على مدى الأشهر القليلة الماضية، شهد المصريون الذين يقومون باستخدام وسيلة الاعلام الاجتماعية الفيسبوك ظهور الكثير من مبادرات “التلوين”، مثل “مساحة اللون (كلور زون) في السويس“، و “تلوين المدينة الرمادية“، و”هانلونها” و”مشروع السعادة“.
وقد كانت معظم هذه المبادرات بقيادة طلاب يرغبون في تجميل المدن المصرية من خلال إضافة الألوان والصور إلى الأماكن العامة مثل الجدران والسلالم والأسوار. وقد ظهرت مبادرات أخرى للتلوين منذ عام 2011: “مبادرة القاهرة لتلوين أطباق الأقمار الصناعية“، على سبيل المثال، هو مشروع يركز أصحابه على تلوين الممتلكات خاصة كأطباق الأقمار الصناعية و يرون أن التلوين فرصة للتعبير عن الذات.
مبادرة أخرى ، وهي “تلوين القاهرة“، لا تهتم فقط بتلوين واجهات المساكن اللارسمية التي تقع في ضواحي القاهرة الكبرى، ولكن أيضاً بترميم الواجهات وتلوين طبقة محارة وذلك من أجل تحدي الوصمة المرتبطة بالمظهر غير المكتمل لتلك المساكن.
يستعرض هذا المقال ثلاث مبادرات حاولت إحداث تغيير في كيفية إدراك السكان لمدينتهم بصرياً وهي بالتحديد “مبادرة القاهرة لتلوين أطباق الأقمار الصناعية” و”تلوين المدينة الرمادية” و”تلوين القاهرة”. وبعد ذلك سوف يقوم المقال باستكشاف إمكانات تنفيذ هذا النوع من المشاريع على نطاق أوسع.
بالنسبة إلى الكثير من الأشخاص، فإن القاهرة هي “المدينة الرمادية” والتي تتعرض نواحيها الجمالية إلى الخطر بسبب تلوث الهواء والعديد من المباني المتهالكة في قلب المناطق الحضرية أو المباني التي لم تنته بعد المبنية بالطوب الأحمر والخرسانة في المناطق اللارسمية، تلك التي تضم أكثر من 60٪ من سكان القاهرة . عن طريق تغيير الجانب المادي من المدن المصرية من خلال اللون، فإن مبادرات التلوين تهدف ليس فقط أن يكون لها تأثير إيجابي على رفاهية السكان ونوعية الحياة، ولكن أيضا لإلهام الناس لتحسين بيئتهم المحيطة.
“مبادرة القاهرة لتلوين أطباق الأقمار الصناعية“: “آرت اللوا” – مساحة مخصصة للفن تقع في منطقة أرض اللواء والتي توفر التعليم الثقافي في صورة معارض فنية ومحاضرات وعروض الأفلام وورش العمل للسكان المحليين – قامت بدعوة جايسون ستونيكينج، الفنان والمؤلف الأمريكي المقيم في باريس، للإقامة لمدة ثلاثة أشهر في أواخر عام 2014. وقد رأى ستونيكينج أطباق الأقمار الصناعية المتربة فوق أسطح المنازل في القاهرة على أنها تشبيه جميل ل “قناة اتصال فردية بين منزل عائلة فرد ما والفضاء الخارجي” (!) وفرصة للقاهريين للتعبير عن تفردهم وإبداعهم.
“تلوين المدينة الرمادية“: أطلقت مجموعة من عشرة طلاب من كلية الفنون الجميلة جامعة حلوان هذه المبادرة وانضم إليهم بعد قليل طلاب آخرون وبعض المتطوعين من خارج الجامعة. أرادوا إضافة دفقة من الألوان إلى المدينة التي يغلب فيها اللون الرمادي بشكل كبير في محاولة لمكافحة التأثير البصري الناتج عن التلوث والمناخ الصحراوي. وهم يأملون في تحسين مزاج الناس وحثهم على الاعتناء بالمدينة من خلال تجميلها.
“تلوين القاهرة – مصر بالألوان“: أطلقت هذه المبادرة بعد ثورة 2011 بأشهر قليلة بواسطة مهندسين معماريين من المؤسسة الإستشارية تكوين لتنمية المجتمعات المتكاملة1 . قام مؤسسي تكوين بالبدء في هذه المبادرة باعتبارها وسيلة للاعتراف والتعويض لمجتمعات مثل عزبة خير الله، وقد قاموا بالتطوع بوقتهم وبالموارد من أجل تحسين جماليات وظروف المناطق اللارسمية. وقد استخدموا المهارات المكتسبة من خلال تجربتهم في العمل في مشروع إحياء الدرب الأحمر الذي بدأ في عام 2000 من خلال مؤسسة آغا خان للثقافة، وقد قام فريق تكوين بتجميل العديد من واجهات المباني، وذلك باستخدام الحجر الجيري للمحارة (وذلك بدلاً من الأسمنت) وطلائها بألوان فاتحة مع تغطيتها بطبقة من الجير للحد من امتصاص الحرارة.2
مصادر التمويل:
كانت “مبادرة القاهرة لتلوين أطباق الأقمار الصناعية” ومبادرة “تلوين المدينة الرمادية” يتطلبا قليلاً من التمويل، فقط ما يكفي لشراء بضع علب من التلوين. بالنسبة للأولى، فقد كان جيسون ستونيكينج يقوم بشراء مستلزمات التلوين عندما يكون مشاركاً في التلوين وعندما يكون غير مشارك، كان السكان يقومون بشراء المستلزمات بأنفسهم.
بالنسبة إلى “تلوين المدينة الرمادية”، كانت المشاريع الأولى ممولة ذاتياً بواسطة الفريق ولكن عندما نمت هذه المبادرة، فقد تلقت دعماً من أستاذ بجامعة حلوان الذي ساعد الطلاب على أن يقوموا بالاتصال بشركات التلوين ليصبحوا رعاة لعملهم. وقد وجدوا راعياً – شركة سكيب للدهانات – التي لم تقدم التلوين فحسب، بل قدمت أيضاً نصائح للفريق بالنسبة إلى خيارات الألوان.
أما “تلوين القاهرة” ونظراً إلى أن مجالها أوسع فقد كانت في حاجة إلى ميزانية أكبر. يقدر فريق تكوين أن متوسط المبلغ اللازم لإقامة السقالات والمحارة وتلوين واجهة مبنى من أربعة طوابق (الذي يبلغ متوسط ارتفاعه 14 متراً) هو 11000 – 15000 جنيه. ونظراً لأن الأموال المتاحة محدودة فإن المباني المتدهورة من الناحية الانشائية، والتي تتطلب إصلاحات انشائية ضخمة، لم يتم اختيارها.
التفاعل مع الحكومة والسكان:
إن مبادرات التلوين تتطلب تصريح كل من السكان والموظفين العموميين. تطلب “تلوين المدينة الرمادية” الحصول على تصريح من محافظ الجيزة ومحافظ القاهرة وذلك فضلاً عن دعم رؤساء الأحياء، الذين لم يقوموا فقط بإصدارالتصاريح للمشاريع، ولكن ساعدوا أيضاً في تنفيذها. على سبيل المثال، فإن “تلوين المدينة الرمادية” قامت بتلوين سلالم عامة وقد تكفل رئيس الحي بتنظيف السلالم قبل قيام الفريق بتلوينه. وقد ساعد عميد كلية الفنون الجميلة “سيد قنديل” الطلاب على الحصول على التصاريح اللازمة.
أما “تلوين القاهرة” فقد تلقت دعماً وتفويضاً من صندوق تطوير المناطق العشوائية (ISDF) ، وكان لزاماً عليها أيضاً أن تعمل عن كثب مع السكان للحصول على إذن منهم وللتعاون في تنفيذ المشروع.
بينما كانت “مبادرة القاهرة لتلوين أطباق الأقمار الصناعية” تركز بصورة حصرية على الممتلكات الخاصة وبالتالي كانت تتطلب فقط موافقة من سكان / مالكي المبنى. وقد كانت الشراكة الوثيقة بين آرت اللوا والمجتمع المحلي في المنطقة عاملاً حاسماً في ثقة السكان في الفنان الأمريكي ستونيكينج ودعمهم له.
التشاركية:
عادة ما ترحب مبادرات التلوين بمشاركة السكان و / أو المتطوعين أثناء مرحلة التنفيذ.
استخدمت مبادرة “تلوين المدينة الرمادية” و”مبادرة القاهرة لتلوين أطباق الأقمار الصناعية” منصات وسائل الإعلام الاجتماعية لجمع المتطوعين. بيد أن الثانية أعطت الأولوية لمشاركة المقيمين وذلك نظراً لصعوبة جمع أكثر من اثني عشر شخصاً على سقف واحد. وكان هدف هذه المبادرة الرئيسي هو تشجيع السكان على التعبير عن إبداعاتهم من خلال تلوين أطباق الأقمار الصناعية الخاصة بهم. لكن العديد من السكان كانوا يتوقعون أن يقوم الفنان جايسون ستونيكينج بتلوين أطباق الأقمار الصناعية بنفسه.
بينما طلب فريق “تلوين القاهرة” مشاركة المجتمع المحلي في عملية التنفيذ ليس فقط في اختيار المعالجات والألوان، ولكن أيضاً من خلال المساهمات العينية في تكلفة المشروع. ومن خلال تدريب السكان حول الاستخدامات المختلفة للجير في تقنيات البناء، فقد قاموا برفع مستوى الوعي بين السكان حول الآثار البيئية الإيجابية لاستخدام تقنيات المحارة المعتمدة على الجير.
بدأ فنان “تلوين أطباق الأقمار الصناعية بالقاهرة” جايسون ستونيكينج، بتلوين أطباق الأقمار الصناعية الموجودة على سطح مبنى المركز الفني “آرت اللوا” قبل أن يتوسع عمله إلى أسطح المنازل الأخرى في حي أرض اللواء وأحياء أخرى في جميع أنحاء القاهرة. وقد انضم إليه السكان المحليين في التلوين في معظم المباني. وتم تلوين أكثر من مائة من الأطباق على سطح حوالي أحد عشر منزلاً، قام ستونيكينج بنفسه بتلوين سبعة منها بمساعدة السكان في أحياء أرض اللواء، المرج، الدقي ووسط القاهرة (عمارة كوداك). وقد تم تلوين الأطباق في آخر ثلاثة أو أربعة مبانٍ بدون تدخل من ستونيكينج.
في يناير عام 2015 قامت “تلوين المدينة الرمادية” بتلوين أكثر من عشرة مناطق بما في ذلك سلالم كوبري 15 مايو العلوي وكوبري 6 أكتوبر العلوي ومحطة غمرة في مترو الأنفاق وجامعة حلوان وكلية التجارة في جامعة عين شمس وأسطبل عنتر في عزبة خير الله ومساكن عثمان في مدينة السادس من أكتوبر وحوائط الكيت كات وكوبري فاروق العلوي في المعادي وإلى جوار محطة مترو الأنفاق الزهراء. كما يدعي الفريق أيضاً أن مبادرتهم ألهمت جهوداً مماثلة في شبرا الخيمة،وكذلك في المدن في العديد من المحافظات مثل المنيا، المنصورة والإسكندرية والسويس والأقصر.
قامت “تلوين القاهرة” بأعمال المحارة والتلوين لخمسة مبان في عزبة خير الله في نوفمبر عام 2011. وبالإضافة إلى ذلك وبعد الانتهاء من المشروع الرائد وخلال نفس العام ، تمت محارة وتلوين 13 مبنى في منشية ناصر بالشراكة مع مؤسسة نبني.
كان هناك أثر غير متوقع للمشروع في عزبة خير الله ألا وهو ما تم على إثره من تقديم الخدمات العامة للمنطقة. فبعد فترة وجيزة من الانتهاء من إعادة تجديد المبانى، قامت الحكومة بإيصال نظام الصرف الصحي إلى تلك المنطقة من عزبة خير الله. وكان للمشروع أيضاً أثر مالي إيجابي بالنسبة للملاك المباني حيث أنهم تمكنوا من التأجير بسعر أعلى من الايجار السابق الذي كان 100 – 150 جنيه شهرياً وتم رفعه إلى 200 – 250 جنيه شهرياً. وعلى ما يبدو أن هذا لم يؤثر على المستأجرين الأصليين الذين لديهم عقود إيجار قديمة. وأخيراً، شجع المشروع غيرهم من المقيمين في المنطقة المحيطة علي تجديد واجهات المباني بأنفسهم.
تعتمد استدامة هذه المبادرات الثلاث على قدرة القائمين على المبادرات على تعميم الفكرة وحشد المتطوعين وتوفير التمويل اللازم.
فقد كان الهدف العام من إطلاق “مبادرة القاهرة لتلوين أطباق الأقمار الصناعية” هو الترويج للفكرة لكي يقوم الأفراد بنسخ هذه الفكرة، بدون وجود منظمين من خارج السكان أنفسهم. ويأمل ستونيكينج أنه في السنوات الخمس أو العشر القادمة، ستعرف القاهرة بأنها مدينة أطباق الأقمار الصناعية الملونة. وبالرغم من ذلك، وفي نهاية إقامته لمدة ثلاثة أشهر في القاهرة في ديسمبر 2014، علم ستونيكينج أن ثلاثة أو أربعة أشخاص فقط قد قاموا بتلوين أطباق الأقمار الصناعية الخاصة بهم الموجودة على الأسطح. هذا العدد الصغير يتناقض مع العدد الكبير جداً من الأفراد (أكثر من 200 فرد) الذين اتصلوا بستونيكينج للانضمام إلى مبادرته. هذا يدل على أن الاهتمام الفردي بمبادرة لا يؤدي دائماً إلى نتائج ناجحة وأنه ربما يكون أكثر فعالية أن يتم توجيه هذه الاهتمامات إلى جهد جماعي.
بينما استدامة “تلوين المدينة الرمادية” على المدى الطويل تستند إلى حد كبير على العمل التطوعي والمساهمات المالية العينية لشركة التلوين. لقد جذب منظمو المشروع بسهولة المتطوعين حيث قام أفراد غير منتسبين إلى الجامعة بالانضمام إليهم في التلوين. وبالإضافة إلى ذلك فقد خفضت الشركة تكاليف المشروع من خلال التبرع التلوين. وقد ساعدت أيضاً على إطالة عمر التلوين في المناطق التي تم طلاؤها من خلال توفير تلوين ذي جودة أعلى من ذلك الذي قام الفريق باستخدمه في البداية.
أما مبادرة “تلوين القاهرة”، فتنفيذها على نطاق واسع هو الأكثر تعقيداً، نظراً للتكلفه العالية والمهارات الفنية اللازمة لتنفيذها. وبالتالي، يمكن تبني هذا النموذج من قبل المؤسسات الحكومية للتطوير العمراني العاملة في المناطق اللارسمية ولكن ليس من قبل السكان أنفسهم، على الرغم من أنهم يتستطيعون، وغالبا ما يكونون على استعداد أن يقوموا بالمساهمة في هذا الجهد.
على مدى الأشهر القليلة الماضية أصبح الشعب مهتماً جداً بمبادرات التلوين. هذا الاهتمام يجب أن يكون مفهوماً في إطار حركة إعادة تخصيص المساحة العامة الجديدة التي بدأت مع ثورة 2011، حيث حاول المواطنون استعادة ملكيتهم لمساحات المدينة، وغطت رسوم الجرافيتي -ذات الدوافع السياسية- الجدران والأسوار في مناطق كثيرة من القاهرة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يُنظر إلى مبادرات التلوين ضمن سياق دولي، حيث أصبح فن الشارع وسيلة لتجميل الأحياء المهمشة في المدن في مختلف أنحاء العالم. أحد أكثر الأمثلة شهرة هي مبادرة تلوين “فافيلا” في ريو دي جانيرو بواسطة المصممين الهولنديين “جيرون كولهاس” و”دري أرهان” والتي بدأت في البرازيل في عام 2005، هذا بالأضافة إلى برنامج “العودة إلى الهوية” الذي أطلقه “ايدي راما” رئيس بلدية “تيرانا” في ألبانيا في عام 2000.
فهم السياق: مبادرات التلوين والكتابة على الجدران وحركة فن الشارع
قبل عام 2011 كانت أشكال التعبير الفنية في شوارع القاهرة تقتصر على الإفصاح عن الحب (على سبيل المثال ‘ياسين + ليلى = ♥) والأعلانات التجارية بطريقة الإستنسيل ورسوم دينية عن الحج وعلامات النادي الأهلي وهو أحد الأندية الأكثر شعبية في كرة القدم المصرية (كلاوس 2014). في تلك الحالات، كان الفن في حد ذاته ليس هو المقصد الأول للأفراد الذين ابتكروا هذا النوع من الرسومات أو الكتابة على الجدران في الأماكن العامة. أن الفن الحضري، الذي يُفهم على أنه شكل فني متعمد للتعبير في الأماكن العامة خارج الأماكن التقليدية قد ظهر في مصر في أعقاب ثورة 2011. إلا أن مبادرات التلوين تختلف عن الكتابة على الجدران في نواحٍ عدة.
كانت (ولا تزال) رسوم الجرافيتي الثورية المشبعة بالسياسة متمردة، تتحدى السلطة وتتخطى المعايير المتعارف عليها في مناقشة القضايا السياسية والدينية والاجتماعية الحساسة والمثيرة للجدل. وهي عادة ما تحمل رسالة سياسية واجتماعية قوية، وتشكل “وسيلة إعلام محلية الصنع” تهدف إلى الطعن في وسائل الإعلام التقليدية (المطبوعات والتليفيزيون) (ساندرز IV، 2012). إن الكتابة على الجدران قامت بتضخيم الثورة والحث على استمرارها عن طريق إنشاء ميدان عام لمعارضة الرموز والمؤسسات السياسية – الرئيسين السابقين مبارك ومرسي والأجهزة الأمنية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة (SCAF) وجماعة الإخوان المسلمين، الخ. كما استخدم الجرافيتي في تلك الفترة في كثير من الأحيان لدعم بعض الشخصيات العامة وأحياء ذكرى الشهداء مثل ضحايا أحداث بورسعيد حيث قتل أربعة وسبعون من “ألتراس” مشجعي النادي الأهلي لكرة القدم يوم 1 فبراير 2012 (كلاوس، 2014).3 وعلى النقيض من ذلك فإن الكثير من الجرافيتي منذ 2013 أصبحت داعمة للنظام الجديد، أما رسوم الجرافيتي المعارضة -متى رسمت- فتتم تغطيتها سريعاً بطبقة جديدة من التلوين.
على النقيض من ذلك، فإن مبادرات التلوين ليست متمردة على وجه الإطلاق. إن المشاركين يطلبون تصريحاً من السلطات العامة لكي يقوموا بتلوين الممتلكات العامة أو قد يقتصرون على تلوين العقارات التي يمتلكها القطاع الخاص وهذه لا يمكن أن يساء فهمها على أنها أعمال تخريب متعمد للممتلكات. وقد تكون لمبادرات التلوين رسالة اجتماعية أيضاً، ولكن الرسالة ليست تحدياً سياسياً للسلطة، بل هو تحدًّ للمجتمع لمعرفة وفهم وتحسين الفضاء من حوله. ومن ثم ما هو الأثر الفعلي لمبادرات التلوين؟ إن مبادرة تلوين فافيلا وتجربة بلدية تيرانا توفر لنا بعض الأفكار في هذا الصدد.
تأثير مبادرات التلوين: أمثلة من مشروع تلوين فافيلا و برنامج “العودة إلى الهوية” في تيرانا بألبانيا
إن المشروع الذي وضعه كلٌ من جيروين كولاس ودري أورهان، أو “هاس وهان”، بدأ بعد أن زارا لأول مرة حي فيلا كروزيرو في ريو دي جانيرو بالبرازيل، لتصوير فيلم وثائقي عن الحياة في أحد الأحياء الفقيرة العشوائية -وتدعى الفافيلا.4 كان مقصدهما الأصلي لا علاقة له بالحالة الفقيرة في الفافيلا. لقد كانا ببساطة يرغبان في الحصول على تصريح للتلوين في أجواء فريدة من نوعها وتمثل تحدياً لهما.
إلا أنهما مع مرور بعض الوقت بدءا في رؤية مشروعهما كوسيلة لتحدي وصمة العار التي تصم هذه المناطق والتعاطي مع بعض القضايا الأكثر إلحاحاً بما في ذلك الفقر والجريمة. وقد كان من المأمول أن تجذب المشاريع الفنية العامة غيرها من المشاريع الإنمائية مما قد يخلق بالتالي مصادر جديدة طويلة الأجل للدخل بالنسبة لسكان المناطق العشوائية وذلك من خلال زيادة السياحة في المنطقة أو ربما تحد من تجارة المخدرات والجريمة، وربما تساهم على المدى الطويل في تقليل عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في البرازيل.
من بعض النواحي، كان مشروع تلوين فافيلا ناجحاً جداً. بعد إنتاج عدد قليل من اللوحات، بدأ كولهاس وأرهان حملة لجمع التبرعات عبر الأنترنت (crowdfunding) في أواخر عام 2013 والتي من خلالها تمكنا من جمع ما يزيد على 100000 دولار أمريكي في ما يزيد قليلا على الشهر. ومن ثم، كانت لديهما حرية وفرصة لتنفيذ المبادرة على نطاق أوسع (كولهاس وأرهان، 2014)
غير أن التوقعات والتأثير الإجمالي لمشروع تلوين فافيلا كانت مثيرة للجدل. على ما يبدو أنه قدم حلولاً أقل للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية مما كان يدعى. وعلى سبيل المثال فإنه لم يتم حل مشاكل نظام الصرف الصحي حتى الآن في حي سانتا مارتا. وبالمثل، وهو ليس من المستغرب، فإن تجارة المخدرات والجريمة لم ينخفضا بصورة كبير من جراء هذه المبادرة. وزيادة فرص العمل في قطاع السياحة لم تتحقق أيضاً. وبإضفاء الرومانسية على الأحياء الفقيرة من خلال الاحتفاء بحياة وحيوية سكانها، فإن المشروع ربما قد كان له أثر عكسي حيث أن السكان يشعرون بخيبة أمل بشكل متزايد من قبل مثل تلك المشاريع (رحمن، 2014).
وبشكل عام، إذا لم يكن لتلوين الجدران والسلالم والبنية التحتية أو الأسوار الأثر الاجتماعي المزعوم إلا كجزء من سياسة شاملة للتجديد العمراني، فهي تدخلات رخيصة ومنخفضة التكاليف من الممكن أن تقوم الحكومات باستخدامها لإثبات وجودها للمواطنين وللتدليل على أن هناك تغييراً إيجابياً سوف يحدث في المستقبل. ايدي راما، الرئيس السابق لبلدية تيرانا في ألبانيا، أستخدم هذا النهج من خلال برنامج تلوين الواجهات في أوائل هذه الألفية .
فيما بين عامي 1946 و1992 كانت ألبانيا بلداً شيوعياً وواحدة من أكثر الدول عزلة في العالم. بعد انهيار النظام الاشتراكي في عام 1992، وإصابة الاقتصاد المركزي والدولة بالضعف، انفجرت عملية البناء غير الرسمي في تيرانا وبدأ الناس يهاجرون من الريف إلى المدينة بأعداد كبيرة. وعندما انتُخب راما عمدة في عام 2000 كان قد تم ابتلاع الأماكن العامة في المدينة وامتلاء النهر الذي يجرى في وسط المدينة بالمخلفات. كانت المدينة تواجهها الكثير من التحديات، ولكن حيث أن العمدة كانت لديه ميزانية صغيرة جداً فقد كان مشروع للتطوير العمراني على نطاق واسع غير وارد على الاطلاق.
تصور رئيس البلدية راما ، والذي كان فيما سبق طالباً في كلية الفنون، مشروع التلوين كحل مؤقت من أجل “إحياء الأمل الذي فُقد” نتيجة لسنوات من الشيوعية وإهمال الحكومة وتدهور المدينة والأماكن العامة بها (راما، 2012). كان من المفترض أن يقوم المشروع بالبدء في نوع جديد من العلاقة بين الحكومة المحلية والسكان من خلال إثارة الجدل حول المنظر العام للمدينة وكيفية تجديده (تريانتس، 2012a و b2010). عموماً، قد اجتذب المشروع بالفعل ااعترافًا دوليًا بالمدينة، وحصل راما على جائزة العمدة العالمي (World Mayor Award ) في عام 2004 (بوسكا، 2008).
مصالح وحدود مشاركة الحكومة
منذ عام 2013 أصبحت الحكومة المصرية حريصة على أن تقوم برفع مستوى حالة المباني في بعض المناطق في القاهرة. على مدى الأشهر القليلة الماضية، بدأت المحافظة في مشروع التجديد الحضري في وسط القاهرة، “مشروع تطوير القاهرة الخديوية“. وقد تم تلوين الكثير من المباني المطلة على ميدان التحرير في وسط القاهرة، بما في ذلك مبنى المجمع (أكبر مبنى إداري حكومي في البلد)، وما زالت أعمال التلوين جارية لمباني أخرى في وسط القاهرة. بعد إنشاء وزارة الدولة للتجديد الحضري والعشوائيات في يونيو الماضي، أعلنت الوزيرة ليلى اسكندر أن الوزارة سوف تبدأ في تلوين واجهات المباني في عدة أحياء لارسمية في محافظتي القاهرة والجيزة منها منشية ناصر، عزبة خير الله و البحر الأعظم. وأخيراً، في 8 ديسمبر عام 2014 التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع كريستين ظريف مديرة إحدى المبادرات الطلابية للتلوين، “مبادرة حانلونها” هذا بالأضافة إلى عدد من جمعيات التنمية الشبابية. وخلال هذا للقاء أشاد الرئيس السيسي بالمبادرات وشدد على أهمية تعزيز دور المجتمع المدني.
إن تبني الحكومة لمشاريع التلوين ليس من المستغرب نظراً لأنها هي المشاريع الأكثر وضوحاً وتعبيراً ولأنها أقل تكلفة من إنشاء أو تجديد البنية التحتية أو تحسين الخدمات العامة. قد يجد البعض أن اهتمام الحكومة بهذه البرامج أهتمام أبوي في حين أن آخرين ربما قد يشعرون بالقلق بشأن استيلاء الحكومة على مشاريع المجتمع المدني الجارية. وبالإضافة إلى هذا فإن تدخل الدولة في مبادرات التلوين قد يكون له نتائج عكسية لأنها ربما تفقدان العفوية والديناميكية، التي يرى البعض إنهما تضمنان الاستدامة على المدى الطويل. إن مبادرة تلوين المدينة الرمادية، التي تعتمد على المتطوعين ومبادرة القاهرة لتلوين أطباق الأقمار الصناعية التي هدفها النهائي هو السماح للسكان بالتعبير عن إبداعهم، ربما تفقدا أسباب وجودهما إذا أصبحتا من المشاريع التي تديرها الحكومة. أما مبادرة تلوين القاهرة فهي تختلف حيث أنه تم إطلاقها بواسطة مهندسين معماريين يرحبون بتدخل الدولة من أجل توسيع نطاق المشروع.
وعموماً، سواء أن كانت البداية من الحكومة أو المتطوعين أو المقيمين يمكن لمبادرات التلوين أن يكون لها أثر اجتماعي إيجابي جداً: أنها تمثل اعترافاً بأن المساحة العامة أو البناء هو “جدير” أن يتم تزينه ويمكن أن تكون وسيلة للجمال المرئي وفي ذات الوقت تساعد على تغيير المدينة “الرمادية” العفرة. باختصار يمكن لهذه المبادرات توسيع نطاق الطرق المتنوعة التي يمكن للسكان من خلالها الاستمتاع بمدينتهم وجعلها خاصة بهم.
بوسكا، 2008
Pusca, Anca. 2008. “The Aesthetics of Change: Exploring Post-Communist Spaces”, Global Society, Vol. 22, No 3, pp. 369-386.
رحمن، 2014
Rahman, Fariha. 2014. “The Impact of Favela Painting”. Senior Inquiry High School Program, Paper 11.
ساندرز IV، 2012
Sanders IV, Lewis. 2012. Chapter 4: “Reclaiming the City: Street Art of the Revolution”. In Mehrez, Samia, Translating Egypt’s Revolution. The Language of Tahrir, The American University in Cairo Press, 143-182.
تكوين،2012
Takween. 2012. Paint Cairo Project. Concept Note, 15 pages.
تريانتس،
Triantis, Loukas. 2010a. “Urban Change and the production of space: The case of urban renewal in Tirana (2000-2008)”. Tirana Workshop II: Interventions in former-state residential complexes, University of Athens in partnership with Polis University, 10 pages.
Triantis, Loukas. 2010b. “Colour politics and urban identities. A critical evaluation of the facade-colouring project in Edi Rama’s Tirana”. 10 pages.
TED فيديو:
كولهاس وأرهان، 2014
Koolhaas, Jeroen and Urhahn, Dre. 2014. “How Painting Can Transform Communities”. TEDGlobal, October.
ناصر،2014
Nasser, Marwa. 2014. “Coloring a Grey City”. TEDxPortTawfik, December 6th.
راما، 2012
Rama, Edi. 2012. “Take back your city with paint”. TEDx Thessaloniki, May.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments