تأثرت الحكومة المصرية إلى حد كبير بالتقاليد الفرنسية أسوة بالبلدان العربية الأخرى مثل المغرب ولبنان (كاتوسا، كاتدرا وإدريسي جناتي، 2007). محمد علي تبنى هذا “النموذج الفرنسي” للحكم الذي كان يتسم بهيمنة السلطات المركزية على السلطات المحلية في القرن التاسع عشر وكان الهدف من ذلك توحيد البلاد وتعزيز إيرادات الحكومة المركزية .1 ومع ذلك، وخلافاً للتجربة المصرية استطاعت فرنسا تطوير هذا النموذج بشكل كبير حيث قامت الحكومة المركزية بتفويض صلاحيات متزايدة للسلطات المحلية المنتخبة وفي نفس الوقت حافظت على كيانها كدولة موحدة. ضمن هذا السياق قد نتساءل عن أوجه التشابه بين نظم الإدارة المحلية في مصر وفرنسا ولماذا قد يمثل النموذج الفرنسي مصدر إلهام لإصلاح نظام الإدارة المحلية المصري.
نموذج متماثل للإدارة المحلية
وبادئ ذي بدء من الضروري تحديد بعض المبادئ الأساسية للنموذج الفرنسي للحكومة وتطبيقه في كلا البلدين. مصرمثل فرنسا دولة موحدة. خلافاً للدول الفيدرالية والكونفدرالية الحكومة المركزية في دولة موحدة هي السلطة العليا، والسلطات التابعة لها تمارس فقط الصلاحيات التي تفوضها لها الحكومة المركزية. في الدول الموحدة هناك نوعان من السلطات التابعة للسلطة المركزية: المعينة والمنتخبة.
السلطات المعينة تمثل الحكومة المركزية على المستوى المحلي. في فرنسا السلطات المعينة تتمثل في الممثلون المحليون للسلطة المركزية (بريفكتس باللغة الإنجليزية). في مصرالسلطات المعينة تتمثل في التنفيذيين في كل الأجهزة المحلية: المحافظ ، ورئيس المركز ، ورئيس المدينة، ورئيس الحي، ورئيس القرية. وتمثل هذه السلطات المعينة ذراع الحكومة المركزية على المستوى المحلي، وهو ما نطلق عليه السلطة التفويضية . السلطة التفويضية هي نقل السلطة للأجهزة المحلية المرتبطة بالسلطة المركزية بواسطة مبدأ التبعية الهرمية (باجونار 2004). ومسؤوليتها تنفيذ سياسات وأجندة الحكومة المركزية.
السلطة المحلية المنتخبة تمثل النفوذ المحلي. وهي في فرنسا تسمى الوحدات المحلية وفي مصر تسمى المجالس الشعبية المحلية. السلطات المنتخبة على المستوى المحلي تمثل النفوذ اللامركزي. اللامركزية هي عملية نقل المسؤوليات والموارد الى السلطات المحلية المنتخبة.
وهنا يكمن الفرق الحاسم بين الدولتين المصرية والفرنسية. كلتاهما دولة موحدة وكلتاهما لديها تمثيل قوي للحكومة المركزية على المستوى المحلي، وكلتا الحكومتان لا تسمحان بتمثيل السلطة التشريعية على المستوى المحلي. ومع ذلك يسمح نموذج الحكومة الفرنسية بتمثيل محلي قوى، بينما يظل هذا التمثيل محدوداً في مصر، كما سوف نوضح ضمن سياق هذه المقالة.
مسألة التمثيل المحلي هي النقطة الرئيسية لفهم منطق الإصلاح المعاصر لأجهزة الحكم المحلي ومفارقاته في مصر. سوف نستعرض بإيجاز النظام الفرنسي وتاريخه قبل مناقشة النظام المصري للإدارة المحلية.
نشأة نظام جديد للإدارة المحلية في فرنسا ومصر
بعد ثورة 1789 قُسمت فرنسا الى مستويين من الادارة المحلية: الكوميونات ( (communes والمحافظات (départements). انشأت الجمعية التأسيسية ’الكوميونات‘ وهي أصغر مستوى للإدارة المحلية. وذلك جاء بعد مراجعة نظام تقسيم الأبراشيات .2 وكنتيجة لعددها الكبير تم إنشاء اكثر من 40000 كميونة -أي وحدة مدنية محلية- . 3وبالأضافة الى ذلك أنشأت الجمعية التأسيسية 83 محافظة وهي ثاني وأعلى مستوى للإدارة المحلية في ذلك الوقت .4 عُهد بإدارة هذا المستوى الإداري الى مجلس تُعيّن الحكومة المركزية اعضاءه. ومن ثم ومنذ البداية خدمت المحافظات احتياجات الدولة لا السكان. وقد أسس نابليون بونابرت (1821-1768) نظام الممثلين المحليين للسلطة المركزية في عام 1800 لنفس هذا السبب.
وبهدف إحكام قبضته على البلاد وتنفيذ سياساته المبتكرة والمثيرة للجدل طبق محمد علي ( 1805-1848) أول نظام إداري حديث في مصر على غرار النظام الفرنسي.
في عام 1826 قسم محمد على الدولة الى 24 مديرية (أي ما يعادل المحافظات الآن) وكل منها قُسمت إلى مأموريات ثم أقسام ثم خطط. كما فُرض هذا النظام على قرى كانت موجودة بالفعل في النظام السابق للإدارة المحلية. مثل نظام نابليون كان الغرض الأساسي لهذا التقسيم هو تنفيذ سياسات الحكومة المركزية وربط قرى الدولة مباشرة بمحمد علي من خلال كادر من الموظفين المعينين الموالين له. على سبيل المثال كان المديرون والمأمورون ملزمين بإرسال تقارير منتظمة للقاهرة توضح كل التدابير المتخذة وتطلب موافقة الوالي. هذا النظام وحد مصر تحت حكومة واحدة وتحكّم في المناطق الريفية التي كانت فيما قبل تقع تحت سيطرة أسر المماليك الثرية وذلك أدى الى زيادة الإنتاج الزراعي وأتاح للحكومة المركزية جمع الضرائب بسهولة أكثر لتمويل مشاريع التصنيع القومية (هانتر، 1984).
منذ أن أنشأ محمد علي هذا النظام من حوالي مائتي عام إزداد حجم ومسؤوليات الحكومة المصرية إلى حد كبير ومع ذلك ظل هيكل السلطة على ماهوعليه. أعطى الدستورالمصري لعام 1923 مجالس المحافظات وضعاً قانونياً (المادة 132) وباعتباره أول دستور تقدمي في مصر، فمن الممكن اعتبار أنه قد بادربتمكين المجالس المحلية.
ورغم التغييرات الكاسحة التي نتجت عن الإصلاحات التي تبناها جمال عبد الناصر بعد 1952 فإن ذلك لم يؤدى إلى تغيير الإطار الذي يحكم الادارة المحلية (ندى، 2013).
في الوقت الحاضر يعين رئيس الجمهورية جميع المحافظين ويعين رئيس الوزراء كل المناصب التنفيذية الأخرى على صعيد المحليات. وكل هؤلاء التنفيذيين في الدوائر المحلية يقعون تحت سيطرة الرئيس نفسه. وبالمثل كل المجالس المحلية المنتخبة التي أدرجت أولاً تحت المادة 133 من الدستور ثم في قانون رقم (1960/124) واليوم في قانون (1979/43) لازالت تقع الى حد كبير تحت سلطة الحكومة المركزية.
في حين أن مصر شكلت نظامها للحكم المحلي على غرار النظام الفرنسي، إلا أن نظام فرنسا تطور تطوراً مراعيًا للعوامل الزمنية منذ عصر نابليون لاسيما منذ الثمانينات حيث قامت الدولة بالتخلي عن سلطاتها المركزية لصالح سلطة لا مركزية للمسؤولين المحليين المنتخبين، بينما ظلت السلطة في مصر مركزية إلى حد كبير.
تطور النموذج الفرنسي
تسببت عدة عوامل سياسية وإيديولوجية واقتصادية في تحقيق اللامركزية وتقليص سلطة (البريفكتس) تدريجيا في النظام الفرنسي. جاءت الدعوة الأولى لتطبيق اللامركزية من عالم الجغرافيا جان- فرنسوا جرافير. فكما تهيمن القاهرة على مصر فإن باريس أيضاً كانت تهيمن على فرنسا. ندد جرافير بتركيز الثروة والنفوذ هذا في كتابه “باريس والصحراء الفرنسية” الذي نشر في 1947. فهو أدرك أن النتيجة الطبيعية لتركيز الثروة هو الهجرة التدريجية من مناطق أخرى في فرنسا أو “تصحرها”. أشعلت آراءه النقاش حول اللامركزية في فرنسا وأجبرت الحكومة على معالجة المشكلة (باجونار، 2004).
ونظرًا لطبيعتها المركزية، اتخذت الحكومة الفرنسية نهجاً مركزياً لمحاولة إعادة التوازن للتفاوت في النمو الإقليمي والنفوذ. أنشأت هيئة عامة جديدة في عام 1963 (اللجنة المشتركة بين الوزارات للتخطيط والعمل الإقليمي) التي كانت مُكلفه بضمان تحقيق تنمية اقتصادية أكثر توازناً. وحددت اللجنة ثمانية مدن كبرى للتوازن (métropoles d’équilibre ) للحد من هيمنة العاصمة – باريس – ولدفع التنمية الاقتصادية المحلية (روشفور، 2002).
نتائج هذه السياسة كانت متفاوته نظراً لفشلها في الحد من سرعة نمو منطقة باريس. ومع ذلك فإنها فتحت الطريق نحو اللامركزية لأنها لفتت الأنظار إلى ضرورة توفير الموارد المالية والسياسية للسلطة المحلية لخلق التنمية الاقتصادية. التدبير الأول للبرلمان في هذا الصدد كان إنشاء مستويين جديدين للإدارة المحلية في 1966 وذلك أدى بدوره الى إنشاء أربعة مجتمعات حضرية في مدن ليل وليون وستراسبورج وبوردو. وهي نوع من الاتحاد بين الكوميونات (الوحدات المدنية المحلية) -والتي يطلق عليها الشراكة بين المحليات “إينتركوموناليتي”- الذي يمكّنهم من التعاون لتوفير الخدمات مثل جمع النفايات وإمداد المياه. حاولت الحكومة الحد من تقسيم الادارات المحلية نظراً لوجود عدد كبير جداً من الكوميونات في فرنسا – أكثر من 36000. لاحقاً تم تشكيل اتحادات أخرى من الكوميونات والغالبية العظمى منها الآن أدرج في شكل من أشكال الشراكة بين المحليات. وبالإضافة لذلك شُكلت 22 جمعية إقليمية عامة (établissements publics régionaux ) في 1972 وهذه الجمعيات مُنحت وضع قانوني في أعقاب إصدار قانون اللامركزية في 1982 وأصبحت مستوى إداري جديد فوق مستوى المحافظة.
وقد تلقت اللامركزية أيضا دعماً من النخبة المركزية. إن كبار موظفي الحكومة الذين كان إهتمامهم الأكبر ينصب على الكفاءة أصبحوا يدركون أهمية اعتناق نظام سياسي متعدد المستويات. ومما لا شك فيه أن النظام الأوروبي حبذ هذه التغييرات حيث قام العديد من البلدان بإصلاحات مؤسسية منحت السلطات المحلية قدرا أكبر من المسؤولية والاستقلال الذاتي.
وأخيراً في 1981 خلق انتصار الحزب الاشتراكي في كلٍ من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية للمرة الاولى منذ الأربعينات المناخ الأيديولوجي المواتي لتطبيق اللامركزية. كان الحزب منذ السبعينات يروج إلى ” الانتقال إلى الإدارة الذاتية ” للمجتمعات المحلية كجزء من برنامجه السياسي (جوتيريز رويز، 2012) .5 وقد فاز الحزب الاشتراكي ايضاً في 1975 في إنتخابات المحافظات وفي 1976 في إنتخابات البلديات وكان عليه أن يستجيب لمطالبة جمهور الناخبين بمزيد منالحكم الذاتي. قام الحزب بإتخاذ خطوات سريعة لتحقيق لامركزية السلطة ولتقوية السلطات المحلية في حالة فقدانه السلطة في الانتخابات التالية.
في عامي 1982 و 1983 قامت الحكومة المركزية تحت رئاسة الرئيس فرنسوا ميتران (1981-1995) بإصدار عدد من قوانين اللامركزية (باجونار، 2004). هذه “الثورة الهادئة” – كما يشار غالباً لهذا التغيير الجوهري في نظام الدولة في فرنسا – عززت الاستقلال المادي والإداري للمجالس المحلية وأعطتها قدراً من الحرية في إتخاذ القرار- وهو ما يعرف في القانون الفرنسي ب “السلطة التنظيمية” – وذلك دون الذهاب إلى حد منحهم السلطة التشريعية.
أدخل قانون 2 مارس لعام 1982 ثلاثة تغييرات أساسية. أولاً، نقل سلطة المحافظات التنفيذية من (البريفكتس) إلى رئيس المجلس المنتخب. ثانياً، وكما ذكر آنفا – منح وضع قانوني للاقاليم. وكنتيجة لذلك منحت المجالس الإقليمية الجديدة في 1986 سلطة تنفيذية واستقلال إداري من (البريفكت). واخيراً أزال القانون إشراف (البريفكت) الإداري وفقاً لمبدأ حرية الإدارة للسلطات المحلية. الآن على (البريفكت) الرجوع للقضاة الإداريين لحل النزاعات القانونية بدلا من اتخاذ القرارات بشكل مستقل (فرينو، 2012).
مسؤوليات الممثل المحلي للسلطة المركزية (البريفكت) قبل وبعد إصدار قوانين اللامركزية
في عام 2003 أعلن الرئيس جاك شيراك (1995-2007) عن خطوة أخرى نحو تحقيق اللامركزية بعد إنتخابه للمرة الثانية. وكان هذا الإصلاح بمثابة وسيلة لزيادة كفاءة الإدارة المحلية. منذ التسعينات كان تداخل الطبقات المختلفة من الإدارة المحلية التي لديها السلطة للتدخل في جميع مجالات السياسة العامة، بالإضافة الى الافتقار في الوضوح فضلاً عن زيادة تكاليف الإدارة والتنسيق، يمثل واحداً من الانتقادات المتكررة الموجهة تجاه نظام الإدارة الفرنسي .7 كان من المتوقع أن توضح إصلاحات نظام اللامركزية لعام 2003 المسؤوليات المنوط بها مختلف مستويات الإدارة. ولكن اتضح في النهاية أن القانون كان مقصوراً على نقل المسؤوليات والموارد المالية للسلطات المحلية.
يجب أن تُفهم هذه النتيجة كتنازل لجمهور الناخبين، الذي قام بانتخاب المسؤولين المحليين وأيّد إعادة إنتخاب الرئيس شيراك، وهم كانوا ذوي نفوذ أكبر في عملية صنع القرار على الصعيد القومي (لو ليدك، 2005). عقب اعتماد قوانين اللامركزية تزايد الاعتراف بجمعيات المسؤولين المنتخبين – مثل رابطة عُمد فرنسا ذات النفوذ – وفي البرلمان تزايد عدد الأعضاء الذين لديهم وظائف إضافية على المستوى المحلي (على سبيل المثال يمكن لعضو البرلمان أن يكون عمدة ) ( لو ليدك، 2007). 8
يبدو أن الأثر الرئيسي لإصلاح عام 2003، بدلاً من زيادة كفاءة الإدارة المحلية، كان التحسن في تقديم الخدمات العامة بالإضافة إلى زيادة التكاليف. في الواقع نتيجة لتطبيق قوانين اللامركزية ينزع المسؤولون المنتخبون نحو زيادة الإنفاق العام من أجل تلبية مطالب المواطنين من حيث جودة الخدمات العامة. على النقيض من ذلك يفضل موظفو الخدمة العامة في الحكومة المركزية الحد من الإفراط في الإنفاق حيث أنهم ليسوا مهددين باحتمالات الفشل في انتخابات مقبلة (لو ليدك، 2007).
وأخيراً، ومنذ2014، أصبح هنالك تعديلًا جديدًا قيد النظر من قبل البرلمان الفرنسي. مرة أخرى كانت كفاءة السياسة العامة هي الأساس المنطقي للإصلاح الذي تم إقرار خطواته الأولى في مطلع شهر يناير2.15. هذا القانون سيخلق “مدن كبرى” (متروبولية) – وهي نموذج جديد من الشراكة بين المحليات – في أكبر 13 اقاليم حضرية كبرى (متروبولية) في فرنسا عندما يتم التصويت عليه. تم التصويت جزئياً علي الخطوة الثانية في شهر نوفمبر 2014 وهي ستقلص عدد الأقاليم من 22 إلى 13، وفي نهاية المطاف ستزيل مستوى المحافظة من تقسيم الإدارة المحلية. والخطوة الثالثة التي من المتوقع أن تُناقش حوالي عام 2020 من المنتظر أن توضح وترشد توزيع المسؤوليات بين مستويات الإدارة المحلية المختلفة – الكوميونات، وتجمعات الكوميونات، والمحافظات، والأقاليم .9 إنه من السابق لأوانه التكهن بمدى نجاح هذه القوانين في أن تؤدي إلى تحسن في تنفيذ السياسة العامة على المستوى المحلي. ولكن النقاش المتقد الذي يدور الآن في البرلمان يؤكد في الواقع أن هيمنة السلطة المركزية التي كانت سمةالإدارة المحلية في ما قبل الثمانينيات قد انتهت.
آفاق اللامركزية في مصر
إن الوضع في مصر يختلف تماماً. على الورق كان من المفترض أن يعطي قانون الإدارة المحلية لعام 1979 الذي صدر في عهد الرئيس أنور السادات (1970-1981) صلاحيات أكبر للمجالس الشعبية المحلية بمنحهم سلطة الإشراف على جميع المرافق فضلا عن الإشراف على القرارات التي يتخذها الرؤساء والمجالس التنفيذية للوحدات الإدارية المحلية – المحافظات والمراكز والمدن والأحياء والقرى – الذين عينوا بواسطة السلطة التنفيذية. ولكن في الواقع كان للمجالس الشعبية المحلية سلطة أقل بكثير مما تحتاج للوفاء بمسئولياتها. كما وضحنا في مقال سابق لتضامن كان دور المجالس الشعبية المحلية إستشاري (وغير مُلزم) أكثر من كونه اشرافي، فإن أي قرار جديد للمجلس المحلي كان يجب أن تتم الموافقة عليه من المستوى الأعلى من المجالس المحلية كما كان يمكن أن يتم رفضه نهائيا بواسطة المحافظ إذ ما كان غير متوافق مع السياسة القومية. هذه القدرة المحدودة لصنع القرار من قبل المجالس المحلية كانت تتأثر أيضًا بالموارد المالية المحدودة التي تمنحها لها الحكومة المركزية. في السنة المالية 2012/2011 كان الإنفاق العام على الإدارة المحلية يقدر ب 12% من إجمالي الإنفاق العام للدولة، بالمقارنة الى 30 – 20 % تنفقها دول يمر إقتصادها بمراحل انتقالية مماثلة لمصر.
بعد ثورة 2011 صدر دستور جديد – صُدق عليه في 2012 – أثار الآمال أن المجالس المحلية ستكتسب مزيداً من الاستقلال. ولأول مرة خصص الدستور المصري فصلا للإدارة المحلية مع إرساء حقوق هامة فيما يخص الحكم الذاتي للوحدات الإدارية المحلية. فعلى سبيل المثال تنص المادة 190على ان ” قرارات المجلس المحلى الصادرة فى حدود اختصاصه نهائية، ولا يجوز تدخّل السلطة التنفيذية فيها “. والمادة 191 تنص على أنه ” يضع كل مجلس محلى موازنته وحسابه الختامى، على النحو الذى ينظمه فى القانون ” والمادة 192 تنص على أنه “لا يجوز حل المجالس المحلية “. ومع ذلك مازال غير معروف مدى مقدرة هذه المجالس المحلية على صنع القرار لإنها لا تزال تخضع لإشراف الدولة ” لمنع تجاوز المجلس لهذه الحدود، أو الإضرار بالمصلحة العامة، أو بمصالح المجالس المحلية الأخرى ” (المادة 190، 2012 الدستور المصري).
ولسوء الحظ بعد التصديق على تعديل آخر في يناير 2014 والذي يحتفظ تقريبًا بنفس القدر من الصلاحيات للمجالس الشعبية المحلية كما جاء في دستور 2012 – اتضح أن مشروع القانون الجديد للإدارة المحلية يقويّ الطابع المركزي للدولة المصرية (إقرأ تحليل تضامن عن تطور قانون الإدارة المحلية هنا). شدد اللواء عادل لبيب – وزير التنمية المحلية الحالي- في تصريح رسمي أن قانون الإدارة المحلية الجديد يعطي سلطات أوسع للمحافظين (الذين يتم اختيارهم من قبل السلطة المركزية) – وليس للمجالس المحلية. لم يتضمن مشروع القانون تقريباً أي تحويل للموارد المالية والقرارات التي تتخذها المجالس الشعبية المحلية من الممكن إعادة البت فيها في حالة ” الإضرار بالمصلحة العامة ” (المادة 20، مشروع قانون الإدارة المحلية) – وهو تعبير مائع قد تستخدمه السلطة التنفيذية لرفض أي قرار تتخذه المجالس الشعبية. ضمن هذا السياق من غير المحتمل أن تلعب هذه الآليات المطروحة دوراً فعالاً و تجعل الدولة أكثر خضوعاً للمساءلة، حيث تقتصر على جلسات استماع عامة قبل الموافقة على مشاريع التنمية المحليةوإمكانية وصول المجالس الشعبية المحلية للمعلومات ومساءلة المسؤولين المحليين المعينين. عموماً فإن مشروع القانون الجديد يؤكد ممانعة الحكومة لأخذ آراء ووجهات نظر المواطنين في الاعتبار عند تصميم وتنفيذ السياسات العامة، خاصةً على الصعيد المحلي.10
الخلاصة
بمقارنة نظم الإدارة المحلية الفرنسية والمصرية وتطورهما بمرور الوقت، قد يبدو إننا نطالب بالتطبيق الأعمى للنموذج الفرنسي في اللامركزية. ولكن ليس هذا هو المطلوب لأن النموذج الفرنسي له عيوبه من حيث زيادة الإنفاق العام بلا ضوابط. وبالإضافة الى ذلك، يصعب على الحكومة المركزية الآن أن تُصلح الإدارة المحلية وتطالب بتحسين كفائتها نظراً لأن الممثلين المحليين يمكنهم العمل كأعضاء في البرلمان وهذه المهام المزدوجة تشجعهم على ممارسة الضغط من أجل تحقيق مصالح المسؤولين المنتخبين المحليين. ومع ذلك، لا تنطبق هذه القضايا على مصر في المدى القصير، بما أن ميزانية الإدارة المحلية مازالت محدودة للغاية والممثلين المحليين ليس لهم نفوذ يذكر على الصعيد القومي.
ومن ناحية أخرى، كان لتطبيق اللامركزية في فرنسا العديد من النتائج الإيجابية: قامت بتحقيق تحسن ملحوظ في تقديم الخدمات. وكنتيجة لذلك، تحسنت صيانة الطرق، وهناك تحسن في العاملين في المدارس الآن، وتم إنشاء أنظمة سريعة للنقل بالحافلات والترام. تم تحقيق ذلك لأن مطالب المواطنين أصبحت في صميم إهتمامات المجالس المحلية المتنخبة. إذن فإن اللامركزية في فرنسا قد زادت من مساءلة الدولة وهذا بالضبط هو ما يمكن أن تجلبه اللامركزية لنظام الإدارة المحلية في مصر.
وبخلاف ما قد نتوقع لم تكن عملية تطبيق اللامركزية في فرنسا في البداية عملية عمودية أو نقل المسؤوليات من أعلى إلى اسفل. في الواقع هي كانت عملية نقل أفقي للسلطة على المستوى المحلي من ممثلي الحكومة المركزية المعينين لممثلين الشعب المنتخبين. في مصر، مازالت السلطة في أيدي ممثلي الحكومة المركزية. إن المادة 187 من دستور 2012 والمادة 179 من دستور 2014 في مصر تركتا المجال مفتوح لإمكانية انتخاب المحافظين -الذين يتم تعينهم حالياً-، فضلاً عن رؤساء المراكز المحلية ورؤساء المدن ورؤساء الاحياء وعُمد القرى – وذلك قد يمثل مدخلًا محتملًا للديمقراطية على المستوى المحلي. ومع ذلك فإن هناك بعض الخبراء المصريون الذين يصرون على أن المحافظين يجب ان يظلوا معينين على غرار التجربة الفرنسية بدون مقارنة كلا النظامين بشكل صحيح.
إن البريفكتس حالياً غير منتخبين ومن غير المنتظر أن يصبحوا منتخبين على المدى القصير أو البعيد بعد إزالة إشرافهم الإداري ونقل معظم سلطاتهم الى المجالس الإقليمية والأدارية والمجتمعية والبلدية. ولذلك ليس هناك أي مبرر لانتخابهم لأنهم لا يملكون سلطة صنع القرار وذلك على النقيض من وضع المحافظين في مصر الذين يسيطرون على معظم سلطة صنع القرار. لذا فإن إنتخاب المحافظين ورؤساء الوحدات الإدارية المحلية الأخرى لن يكون مطلوب لتنفيذ اللامركزية إذا حدث إنتقال مماثل للسلطة إلى المجالس المنتخبة.
في الختام يبدو من الضروري أن نؤكد إن اللامركزية لم تهدد كيان فرنسا كدولة موحدة. لم تُمنح السلطة التشريعية لأية مجالس محلية حيث أن هذه السلطة تظل من مسؤولية البرلمان فقط. وبالإضافة إلى ذلك مازالت مسؤوليات البريفكت في الحفاظ على النظام العام مستمرة كما هي. و لذلك إذا تم تطبيق الحكم الذاتي على المجالس المحلية فإن هذا لا يعني أنها سوف تصبح مستقلة عن الدولة. وخلافاً لما يقوله البعض فإنه إذا تحققت اللامركزية في مصر فمن غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى تقسيم البلد.
المصادر
باجونار، 2004
Baguenard, Jacques. 2004.La décentralisation, 7th edition. Paris: Presses Universitaires de France “Que sais-je”, 128 pages.
كاتوسا، كاتدرا وإدريسي جناتي، 2007
Catusse, Myriam, Cattedra, Raffaele and Idrissi Janati, M’hammed. 2007. “Decentralization and its paradoxes in Morocco.” In Driesken, Barbara, Mermier, Franck and Wimmen, Heiko (ed.), Cities of the South, London: Saqi Books, 113-135.
ندى، 2013
Nada, Mohamed. 2013. “Local Government Structure in Egypt: An In-Depth Look.” In ESCWA – Economic and Social Commission for Western Asia. Institutional, New York: United Nations, 77 pages.
فرينو، 2012
Frinault, Thomas.2012. “La décentralisation : retour sur deux siècles de réformes.” Métropolitiques.eu, October 1st.
جوتيريز رويز، 2012
Gutiérrez Ruiz, Carolina. 2012.”Les trajectoires de décentralisation en France et au Chili: uneapprochecomparée des ‘convergences’ et des ‘réappropriations‘.”Revue internationale de politiquecomparée, 19(1), 115-137.
هانتر، 1999
Hunter, F.Robert.1999.Egypt under the Khedives 1805-1879, From Household Government to Modern Bureaucracy.Cairo: American University in Cairo Press, 2nd edition, 288 pages.
لو ليدك، 2005
Le Lidec, Patrick. 2005. “La relance de la décentralisation en France. De la rhétoriquemanagériale aux réalitéspolitiques de ‘l’acte II‘.” Politiqueset management public, 23(3), 101-125.
لو ليدك، 2007
Le Lidec, Patrick. 2007.”Le jeu du compromis : l’Etat et les collectivités territoriales dans la décentralisation en France.” Revue française d’administration publique, No 121-122, 111-130.
روشفور، 2002
Rochefort, Michel. 2002. “Des métropoles d’équilibre aux métropoles d’aujourd’hui.” Strates, special issue.
ريلفين، 2014
Rivlin, Helen Anne, B. 2014. “MuḥammadʿAlī.” Encyclopaedia Britannica.
ويليامز، 2002
Williams, Robert D.2002. “Napoleon’s Administrative Army – His Prefects.” Member’s Bulletin: Napoleonic Society of America, No 72, 15-20.
روابط ذات صلة:
على الدين هلال. 2009.”لماذا لم تتحقق اللامركزية في مصر“, الأهرام اليومي, 12 ديسمبر
The Connexion. 2010.What exactly does a préfet do?
Royal Decree No. 42 on Building a Constitutional System for the Egyptian State. 1923.
مسيرة عبد الحق ولينا عطالله. 2014. “مقارنة بين دستور 2012 ومشروع دستور 2013“, مدى مصر, 13 يناير.
Tadamun. 2014.”3. Local Level”, Know your Government.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments