بمعرفة نفس الهيئة، وأسند تنفيذه في 2009 إلى الجهاز المركزي للتعمير -التابع بدوره لوزارة الاسكان.
تضم هذه المدينة:
حديقة عامة تم الانتهاء منها وافتتاتحها في يناير 2014 باسم “حديقة الجيزة” التي يتم تقديمها باعتبارها “حديقة أزهر” جديدة، بنيت بتمويل حكومي ثم تم طرحها للشركات الخاصة لتتنافس على إدارتها بنظام حق الانتفاع.
يضم أيضًا مركز خدمات عامة متنوع جاري تنفيذه، يشمل منشآت تعليمية وإدارية ومساحات مفتوحة ومراكز شباب من خلال إعادة استخدام المباني الخاصة بأكادمية الطيران و بناء مبان جديدة لهذا الغرض، جاري حاليًا بناء عدة منشآت بداخل هذا المركز الخدمي.
والمنطقة السكنية تحتوي على حوالي 3500 وحدة سكنية بمساحة 70-75 م2 للوحدة، المعلن من عدة مصادر حكومية أنها ستخصص لإعادة تسكين أهالي امبابة ممن سيتم إخلائهم خلال مشروع التطوير. وتحتوى أيضًا على محلات تجارية ومساحات لركن السيارات ومساحات ومنشآت عامة. تم الانتهاء تقريبًا من أعمال التشييد في منطقة المساكن بينما لم تُسلم أي وحدات بعد.
شمل التطوير أيضًا فتح محور مروري يمر من امبابة ويربط مناطق وسط البلد والزمالك والمهندسين بالطريق الدائري حول القاهرة الكبرى، من خلال امتداد شارع أحمد عرابي – الشارع الرئيسي في منطقة المهندسين المرتبط بكوبري 15 مايو الواصل لوسط البلد. وقد تم الانتهاء من هذا المحور، محور أحمد عرابي،بتكلفة 320 مليون جنيه وافتتاحه في أكتوبر 2013.
المكون الأخير لمشروع أرض مطار امبابة هو المنطقة الاستثمارية وهي المنطقة المتاخمة للمهندسين -ولذا ترتفع قيمتها العقارية. لم يبدأ العمل في هذا المكون بعد ولا نملك صورة واضحة لما سيكون عليه في المستقبل، ولكن تدلنا تصريحات المسئولين أن المشروع استثماري يهدف إلى جذب رؤوس الأموال بالأساس لتغطية تكلفة بقية المشروع، و بأنشطة مختلفة منها التجاري والترفيهي كالمولات وصالات السنيما الكبرى ومنهاالإداري والصحي والتعليمي، جميعها بمنطق استثماري لخدمة طبقات اجتماعية اعلى بالتأكيد من سكان امبابة الحاليين.
2.تطوير بقية مناطق امبابة والوراق المشكلة لقطاع شمال الجيزة في المخطط الحكومي
بجانب استغلال الفرصة التي أتيحت للحكومة المصرية باستغلال أرض فضاء شاسعة في قلب المدينة ملاصقة لمنطقة أغنى وأغلى كالمهندسين وتمتلك منفذًا خاصًا على الطريق الدائري يربطها بالمجتمعات العمرانية الراقية على أطراف القاهرة بسهولة، عملت الهيئة العامة للتخطيط على تطوير منطقة امبابة من خلال العمل على محورين:
الأول خدمي؛ بإمداد سكان المنطقة بالخدمات والمرافق الذين هم في أمس الاحتياج لها من خلال 18 مركز خدمي داخل المدينة، يوزع عليها عددًا من المدارس والحدائق عامة ومراكز الشباب والوحدات الصحية ومستشفى، ومركز ثقافي ونجدة ومكتب بريد وجراجات للسيارات. ويعتمد المشروع على استغلال الأراضي الفضاء الخالية داخل عمران امبابة –أو ما يسمى بالجيوب العمرانية- لتوفير الخدمات والمرافق الأساسية لسكان المنطقة.
من مميزات هذا المدخل تقليل الهدم المطلوب للمساكن التي تشغل أغلب مساحات امبابة لتوفير الخدمات العامة، وتوزيع الخدمات جغرافيا بشكل أفضل لخدمة عدد أكبر من السكان وتقليل الأثر السلبي على ظروف المرور والبنية التحتية والبيئة. غير أن استغلال الأراضي الفضاء سيجمد الكثافة السكانية الحالية وسيمنع بناء المزيد من المساكن التي ستمثل عبء أكبر على المنطقة المتخمة من الأساس. علما بأن أغلب هذه الأراضي ملكية خاصة وهذا سيتطلب من الحكومة المصرية نزع ملكيتها وتعويض مالكيها، ويجب أن يؤخذ في الاعتبار حقيقة أن المشروع قد وضع في 2007 -2008 فان الكثير من الأراضي الخالية قد تم البناء عليها في الفترة السابقة (بطرق قانونية أو غير قانونية)، بينما تظل بعض الأراض خالية وتنتظر سرعة استغلالها.
والثاني مروري؛ بتحسين الحراك والنقل العام داخل المنطقة وتحسين محاور الربط بينها وبين باقي مناطق القاهرة الكبرى، وقد بدأ تنفيذ هذا المكون من مشروع التطوير مع بداية العام الحالي 2015، استفاد المشروع بشكل أساسي من وصول الخط الثالث لمترو الأنفاق لمنطقة امبابة واعتبره أحد مكوناته للتطوير، وسيعمل مترو الأنفاق على الوصول إلى مناطق مختلفة عديدة في امبابة من خلال ست محطات تخدم مناطق امبابة المختلفة وهي (الكيت كات – السودان – امبابة – البوهي – القومية العربية – الطريق الدائري )، بالإضافة إلى محور أحمد عرابي الموصل للطريق الدائري.
وأخيرًا، يضم هذا المحور المخطط الأكثر تحديًا وتأثيرًا على شكل العمران في قلب امبابة –وبالطبع الأكثر إثارة للجدل، هو خلق شبكة طرق جديدة داخل نسيج امبابة بأكملها، عن طريق توسعة و”تطوير” الشوارع وهدم المباني السكنية على جانبي بعض الشوارع ونقل الأسر للمساكن البديلة بأرض مطار امبابة.
أين يقف المشروع الآن؟
بدأت هذا العام المرحلة الأصعب من المشروع بصدور قرار رئيس مجلس الوزراء الأسبق ابراهيم محلب ونشره في الجريدة الرسمية في ابريل 2015، للإعلان عن المرحلة الأولى من توسعة الشوارع التي تضمنت شوارع المطار،والمطار–عزبة المطار، وامتداد الوحدة، والنصر، ومحمد نجيب، بتوسعات تصل إلى 17 مترًا في عرض الشارع –أي ما سيتطلب إزالة مبنيان أو ثلاث في بعض الشوارع- ، وفتح شارع جديد بمنطقة عزبة المطار. لم يبدأ التنفيذ في أيها بعد، ومخطط أن تتبع هذه المرحلة بمراحل أخرى بقائمة شوارع جديدة.
في يناير من العام الحالي أعلنت محافظة الجيزةعن تشكيل وحدة داخل المحافظة لادارة مشروع التطوير، كما صرح المحافظ الحالي خالد العادلي أن مشروع تطوير امبابة هو الأهم في الجيزة والأكثر استفادة من التمويل الأوروبي.
تمول المرحلة الحالية من المشروع بإجمالي100 مليون يورو من 2014 إلى 2019 من مبادرة تمويل المشاريع الحضرية UPFI، التي تدار من خلال الوكالة الفرنسية للتنمية AFD والبنك الأوروبي للاستثمار، بالاتصال مع المفوضية الأوروبية، وتحت مظلة الاتحاد من أجل المتوسط. وتحظى بتمويل من عدة مؤسسات مالية دولية، منها البنك الألماني ، والصندوق السيادي الفرنسي Caisse des Dépôts، والبنك الأوروبي للبناء والتنمية وغيرهم. تتحمل مبادرة تمويل المشاريع الحضرية 80% من التكلفة وتتحمل محافظة الجيزة 20 % كشريك أساسي في التمويل. تدعم المشروع كذك عدة جهات داخل مصر بجانب وزارة الاسكان بهيئاتها ومحافظة الجيزة، منها جهة أكاديمية وهي قسم العمارة بجامعة القاهرة، ومنظمات دولية عاملة بمصر وهي الوكالة الالمانية للتعاون الدولي GIZ، والأمم المتحدة للمستوطنات البشرية UNHabitat ، والتي صنفت المشروع كممارسات فضلى في التطوير الحضري.
وماذا عن التشاركية؟
يبدو مشروع التطوير مثاليًا من وجهة نظر المختصين ومن وجهات نظر عدة، فالمشروع ككل يهدف إلى تحسين جودة الحياة لأغلب سكان امبابة بتوفير احتياجهم الماس للخدمات الترفيهية والتعليمية والصحية الملائمة –وهذا إن تم تنفيذها كما هو مخطط-، وشبكة طرق أفضل وأكثر فاعلية ومواصلات عامة هامة كمترو الأنفاق. إلا أن المشروع يواجه عدة إشكاليات وتحديات لا يمكننا إغفالها تتعلق بالأساس بقضية التشاركية وآثاره الاجتماعية والاقتصادية على حياة السكان. فرغم الدعم الذي حاز عليه المشروع من مؤسسات دولية عدة تعتبر التشاركية أحد أولويات برامجها وتروج لآليات التخطيط بالمشاركة وحماية حقوق الانسان، ورغم حديث الحكومة المصرية عن أهمية مشاركة الأهالي ودعمهم للمشروع، إلا أنه لم تتوافر عن المشروع في السنوات الماضية سوى القليل من المعلومات، حتى منطقة عزبة المطار الملاصقة لمشروع أرض المطار لا يمتلكون أي معلومات عن المشروع رغم استمرار أعمال البناء بجانبهم كل هذه السنين. وقد عبّر أهالي المنطقة عبر العديد من وسائل الإعلام عن تخوفاتهم واستيائهم من التعتيم وسرية الازالات. وقد ظهر منذ بداية اعلان المشروع والبدأ في تنفيذه ما يمكننا وصفه بجبهة معارضة للمشروع من مجموعة من سكان امبابة من القيادات المجتمعية وذوي التوجهات اليسارية، تمثلت في كيان ’’اللجنة الشعبية للدفاع عن أرض مطار امبابة‘‘ التي أكدت في بيانها التأسيسي على مطلبين هامين متعلقين بحقوق السكان الا وهما الحق في المعلومات والمشاركة المجتمعية ورفض الإخلاء القسري. لم يتوقف نشاط اللجنة على إصدار البيانات الصحفية ومحاولة التواصل مع المسئولين ولكن امتد لاتخاذ إجراء قانوني كما ذكر في بيان لها “قامت اللجنة بتاريخ 31/7/2008 بإنذار رسمى على يد محضر لمحافظ الجيزة بصفته، لضرورة نشر وعرض تفاصيل مشروع تطوير منطقة شمال الجيزة.”
هنالك على الاقل فئتين من اصحاب الملكية الخاصة المصونة بحكم الدستور رأت الدولة ان تنزع ملكيتهم دون تشاور، فئة ملاك الأراض الفضاء الخالية التي تقرر استغلالها في انشاء مراكز خدمية. والفئة الأخرى الاكبر عددا والأكثر تأثرًا شاغلي المباني على جانبي الشوارع التي اعتبرت توسعتها من أعمال المنفعة، وهم السكان وأصحاب المحال التجارية والورش الصغيرة التي ارتأت الدولة إخلائهم من منازلهم وهدمها دون مشاورتهم أو التفاوض معهم، بل ودون حصرهم حصرًا دقيقًا بمشاركتهم ومشاركة المجتمع المدني لضمان ملائمة معايير الحصر وعدالة التعويضات وجبر الضرر بشكل حقيقي. ولا نملك في تقدير هذه الفئة أكثر من تقدير وزير الاسكان مصطفى مدبولي الذي أعلنه للصحافة بأنها ستشمل 2500 وحدة. كمرحلة أولى فقط من المشروع سيتبعها مراحل أخرى بشوارع أخرى تضم مساكن أكثر سيتم هدمها. بينما مساكن مطار امبابة تضم 3500 وحدة سكنية إجمالًا. يتشكك العديد من سكان المنطقة أنها ستوزع بشكل عادل على كل السكان المتضريين من هدم منازلهم. ولا يخبرنا أحد من الحكوميين أي معلومة بخصوص طبيعة المحلات التجارية في مساكن أرض المطار، وهل سيتم تخصيصها جميعًا للمضارين من الإزالات أم لغيرهم وهل عددها كافي على أي حال، علما بأن الشوارع التي سيتم توسعتها في معظمها شوارع تجارية ويوجد بها محل أو أكثر أسفل كل مبنى سكني. وإلى يومنا لم يتم إخطار الشاغلين في المباني التي ينوى إزالتها لتوسعة الشوارع أنه سيتم إزالة مبانيهم، ورغم أن الخرائط قد نشرت بالجريدة الرسمية إلا أن الأغلبية لا يعرفون شيئًا عن الجريدة ولا يعرفون كيف يتحصلون عليها، فهي ليست وسيلة اعلام واسعة الانتشار في النهاية أكثر من كونها وثيقة رسمية لم تبذل الحكومة مجهودا في تعريف المواطنين بها وتوعيتهم بأهميتها.
على الجهة الأخرى يطرح أحيانًا ممثلي الحكومة والمخططون أن الإعلان عن مشروع التطوير يعني كشف معلومات من شأنها تشجيع المواطنين على استغلال الموقف ببناء أدوار ووحدات سكنية جديدة بغرض الحصول على تعويضات أكبر، فالعلاقة بين الحكومة المصرية والمواطنين مبنية على ممارسات التعتيم والمراوغة واستغلال الثغرات للتحصّل على مكاسب، أكثر منها علاقة مواطنة وحقوق وممارسات ديموقراطية. يؤمن بعض من يطرحون هذا الرأي بأن الحق في المشاركة ومن فبله الحق في المعلومات عن مصير المنطقة حقوق أساسية للسكان، ولكن يرون أن في هذه الحالة يجب أن يتم حصر الاهالي الذين تم التفاوض معهم على النقل والمشاورة بشأن التعويض العادل، وإعتبار الحصر نهائي قبل البدأ في التنفيذ – مع وضع هامش متواضع – يستلزم ذلك أن تكون أجهزة الدولة المحلية قوية و قادرة على فرض القانون، وتتمتع بأعلى قدر من الشفافية وأقل قدر من الفساد، كما يستلزم أيضًا سرعة التنفيذ، وهو ما يخالف الواقع في مصر. فقد تم الإعلان عن المشروع منذ 2007 وها نحن في 2015 ولم يتم تنفيذ إخلاءات بعد. في خلال هذه السنوات الثمان تم بناء العديد من الطوابق وهدم وإعادة بناء مباني سكنية كاملة. المشكلة في هذا الطرح أنه يحمل السكان مشكلات الإدارة المحلية ويدعي “أن الحل الوحيد هو استئثار الحكومة بالقرار والثقة بما ستقدمه، رغم اعترافه بفساد وضعف امكانيات الأجهزة المحلية المنفذة وتجاهله للعديد من الحالات التي انتهكت بها حقوق السكان في مناطق تم تنميتها بنفس الطريقة، وحصل على الشقق الجديدة من لا يستحقوها بالرشاوى والواسطة والمحسوبية. لذا يستلزم الأمر أن نضع الأمور في نصابها، فالمسئولية هنا تقع على عاتق الدولة، وضعف أجهزتها لا يبرر انتهاك حقوق السكان بأي حال. وهناك العديد من التجارب الدولية التي تعاملت مع مشكلات شبيهة بقدر أكبر من الاحترام للحقوق وعالجتها بحلول عدة ينبغي أن نلتفت لها ونتعلم منها.
من الآثار السلبية المتوقعة كذلك، أن يرفع مشروع تطوير مطار امبابة من القيمة العقارية للمنطقة المحيطة بأكملها ويغير ملامح الحياة بها فتصبح المنطقة في المستقبل طاردة وغير مناسبة لسكانها الفقراء ومتوسطي الدخل وجاذبة لطبقات أرقى طبقيًا وأغنى ماديًا. هذا ما نستدله من عبارات مثل “المهندسين الجديدة” وتصريحات المسئولين أن المشروع استثماري يهدف إلى جذب رؤوس الأموال بالأساس لتغطية تكلفة بقية المشروع، من خلال الاستثمار التجاري والترفيهي كالمولات وصالات السنيما الكبرى، والإداري والصحي والتعليمي أيضًا، جميعها بمنطق استثماري لخدمة طبقات اجتماعية اعلى بالتأكيد من السكان الحاليين الذين أعربوا بالفعل عن تخوفاتهم من أن تصبح قيمة الأرض العقارية أكبر من أن تحملهم عليها. أحد سكان مدينة الأمل المقابلة لأرض المطار يخبرنا عما جد على منطقته منذ انشاء المساكن بجانبهم، فقد ظهر على ناصية الشارع الذي يسكنه برجًا سكنيًا يبلغ سعر شقة بمساحة 90 متر به ما يزيد عن ربع مليون جنيه مصري، ما يمثل ارتفاعًا كبيرًا في قيمة العقارات في المنطقة عما سبق. يعتقد أنه عند اكتمال المشروع وبدأ التسكين به وانشاء المنطقة الخدمية ذات المولات التجارية والسينيمات ستزيد هذه الأبراج وترتفع القيمة العقارية للمنطقة بأكملها. شاركنا مخاوفه كونه ينتمي لفئة المستأجرين وهي الحلقة الأضعف دائمًا، فقد بدأ بالفعل يواجه ضغطًا من مالك منزله لترك شقته في مقابل مبلغًا من المال، ليس وحده بل أغلب سكان عمارته وشارعه يواجهون نفس الضوط ولكن ليس بالضراوة المتوقعة حين يكتمل المشروع ويصبح هم الملاك الأول هو بناء أدوار أعلى وبيع الشقق أو تأجيرها بمبالغ أكبر. ويرى أن مركز خدمي بمستوى ملائم للسكان -وليس على غرار المستشفيات والمدارس الدولية الاستثمارية- أجدى لهم وأكثر ملائمة وأقل عنفًا.
الخلاصة
تعكس امبابة قصة مناطق عديدة بالقاهرة الكبرى وخاصة مناطق الجيزة التي قررت الدولة حضرنتها دون تخطيط كامل، ثم انزعجت من توسع الحضر بها بشكل خارج عن سيطرتها. ترينا امبابة تراكم كل هذه الطبقات من الريف والحضر والرسمي واللارسمي ومخططات الدولة المتفرقة العشوائية والخطاب غير المسئول وأزمات الإدارة وغيرها في منطقة واحدة. نرى بها بوضوح أثر تحول السياسات على المجتمع وقيمه وأنشطته الحياتية اليومية؛ كيف نشأ مجتمع ريفي بشكل عفوي بجانب النهر وعمل بالزراعة لقرون ثم قررت الدولة استبداله بمجتمع صناعي أنشأ كذلك حول منشآت للعمل والانتاج ووسائل للمواصلات-الكوبري والترولي ومحطة القطارات. ثم مع النمو والتوسع في المدينة ونقل الصناعات أو اغلاقها والجور على الزراعات، حُرم كلا المجتمعين من أدوات انتاجهم وتغيرت أنشطتهم وظروفهم وبالتبعية عمرانهم. فكما انتهى تماما ارث امبابة الزراعي، لم يتبقى من إرثها الصناعي الذي شكلها وشكل تركيبتها السكانية الحضرية الأولى الا منشآت نادرة. واليوم هي منطقة خليط من بقايا هذا وذاك وطبقات أخرى نشأت بسمت العاصمة الحالي، متنوعة، باحثة عن أبواب رزق أوسع تعتمد على مجهوداتها الذاتية أكثر مما تعول على الدولة في بناء مساكنها وإدارة حياتها.
ليس هذا هو الدرس الوحيد الذي نتعلمه من دراسة امبابة، بل يتجلى لنا من دراسة وضعها وتطورها مدى تضليل المسميات والتصنيفات، مثل “المناطق العشوائية” و”المناطق اللارسمية” وغيرها، التي توضع على مناطق بمجملها دون تعريف واضح حتى وسط المتخصصين في شئون العمران. التصنيفات التي يبنى عليها الكثير من التحليلات والدراسات والخطط بينما هي في الحقيقة لا تخبرنا شيئًا عن طبيعة المنطقة واحتياجات سكانها، فالمناطق المحرومة المتدهورة تظل كذلك لفقر سكانها وعدم قدرتهم على صيانتها ولإهمال الأجهزة المحلية لها، سواء كانت هذه المناطق مخططة أو غير مخططة. وتطوير مناطق شبيهة يستلزم بالضرورة تجاوز هذه المسميات إلى ما هو أبعد من احتياجات وفرص التطوير الحقيقية.
تثير حالة امبابة كذلك العديد من التساؤلات والجدالات الهامة لنقد ومراجعة آليات التخطيط الفوقية وإدارة مشاريع التطوير بشكل عام. لا ينكر أحدًا أهمية توفير مراكز خدمية المنطقة في أمس الحاجة إليها، أن توسعة الشوارع قد يكون إجراء جيد لتسهيل الحراك داخل المدينة وفي الغالب ما يعود بالنفع على المناطق السكنية المزدحمة بالسكان وأنشطتهم، ولكن ما يجب مراجعته هو آلية اتخاذ القرار وتطبيقه. فإجراء كهذا من شأنه أن يقلب حياة سكان منطقة بأكملها. والمستقر في المواثيق الدولية أن هنالك معايير للإخلاء بغرض التنمية، أولها أن يكون طوعًا –أي بمشاورة الأهالي وموافقتهم- وأن يتم حساب الأضرار الواقعة على الافراد وتعويضهم عنها بشكل عادل ومرضي لهم، وأن تتوافر جميع الضمانات الممكنة بخصوص هذه التعويضات وتوفيرها للاهالي وإعادة تسكينهم قبل البدأ في عمليات الهدم لضمان ألا يتكبدوا المزيد من الخسائر أثناء عملية الإخلاء أو يعرضوا لخطر التشريد تحت أي ظروف. فكثير ما يثير المسئولون والمخططون العمرانيون سؤال المصلحة العامة، ويدعون أن حل مشكلات منطقة متخمة بالسكان كامبابة لا يمكن أن يتم دون أثر سلبي على البعض. ما نطرحه ان توفير حقوق الخاصة لا يتعارض مع المصلحة العامة، بل يكاد أن يكون شرطًا لتحققها إذا كنا ننشد الاستدامة والحلول التنموية المتكاملة، فعلينا تخطي هذه الثنائية إلى فهم نماذج أشمل تستوعب حقوق الخاصة والعامة معًا. المصلحة العامة هي مصلحة أهالي امبابة أولًا، والتطوير يجب أن يكون متمحورًا حول حيواتهم واحتياجاتهم، وليس تطويرًا للشوارع والمنشآت فقط. فحالة ارض مطار امبابة هنا حالة صارخة على التطوير بمعزل عن سكان المناطق المحيطة وتجاهل أثر المشروع على حياتهم. فكما لم تشمل مخططات مدن عمال الخمسينيات القرى والمساكن اللارسمية المحيطة، لم يشمل مخطط ارض المطار دراسة أثر المشروع على عزبة المطار ومدينة الأمل والبراجيل والمنيرة الغربية وجميع المناطق المحيطة، مما سيخلق بالتأكيد مزيدًا من العشوائية في هذه المناطق.
في النهاية، ينشد من تحدثنا معهم من سكان مناطق امبابة المختلفة من الالتفات لاحتياجاتهم الملحة في عمران نظيف وآمن. يرون أن أهم ما يجب أن يغطيه أي مشروع تطوير في امبابة هو توفير الخدمات والمرافق الأساسية لهم، وحل مشكلات إدارة المخلفات الصلبة–الزبالة التي تمثل عبئاً على الجميع، وتنظيف الشوارع ورصفها وإنارتها وتوفير مساحات خضراء كمتنفس لهم، وبالتأكيد عدم انتزاع منتزهاتهم على كورنيش النيل ببيعها لمطاعم وفنادق فاخرة، لا يريدون مدارس ومستشفيات ونوادي خمس نجوم لن يستطيعوا دخولها ابدًا. هم فقط يريدون منطقتهم وخدماتها ومتنزهاتها في متناول ايديهم هم لا أناس آخرون، ولكن يريدونها أفضل وأكثر احترامًا لآدميتهم.
بيات ودينيس، 2000
Asef Bayat and Eric Denis, “Who is afraid of ashwaiyyat? – Urban change and politics in Egypt”, Environment &Urbanization Vol. 12 No 2 October 2000
ديفيز ، 2006
Mike Davis, Planet of Slums, 2006
أبو اللغد، 1971
1971 Cairo 1001 Years of the City victorious, Janet L. Abu-Lughod,
مكفرسون ، 1941
The Moulids of Egypt, J. W. Mcpherson. 1941
بنين و لوكمان ، 1998
Workers on the Nile: Nationalism, communism, Islam, and the Egyptian working class, 1882-1954 , Joel Beinin and Zachary Lockman. 1998
بودنستاين ، 2010
Industrial architecture in Egypt from Muhammad ‘Ali to Sadat: A field survey , Ralph Bodenstein, Workplaces: The Transformation of places of production ( Industralization and built environment in the Islamic wolrd) , edited by Mohammad al-Asad , 2010
راينولدز، 2012
Nancy Reynolds, A City Consumed: Urban Commerce, the Cairo Fire, and the Politics of Decolonization in Egypt , 2012
فوليه، 2001
Mercedes Volait, Town planning schemes for Cairo conceived by Egyptian Planners in the libral experiment period, Extrait de Hans Chr. Korsholm Nielsen and Jakob, Skovgaard-Petersen (ed.), Middle Eastern Cities 1900-1950. Publics Places and Publics Spheres in Transformation, Aarhus University Press, 2001, 44-71. رابط
فوليه، 2005
Architectes et architectures de l’Egypte moderne , 1830-1950 Mercedes Volait. 2005
سيمز، 2012
David Sims, Understanding Cairo: The logic of a city out of control. 2012]
برونيت ورودماير. 2010
Andre Peronnet, Thomas Rodemeier, ETH Studio Basel Contemporary City Institute , The middle East Studio. 2010
بيفيرو، إيلينا. 2010
Piffero, Elena. “What Happened to Participation: Urban Development and Authoritarian Upgrading in Cairo’s Informal Neighbourhoods”.2010.
دورمان، دبليو جادسون. 2007
Dorman, W. Judson. “The Politics of Neglect: The Egyptian State in Cairo, 1974-98.” PHD, School of Oriental and African Studies, 2007.
ريموند، أندريه. 2000
Raymond, André. Cairo. Harvard University Press. 2000.
بيات، 2009
Asef Bayat. “Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East”. 2009
سينجرمان، 2009
Diane Singerman , The Siege of Imbaba, Egypt’s Internal ‘other,’ and the Criminalization of Politics. Cairo contested: Governance, urban space, and global modernity , 2009-2011
هاينّي، 2009
Patrick Haenni , Cousins, Neighbors, and Citizens in Imbaba : The genesis and self-neutralization of a rebel political territory. Cairo contested: Governance, urban space, and global modernity , 2009-2011
خليفة، 2011
Marwa A. Khalifa, Redefining slums in Egypt: Unplanned versus unsafe areas. Habitat International Journal 35 (2011) 40-49
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
ياسر الحسينى Says:
ممتع مجهود عظيم اكثر من رائع
October 6th, 2017 at 2:17 pm