تتمتع نظرية “دى سوتو” بالبساطة والجاذبية. فهو يقول إن الكثير من الفقراء لديهم مهارات استثمارية ولكن ما ينقصهم هو الأدوات التى تمكنهم من توسيع نطاق أعمالهم. وبعبارة أخرى فهو يدّعي أن معظم سكان المناطق اللارسمية لا يواجهون فقط مخاطر هدم مساكنهم والإجلاء القسرى منها ولكنهم أيضا لا يتمكنون من استخدام نظم الائتمان الرسمية لأنهم لا يمتلكون عقود ملكية تؤكد على حقهم القانونى فيما يملكون. الملكية هى أكثر أشكال الضمانات العقارية شيوعا عندما يتقدم المرء بطلب قرض من مؤسسة ائتمان رسمية فى معظم البلاد. وبدون إثبات قانونى للملكية، فإن السكان لا يمكنهم أن يحصلوا على قروض تمكنهم من الاستفادة من الرأسمال “الميت” المتمثل فى عقاراتهم المملوكة بشكل غير رسمي. ولذا فإن تقديم عقود الملكية للفقراء بالمدن سوف يعطيهم دليلا على الملكية وبالتالى يتيح لهم فرصة الاقتراض من أسواق الائتمان الرسمية وهو ما يحول رأسمالهم “الميت” إلى أصول مادية ويمكنهم من المشاركة فى الحياة الاقتصادية الرسمية. وباختصار فإن الحصول على عقود ملكية الأراضى سوف يحرر هؤلاء السكان من قبضة الفقر.
أو كما يقول “ميتشيل”، فإن “توفيق أوضاع أصحاب الملكية يُفتَرض أن يقدّم أسلوبًا بسيطًا وغير مكلف لإنهاء الفقر الواسع الانتشار” (2005).
هناك منافع أخرى لتقنين الملكية، ومنها أمن حيازة الأراضى. يضمن أمن الحيازة حق السكان فى البقاء فى منازلهم ويقدم لهم الدافع للإستثمار فى عقاراتهم والتى سوف تزيد قيمتها بالتالى (برانداو وفيدار، 1996).1 وحتى بدون أن يقوموا بأى استثمار إضافى فى عقاراتهم، فإن قيمتها سوف تزيد على كل حال بمجرد تقنين الملكية. وهو ما يعنى أن هذا التقنين سوف يتيح لمالكي المساكن امكانية تحويل أصولهم إلى رأس مال عند الحاجة. ذكر بعض الباحثين أن مشاريع تقنين الملكية هى أيضا مفيدة للدولة نظرا لأنها أقل تكلفة من إعادة التسكين، وبالأخص إن كانت الحكومة ملتزمة ببناء مساكن بديلة وتقديم الخدمات لها من أجل تسكين من يقطنون حاليا فى المناطق اللارسمية (رانكل، 2009). ويصر أنصار تقنين الملكية أيضا على أهمية تلك الخطوة فى حماية العائلات من الإخلاء القسرى. وفق تصريح مكتب المفوض السامى لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فى “النشرة رقم 25” فإن “تقنين الملكية للسكان الذين لا يتمتعون حاليا بهذا النوع من الحماية سوف يساهم إلى حد كبير فى منع الإخلاء القسرى” (1993).
يقول السكان الذين لا يتمتعون بعقود ملكية والذين التقت بهم “تضامن” إن الفائدة الكبرى فى نظرهم لتقنين الملكية هى الاعتراف الرسمى بمنطقتهم على أنها جزء من المدينة. وقد اعتبر سكان منطقتين غير رسميتين أن مثل هذا التغيير فى وضعهم يعنى أنهم قد أصبحوا مواطنين شرعيين ولهم الحق فى طلب الخدمات من الحكومة بدون الحاجة إلى التفاوض بشكل دائم مع السلطات المحلية (أو دفع رشاوى لها).
وكما طرحت الكثير من الحجج التى تدعم فكرة تقنين الملكية، سلط الكثيرين الضوء على نقائص تلك الفكرة. يرى “جيلبرت” أن مشروعات تقنين الملكية تعود بفائدة أكبر على ميزانية الدولة (من خلال بيع عقود الملكية) عما تعود على الفقراء (2002). أما “دوراند-لاسيرف” و”باين” فيشيران إلى أن تقنين الملكية يمكن أن يؤدى إلى زيادة فى قيمة المساكن مما يؤدى إلى “الاستبدال الطبقى للسكان”، أى انتقال الطبقات الأعلى دخلا للسكنى بها على نحو يؤدى إلى استبعاد السكان الأكثر فقرا من المنطقة كالمستأجرين بسبب ارتفاع الإيجارات (2005).2 يؤيد “دافيز” هذا الرأى حيث يقول إن إدماج الأراضى غير الرسمية فى الاقتصاد الرسمى يفيد السكان الأكثر ثراءًا نسبيا ولكنه قد يكون كارثيا بالنسبة للسكان الأكثر فقرا (2006، ص 81).
وهناك أيضا احتمال أن تؤدى مشروعات تقنين الملكية إلى عمليات استحواز على الأراضى وإخلاء قسرى، بالذات فى البلاد التى ينتشر فيها الفساد. مثلا، يذكر تقرير نشره “مركز معلومات البنك” عام 2011 أن مشروعا لتقنين الملكية صممه “البنك الدولى” فى كامبوديا لم يوضع تحت رقابة كافية وبالتالى فإن بعض العائلات الأكثر فقرا لم تحصل على عقود ملكية. وبعد التنفيذ المتسرع لعملية تقنين الملكية، فإن الحكومة الكامبودية منحت شركة خاصة عقد إيجار للأراضى مدته 99 سنة وهو ما أدى إلى اتهام أكثر من 20,000 شخص كانوا يعيشون على الأرض لسنوات بالتعدي على الأرض بشكل غير قانوني وجعلهم عرضة للإخلاء القسرى (مركز معلومات البنك، الولايات المتحدة، 2011).
تقول “رانكل” إن المرء لا يجب أن يتوقع أن تضمن عقود الملكية للسكان المقيمين فى المناطق اللارسمية التوصل لخدمات الائتمان لأن تلك الخدمات تستبعد كل فقراء المدن بدون تمييز (2009). والطريق الوحيد الذى يمكن فيه لفقراء المدن أن يحصلوا على مزايا الائتمان الرسمى هو من خلال الإصلاح القانونى والمؤسسى، وأيضا من خلال ضمان أن البنوك سوف تقدم أشكالا من الائتمان الصغير المناسب لاحتياجات الفقراء. يدعم تلك الحجة العديد من التجارب على أرض الواقع. مثلا، خلصت دراسة أجريت سنة 1994 فى كينيا وتنزانيا إلى أن تقنين الأراضى لم يكن له أى تأثير على الاستثمار أو أسواق الائتمان. وهكذا فإن الدراسة اعتبرت أن تقنين الأراضى “ليس مهما للتنمية” (بينكنى وكيمويو، 1994).
قد اختبر “دى سوتو” بنفسه نظرياته فى بيرو من خلال مشروع بدأ فى 1998 بالتعاون مع “البنك الدولى” بهدف تسجيل ملكية حوالى 960 ألف منزل فى قطاع الإسكان غير الرسمى. وخلصت الدراسات التى بحثت نتائج هذاالمشروع (قارن بين: كوكبيرن، 2001؛ فيلد وتوريرو، 2006؛ فيلد، 2003) إلى أن المشروع “لم يكن له أثر ملحوظ على حصول الفقراء على قروض للاستثمار” (ميتشيل، 2005).
ووجد “فيلد” (2003) أنه برغم زيادة الاستثمارات فى تطوير المنازل فإن معظم تلك الاستثمارات تمت بدون الحصول على قروض (2003). وفى الواقع فإن الإقراض العقارى إلى الفقراء لم يزد إلا بعد أن قامت الحكومة بدعم الإقراض لأصحاب الدخول المنخفضة (ميتشيل، 2005).
فى دراسة اجريت عام 2008 لمشروعات تقنين الملكية فى السنغال وجنوب أفريقيا، اتضح أن الكثير من السكان كانوا يتمتعون بالفعل بحيازة آمنة بقوة الأمر الواقع، وبالتالى فإن عقود الملكية لم تغير وضعهم كثيرا (باين، 2008). ولكن كان لها تأثير إيجابى على زيادة استقرار الملكية بالنسبة للنساء وتأثير سلبى على استقرار وضع المستأجرين بعد رفع مستوى الإيجار.3 وقد اكتشفت ذات الدراسة أنه بالرغم من أن زيادة ضمانات أمن الحيازة أدت إلى زيادة فى استثمارات تحسين المنزل من جهة السكان، إلا أن تأثيرها كان منعدمًا على حصولهم على القروض، حيث أن البنوك “لم تقم بتعديل ممارساتها لتناسب الحاجات والوضع الاقتصادى للعائلات منخفضة الدخل التى تم تقنين أوضاعها فيما يخص شروط القرض والإجراءات والضمانات وتيسيرات السداد” (باين، 2008).
بدأ التدخل الحكومى الأول فى مصر بشأن تقنين الأراضى فى 1978، فى مشروع تم بالتعاون مع “برنامج الأمم المتحدة الإنمائى” بغرض الارتقاء بمنطقة فى مدينة الإسماعيلية. تم تنفيذ المشروع بين 1978 و1983 بهدف تحسين منطقة الحكر (واحدة من أكبر المناطق اللارسمية فى المدينة) وتحويلها إلى حي السلام. وقد أعطى البرنامج السكان فرصة شراء أراضيهم من خلال مشروعات للدفع بالتقسيط مع دعم الأسعار.4 وقد تم تحديد الأسعار بأقل من جنيهين مصريين للمتر المربع يتم دفعها بالتقسيط، وعند انتهاء المشروع كان قد تم تسليم أكثر من 7,000 عقد ملكية على نحو غطى تكاليف المشروع (رانكل، 2009؛ سيجورن، 2006). وبالتوازى مع هذا المشروع، أصدرت الحكومة قانون رقم 135 لسنة 1981 الذى أكد ضرورة توفيق أوضاع المناطق اللارسمية.
مع أن مشروع حى السلام حاز رضاء المنظمات الدولية من حيث عناصر التطوير والبنية التحتية به، فإنه واجه مشاكل متعددة بخصوص تقنين الملكية. مثلا، اقتصر عنصر تقنين الملكية على السكان القاطنين فى مواقع معينة دون الأخرى، بل وأولئك الذين تمكنوا منهم من إثبات أن منازلهم لم تبن على أراض زراعية (ديبوليه، 2007). وفي النهاية توقفت إجراءات تقنين الملكية بسبب نشوب خلافات بين مديرى المشروع والمحافظة، وبذلك ركز المشروع على تقديم البنية التحتية فحسب.
فى 1978، أطلق “مشروع التنمية العمرانية فى مصر” التابع “للبنك الدولى” مبادرة تهدف إلى بيع عقود ملكية إلى 120 ألف من سكان منشية ناصر، إحدى المناطق اللارسمية الكبيرة فى القاهرة. ولكن وزارة الإسكان و”الهيئة العامة للتخطيط العمرانى” قاوما هذا المدخل على أساس أنه من الأفضل القيام بنقل السكان إلى مناطق أخرى (رانكل، 2009). وفى نهاية الأمر قام المشروع بتقديم بعض البنية التحتية والتطوير العمرانى فى منشية ناصر، مع اهمال عنصر تقنين الملكية.
المحاولة التالية لتقنين ملكية الأراضى تمت فى 1986 من خلال “هيئة المعونة الأمريكية – USAID ” التى قامت فى الفترة 1976-1988 بتنفيذ برنامج اسمه “مشروع الإسكان والتطوير العمرانى فى حلوان “. استند هذا المشروع إلى قانون 31 لعام 1984 الذى يمنح المحافظات سلطة بيع الأراضى المملوكة للدولة إلى واضعى اليد طالما أن حيازتهم للأراضى بدأت قبل 1984. وقد تمت إقامة مكاتب لبيع نماذج التقديم فى أكتوبر 1986 وتم التفاوض على تحديد الأسعار على أساس سعر السوق. ولكن بعد عام من فتح المكاتب المذكورة، لم يتقدم سوى 720 شخصا إليها ولم يحصل أى منهم على عقود ملكية (رانكل، 2009). وعندما قامت “هيئة المعونة الامريكية” بنشر تقرير متابعة المشروع فى 1988، لم يكن هناك شخص واحد قد حصل على عقد تمليك بحسب التقرير. وذكر تقرير المتابعة أن “التأخير غير المعقول والقرارات الإدارية المشكوك فى صحتها، إلى جانب أشياء أخرى، كاختيار الموقع، والأعمال الهندسية، ونوعية ومساحة الوحدات التى سوف تبنى” كلها أسباب أدت إلى فشل المشروع فى تحقيق أهدافه. بينما قام كل من “طاهر” (1997) و”دورمان” (2007) بتسليط الضوء على غياب التعاون من جانب أجهزة الحكومة التنفيذية والخلافات بين “هيئة المعونة الأمريكية” ومراكز اتخاذ القرار الحكومية. وأشار “دورمان” أيضا إلى تقرير أذاعته “سى إن إن” فى 1991 يعزى فشل المشروع إلى الفساد ونقص الكفاءة داخل “هيئة المعونة الأمريكية” ذاتها (2007).
مشروع آخر لتقنين الملكية تم تنفيذه فى محافظة أسوان، ما بين 1987 و1991، بالتعاون مع “هيئة المعونة الفنية الألمانية” – GTZ (الهيئة الألمانية للتعاون الانمائي- GIZ حاليًا) . حاول المشروع تقنين الملكية فى منطقة لارسمية فى حى الناصرية فى أسوان. وكانت تلك التجربة تشبه تلك التى تمت فى حى السلام، حيث تم التفاوض على أسعار الأراضى مع السكان وتحددت بسعر متواضع (5-10 جنيهات للمتر المربع) يتم دفعها بالتقسيط (ميلز–تيتى، 1998). ذكر “رانكل” (2009) أن دراسة للمشروع التي تمت فى 2006 خلصت إلى أنه نجح فى بيع الأراضى لحوالى 45% من السكان، مع تأجير الأراضى للسكان المتبقين بسعر منخفض يبلغ 4 جنيهات شهريا.5
فى 1997، اقترح “دى سوتو” من خلال “معهد الليبرالية والديمقراطية” الخاص به البدء فى “برنامج تقنين الملكية” لاختبار نظرياته فى مصر. وكان هدف المشروع المقترح هو تسجيل كل العقارات على المستوى القومى بدءا بالقاهرة وانتهاءًا بتغطية كل الجمهورية. وتلقى المشروع المذكور تمويلا “للمرحلة التحضيرية” من “هيئة المعونة الامريكية – “، ورغم أن الكثير من الجهد قد تم بذله من قبل “معهد الليبرالية والديمقراطية” لتطوير خطة عمل وعقد مؤتمرات متعددة لحشد الدعم السياسى، فإنه لم يحصل على الدعم الحكومى المطلوب ولم تتم الموافقة على تنفيذ مشروعه أبدًا. (رانكل، 2009).
خلال ذلك، وفى عام 1998، قامت محافظة القاهرة بالتعاون مع “هيئة المعونة الفنية الألمانية- GTZ ” بالبدء فى عملية تهدف لبيع عقود الملكية لمواطنى عزبة بخيت (فى منشية ناصر) من خلال مشروع “التنمية العمرانية بالمشاركة فى منشية ناصر”. وكان من المفترض، استنادا إلى تقييم الاحتياجات الذى تم بالتشارك مع أهل المنطقة، أن يؤدى تقنين الملكية إلى زيادة ضمان حيازة الأراضى وأيضا إلى الإسهام فى تغطية تكاليف المشروع (رانكل، 2009). وذكر “رانكل” (2009) و”بيفيرو” (2009) أنه فى المراحل الأولية من المشروع نشبت خلافات بين وزارة الإسكان ومحافظة القاهرة حول من المختص بإعادة تخطيط منشية ناصر، وأدت تلك الخلافات إلى تأخير تنفيذ المشروع. وعلاوة على هذا، كانت هناك مقاومة مبدئية من جانب وزارة الإسكان لفكرة تقنين الملكية ذاتها، ولكن هذا الأمر تغير فى عام 2000 عندما وعد وزير الإسكان بأن عقود الملكية سوف يتم تقديمها لكل سكان منشية ناصر. وقد بدأ المشروع بتقسيم منشية ناصر إلى تسع مناطق تخطيط (منشية ناصر 1 – منشية ناصر 9) وتطوير خطة تحسين عمرانية لعزبة بخيت (بوصفها منشية ناصر 1). وقد نالت تلك الخطة التفصيلية موافقة محافظة القاهرة فى عام 2000 كذلك (بيفيرو، 2009)6. وفي نفس العام قام رئيس حى منشية ناصر بالمواقة على إنشاء قاعدة بيانات لتسجيل أصحاب الملكيات فى عزبة بخيت. وعند نهاية العام كان قد تم إعداد الخطة المبدئية لعملية تقنين الملكية فى عزبة بخيت وكانت فى انتظار قرار من محافظ القاهرة لبدء عملية تقنين الملكيات. فى 2003، صدر قرار من محافظة القاهرة بتشكيل لجنة فنية واتخاذ كل الترتيبات اللازمة لتقنين الملكية وبدأت إدارة الأملاك فى المحافظة بالتحضيرات فى 2004 (رانكل، 2009). وقد شهد عام 2004 تغييرا فى رئيس فريق المشروع، حيث تم استبدال “دافيد سيمز” وحل محله “خليل شعث” (مستشار محافظ القاهرة والمدير السابق لوحدة تطوير العشوائيات فى محافظة القاهرة)، كما تغير محافظ القاهرة مع تعيين “عبد العظيم وزير” فى المنصب المذكور. فى 2005، تم فتح مكتب للشهر العقارى فى منشية ناصر. وفى 2006، تم تشكيل لجنة لجمع الطلبات من السكان الراغبين فى شراء الأراضى الخاصة بهم. وردت الطلبات على نحو بطىء دعى “شعث” للتعاون مع القادة المحليين فى 2007 لتشجيع السكان على التقدم بطلباتهم.
يقول الخبير العمرانى “دافيد سيمز”، الذى اشترك فى المرحلة الأولى من مشروع “هيئة المعونة الفنية الألمانية”، إن أسعار الأراضى كانت عاملا رئيسيا فى تعطيل فرص نجاح المشروع، حيث اشتكى السكان من أن الأسعار التى طلبتها المحافظة كانت مبالغا فيها. (سيمز، مقابلة شخصية، 2013). ويؤيد هذا الرأى “خليل شعث” – المدير الحالى لوحدة تحسين المناطق اللارسمية الذى شارك فى المراحل التالية من مشروع “هيئة المعونة الفنية الألمانية”. ولكن “شعث” أضاف أن الأسعار تم وضعها عند أقل مستوى ممكن من الناحية القانونية وأن السكان شرعوا فى الشكوى من ارتفاع الأسعار قبل أن يتحققوا من السعر الذى تم تحديده (شعث، مقابلة شخصية، 2015). كانت هناك أيضا خلافات بين السكان بخصوص الافتراضات الخاصة بنظام تحديد السعر العادل. السكان الذين أتوا إلى المنطقة فى بداية استيطانها كانوا يرون أنهم يجب أن يدفعوا أقل من السكان الجدد نظرا للتكاليف التى تحملوها على مر الأعوام. ومن ناحية أخرى فإن السكان الجدد قالوا إنهم لديهم تكاليف أعلى من سابقيهم لأن السكان الأصليين حصلوا على الأرض بدون مقابل ثم قاموا بتطوير منظومة لتقسيمها وبيع قطع الاراضي للسكان الجدد (سيمز، مقابلة شخصية، 2013؛ شعث، مقابلة شخصية، 2015).
وأوضح “شعث” أن السكان لم يكونوا دائما مهتمين بشراء الأرض، بسبب شكهم فى نوايا الحكومة من جانب وأيضا لأنهم لا يرون الميزة التى يتيحها لهم التملك نظرا لأنهم بالفعل لديهم الكثير من الخدمات وأيضا يتمتعون باستقرار الحيازة فى ظل الأوضاع القائمة (شعث، مقابلة شخصية، 2015). بحلول عام 2008، لم يتجاوز عدد الطلبات المقدمة 200 طلب (رانكل، 2009). ثم حلت كارثة انهيار صخرة الدويقة لتؤدي إلى إيقاف كل أنشطة تقنين الملكيات، حيث أصبح من الضروري أن يتم مسح المنطقة جيولوجيا من أجل ضمان سلامتها للسكنى أولًا. بعدها تم إنشاء “صندوق تطوير المناطق العشوائية” وأوكلت إليه مهمة وضع خرائط لكل المناطق غير الآمنة على المستوى القومى، كما تم إيقاف كل جهود تقنين الملكية في هذه الأثناء. واليوم، تجدد النقاش حول مشروع آخر لتقنين الملكية فى منشية ناصر بين المحافظة و”وزارة الدولة للتطوير الحضرى والعشوائيات”، ولكن يرجح أن أى تطور فى هذا الصدد لن يحدث قبل انتخاب برلمان جديد (المرجع السابق).
إذا نحينا التعقيدات المرتبطة بتحديد أسعار الأراضى جانبا، فإن كل مشروعات تقنين الملكية التى استعرضناها فيما سبق توضح كيف أن القيود الإدارية والسياسية يمكنها أن تضعف فاعلية تلك البرامج. تطلب البيروقراطية الحاكمة لأغلب البرامج الحكومية من السكان تقديم العديد من الطلبات إلى العديد من الجهات، مما يجعل من التسجيل عملية طويلة ومرهقة ومكلفة ماديًا فى أغلب الأحيان. كما أنه عادةً ما يتلقى الموظفون الذين يتم تعيينهم لمتابعة تلك الطلبات مرتبات متواضعة ويفتقرون إلى الحافز المطلوب لإدارة العملية على نحو كفء. وحتى عندما تمت معالجة تلك الأمور فى ظل مشروع “هيئة المعونة الفنية الألمانية” المذكور آنفا ظلت هناك مسألة اقناع السكان بالثقة في تلك العملية وما يمكن أن يستفيدوه منها بشكل واقعي.
إلى جانب هذا، فإنه نظرا للكم الهائل من المناطق اللارسمية فى مصر والطبيعة الخاصة لكل منها، فإن برامج تقنين الملكية عادة ما تمثل عبئا ثقيلا على الهيئات الحكومية. هناك إدارات بأكملها يجب أن يتم تشكيلها من أجل وضع خرائط مساحية وتقييم الملكيات وفحص الطلبات وإدارة عملية التسجيل. ونتيجة لهذا، يصبح من الممكن لعملية تبدو واضحة ومباشرة للغاية كهذه، أن تستغرق زمنًا طويلا، وأن تدار بقدر لا يستهان به من عدم الكفاءة.
وأخيرا فإن عدم وضوح الملكية فى المناطق اللارسمية يؤدى أحيانا إلى خلافات على الأراضى بين السكان أنفسهم، كما يؤدى إلى خلافات بين الهيئات الحكومية فى حالة الأراضى المملوكة للدولة. وفى ضوء الفساد المستشرى ونقص التمويل وغموض الأطر القانونية، فإن الجهات الإدارية كثيرا ما تصاب بالضعف وتفقد الفعالية المطلوبة. وبسبب تلك العوامل فإن برامج تقنين الملكية لا تؤدى فى العادة إلى تحقيق النتائج المرجوة منها، وهو ما سنناقشه بقدر أكبر من التفصيل فيما يلى.
أمن الحيازة
خلصت دراسة أجراها “معهد الليبرالية والديمقراطية” لمؤسسه “دى سوتو” عام 1997 إلى أن 90% من المصريين ليس لديهم عقود تمليك. ولكن “يحيى شوكت” يقول إن الافتقار لأمن الحيازة لا يعود إلى عدم وجود وثائق تثبت الملكية فحسب، ولكنه يتوقف على مدى النزاعات القائمة على ملكية الأرض (2013). وبتقييم أمن الحيازة من جهة وجود نزاعات على الأرض، اعتبر “شوكت” أن 44% من ملكية الأراضى فى مصر تعد “غير مستقرة”. وهو ما يظل رقمًا مرتفعًا إلى حد مقلق، ولكن يوضح مدى التعارض بين هذا الرقم ورقم 90% الذى ذكره “دى سوتو” مدى تعقيد وتنوع مسألة أمن حيازة الأراضى فى مصر.
يلاحظ أنه من الصعب قانونيا على الدولة أن تطرد سكان المناطق اللارسمية المقيمين على أراض زراعية نظرا لكونها أراض ملكيتها خاصة. أما التعديات على المناطق الصحراوية فهى تميل إلى أن تكون أقل استقرارا لأن تلك الأراضى تعتبر تابعة للدولة من الوجهة القانونية. ولكن تظل بعض المناطق اللارسمية قد تشكلت بمبادرات من الدولة فى سياق محاولتها لإعادة توطين عمالة ما وتسكينهم بشكل مؤقت على أراضٍ صحراوية، وهو ما يجعل السكان المقيمين بها يؤمنون أن الدولة قد منحتهم تلك الأراضى. فنجد أن سكان المناطق اللارسمية الأقدم قد جمعوا كميات من الوثائق الرسمية، بما فيها إيصالات تحصيل ضرائب العقارات (العوائد) أو إيصالات الكهرباء والماء، التى تمنحهم نوعا من الحيازة الشرعية لأراضيهم، حتى لو كانت المناطق التى يقيمون بها مملوكة أصلا للدولة. وأخيرا يجب أن نأخذ في الاعتبار أن هناك نسبة كبيرة من سكان المناطق اللارسمية يستأجرون منازلهم، يحتمل بشكل كبير أن تؤدى برامج تقنين الملكية إلى الإضرار بهم.
الفرص الاقتصادية
يفترض دعاة برامج تقنين ملكية الأراضى أن تلك البرامج سوف تمنح سكان المناطق اللارسمية نوعا من حرية الحركة الاقتصادية من خلال تمكينهم من اللجوء إلى نظم الائتمان الرسمية وبرامج الرهن العقارى مع انتفاء الحاجة إلى دفع رشاوى مكلفة من أجل تحقيق نوع من أمن الحيازة. ولكن فى غياب جهد متزامن لإعادة هيكلة نظم الائتمان المصرية والسياسات الاقتصادية فإن تقديم عقود ملكية للسكان لن يؤدى على الأغلب إلى زيادة الفرص الاقتصادية المتاحة لسكان المناطق اللارسمية. وكما ذكرنا فيما سبق فإن عقود الملكية وحدها لن تضمن للسكان فرصة الحصول على قرض، بالذات لأن الأملاك التى سوف يستخدمها الفقراء كضمان للإقتراض لا تقع فى مناطق جذابة. علاوة على ذلك، فإن الفقراء كثيرا ما يترددون فى الاقتراض خوفا من عدم قدرتهم على السداد ومن تعرضهم لإجراءات قاسية فى تلك الحالة. ولهذا فهم يفضلون الاعتماد على مدخراتهم الشخصية أوالاقتراض من مصادر غير رسمية لشراء وبناء وتحسين مساكنهم. فبالتأكيد تتطلب ضمانات مؤسسات الائتمان لمنح القروض أن يكون للأفراد دخل مستقر وكافى أكثر من مسألة الملكية. وهو أمر يحول دون لجوء معظم المصريين، وليس فقط سكان المناطق اللارسمية (والذين يعملون على الأرجح فى وظائف غير رسمية)، إلى الاقتراض من مؤسسات الائتمان.7
فى منشية ناصر، هناك 40% من السكان متعطلون عن العمل، أما غير المتعطلين فهم يعملون أساسا فى القطاع غير الرسمى، أى فى وظائف غير مستقرة ومنخفضة الأجر (رانكل، 2009). وبالتالى فإنه من المستبعد أن يؤدى تقنين الملكية، بدون إصلاح نظم الائتمان المصرية، إلى زيادة لجوء سكان المناطق اللارسمية إلى الإقتراض من مؤسسات الائتمان الرسمية. ولكن لو ارتبط تقنين الملكية بتلك الإصلاحات فإنه من المتصور أن تؤدى مشروعات تقنين الأراضى إلى زيادة احتمال حصول السكان على قروض.
فى معظم الأحوال، يتمتع المصريون الذين يسكنون المناطق اللارسمية، بالذات المناطق التى تتسم بنوع من استقرار الأوضاع، بدرجة مرتفعة نسبيا من أمن الحيازة ، وذلك برغم عدم حصول أغلبهم على عقود ملكية لأراضيهم. ولكن هذا الأمر لا ينطبق على السكان الذين يعيشون فى مناطق هناك إقبال كبير عليها -لقيمتها الاستثمارية العالية- (مثل رملة بولاق) أو فى أراض تريد الدولة انشاء مشاريع كبيرة للبنية التحتية بها (مثل الأراضى التى تتم مصادرتها قرب المحطة التبادلية للنقل المتكامل المقرر إنشاؤها فى روض الفرج). وقد أوضح تقرير منظمة “العفو الدولية” (2011) أنه رغم أن عمليات الإخلاء القسرى ليست مستشرية فى مصر، فإنها تحدث من وقت إلى آخر، وقد تزايدت وتيرتها خلال العقد الماضى. هذا بالإضافة لأن كثيرون من سكان المناطق اللارسمية (وبالأخص أصحاب العقارات) كانوا ومازالوا يكافحون من أجل تقنين أوضاع ملكياتهم (مثلا فى عزبة خير الله).
هنالك إذن سببًا وجيهًا للتأكيد على أهمية تقنين الملكيات، وأيضًا للتأكيد على أنها ليست “الوصفة السحرية”. وكما أوضحنا فى الأمثلة المتعددة المذكورة آنفا فإن برامج تقنين الأراضى يمكنها أحيانًا أن تقدم بعض المزايا بالنسبة لأمن حيازة الأراضى وربما توفير الخدمات بشكل أفضل. ولكن الأمر الذى يفشل تقنين الملكية فى تقديمه هو فتح أبواب السوق الرسمى أمام الفقراء بشكل سحرى، وهو السوق الذى تم استبعادهم منه أساسا بسبب وضعهم الاقتصادى والاجتماعى وليس بسبب سكنهم فى مناطق لارسمية. وما لم يتم الجمع بين برامج تقنين الملكية والبرامج القومية الأخرى للقضاء على الفقر، فإن تقنين الملكية بمفرده لن يخرج الفقراء من دائرة الفقر. علاوة على هذا، يجب أن ندخل السكان الأكثر فقرًا فى المناطق اللارسمية – وهم المستأجرون – فى الحسبان عند تنفيذ برامج تقنين الملكية، وذلك لضمان أنهم لن يفقدوا مساكنهم بسبب ارتفاع قيمة الأراضى.
والخلاصة هى أنه، برغم أى فوائد محتملة لتقنين ملكية الأراضى، فإن تلك البرامج لن تحقق نجاحًا يذكر ما لم تتم بالتزامن مع إصلاحات إدارية ملحوظة ومع اتباع أطر قانونية ملائمة واتخاذ اجراءات لمكافحة الفساد وغيرها من الآليات التى تسمح بالاستماع إلى آراء سكان المناطق اللارسمية. ومن المهم أيضا أنه لو تم تنفيذ برامج تقنين ملكية الأراضى فإن ذلك يجب أن يتم فى سياق سياسة قومية تتسم بالدعم السياسى الصريح لتلك البرامج. والمهم هو أن ننظر إلى عملية تقنين الأرضى بشكل متعقل: فهى لا تعدو كونها أداة لو تم استخدامها بشكل سليم فإنها يمكن أن تسهم فى تخفيف الفقر، ولكنها لا تمثل فى حد ذاتها علاجًا سحريًا للفقر.
دافيز، 2007، “كوكب العشوائيات”.
دوبليه، آجنس (2007) “إعادة تشكيل المستوطنات”.
جيلبرت، آلان (2002)، “لغز رأس المال وأساطير هيرناندو دى سوتو”.
ميلز– تاتى، رالف، “برنامج تطوير الناصرية فى أسوان، مصر”. 1998.
رانكل، 2009. “دور تقنين ملكية الأراضى الواقعة فى المدن فى تحسين أوضاع العشوائيات: حالة القاهرة”.
سيجورنيه، ماريون، “السياسات الأخيرة فى التعامل مع المناطق غير القانونية فى القاهرة”. 2006
شوكت، يحيى، 2013. “العدالة الاجتماعية والبيئة العمرانية”
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Hassan Elmouelhi Says:
Good job.. 2 small comments: Runkel is a female.. Mr. Khalil Shaat’s position is the Cairo governer’s advisor for informal settlements.
December 8th, 2015 at 2:02 amin my opinion, as mentioned, each area has its oun conditions, security of tenure could be achieved due to infrastructure provision by the state… it is not always a priority by tje residents, its only a priorety in case they feel insecure or feel sybject to eviction.. otherwise… they have other priorities..
Tadamun Team Says:
Thank you so much Hassan, we Edited the text.
December 8th, 2015 at 4:02 pm