لشبرا مذاقها الخاص وأجواؤها الحميمة وسمعتها الفريدة بين أحياء القاهرة. أبناء شبرا يعتزون بانتمائهم إليها ويفتخرون به إلى الدرجة التي تجعل بعض المغنيين الشعبيين يخصصون لشبرا وأهلها أغنيات كانت هي بداية شهرتهم، وكأنها كانت جواز مرورهم إلى فئات الشعب، من شعبان عبد الرحيم الذي جمع أسماء شوارع شبرا المعروفة في أغنية كانت سبب صيته منذ حوالي ١٥ عاماً اسمها ’أحمد حلمي‘: «’أحمد حلمي‘ اتجوز ’عايدة‘.. كتب الكتاب ’الشيخ رمضان‘.. وكان شاهد ’العسال‘.. وجابوا الشمع من ’العطار‘» إلى ريكو الذي غازل ’بنات شبرا‘ في أغنيته المعروفة.
وشبرا لا تُذكر إلا مع صورة ذهنية لها كمركز لأكبر عدد من الأقباط في القاهرة. وفيما سبق، قبل أن يتم نقل سوق روض الفرج إلى مدينة العبور، كانت شبرا معروفة بكونها السوق الرئيسية للمدينة. وهي، بحكم موقعها شمالي القاهرة، مدخلها الذي يربطها بالوجه البحري، حيث تمر منها القطارات وخطوط المواصلات ما بين محافظات الدلتا والإسكندرية وبين العاصمة. وهي أيضاً وجهة لخط المترو الذي يحمل اسمها شبرا-الجيزة.
إلا أن لشبرا –بجانب هذه الأهمية الجغرافية والحضور الحميم في الوجدان المصري– تاريخاً حضرياً ثرياً، وهو يلخص قصة نشأة القاهرة الحديثة وتطورها. فالمنطقة –التي كانت أوائل القرن التاسع عشر لا تتعدى كونها ظهيراً للمدينة يكاد يكون خالياً من السكان تتخلله بعض المساحات المزروعة خارجها- شهدت على مدى القرن العشرين انفجاراً سكانياً هائلاً، جعلها من أكثر مناطق القاهرة تكدساً بالسكان. ورغم سمعة شبرا كأكبر تجمع للأقباط داخل العاصمة وربما في مصر، إلا أن النسيج الاجتماعي لها يضم اليوم شتى الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والعرقية المتعايشة معاً. ومؤخراً برزت شبرا كعنصر مهم في الثورة المصرية، وبوصفها المثال الأوضح على الوحدة الوطنية.
شُـــبرا في أرقام
عندما نتكلم عن شبرا بصفة عامة فإننا في الواقع نشير إلى ثلاثة أحياء تخضع للتقسيم الإداري لمحافظة القاهرة، وهي أحياء: شبرا، روض الفرج، والساحل. لكن في هذه المقالة، التي ستتناول منطقة شبرا والحي الإداري لشبرا، فإننا سنستخدم اسم “شبرا” بدلالته العامة لدى القاهريين وليست الرسمية. فأبناء القاهرة قد يقولون ’شبرا البلد‘ أو ’شبرا مصر‘ تمييزا لها عن حي شبرا الإداري الذي يعتبر جزءاً منها، أو يكتفون بقولهم ’شبرا‘ -هكذا في المطلق- لشهرتها دوناً عن الشبراوات الأخرى.
المحافظة: القاهرة
الحي: تنقسم شبرا لثلاثة أحياء (الساحل، روض الفرج، شبرا) - المساحة الإجمالية: ١٨,٦ كم مربع - عدد السكان: ٦٠٥٫٧٢٣ نسمة
قسم شبرا: المساحة الإجمالية: ٢,٨ كم مربع - المساحة المأهولة: ٢ كم مربع - عدد السكان: ٨١,٦٨٧ نسمة
قسم روض الفرج: المساحة الإجمالية: ٥,٢ كم مربع - المساحة المأهولة: ٢,٢٦٤ كم مربع - عدد السكان: ١٦٧,٦٥٣ نسمة
قسم الساحل: المساحة الإجمالية: ١٠,٦ كم مربع - المساحة المأهولة: ٢,٦١٢ كم مربع - عدد السكان: ٣٥٦,٣٨٣ نسمة
حكاية شُـــبرا
عن أصل التسمية يقال إنه كلمة فرعونية “شبرو”، وتعني ’الكوم‘ أو ’التل‘، والتي تم تحريفها في القبطية إلى “چبرو” بمعنى ’العزبة‘ أو ’القرية‘، ثم أصبحت الآن ’شبرا‘. وردت شبرا في كتاب “أحسن التقاسيم” للمقدسي كقرية تقع بين المنيتين أي القريتين المعروفتين باسم منية الإصبع ومنية السيرج. أما الإدريسي فقد ذكرها في موضعين اثنين؛ جاءت في أولهما باسم “سيروا”: «وبأسفل الفسطاط ضيعة سيروا، وهي ضيعة جليلة … يُعمل بها شراب العسل، وهو مشهور في جميع الأرض.» والموضع الثاني جاءت فيه باسم “شبره”. وفي طبعة أخرى من الكتاب وردت باسم “سبره”: «وهي قرية يُعمل فيها شراب العسل المُفَوّه في جميع الأرض، وبها خيمة البشنس.» خيمة بشنس هذه سنتحدث عنها بعد قليل، لكن الأمر الذي لا شك فيه هنا هو أن اسم “سيروا” الوارد في الموضع الأول هو تحريف، أو خطأ من ناسخ الكتاب، في اسم “شبرو” الوارد بكتاب المقدسي، حيث يقول محمد بك رمزي في مؤلفه “القاموس الجغرافي”:
«تبين لي أن “سيروا” محرفة عن “شبرو” التي هي “شبره”، وكلها اسم واحد لـ”شبرا” هذه؛ لأن من يتأمل ما ذكره الإدريسي يرى أنه نقل “سيروا” من مصدر غير الذي نقل عنه “شبره”. ومع اختلاف الاسمين بسبب التحريف، فإن كل مؤلف حافظ على وصف هذه القرية وما يُعمل فيها من شراب العسل، ومن وضعها بأسفل الفسطاط (أي جنوب مدينة الفسطاط) لأنه لم يكن بين الفسطاط وشبرا مناطق سكنية تذكر. وكانت الفسطاط تؤخذ كمقر معروف للتعريف بها بما بعدها.»
فقبل القرن الثالث عشر لم تكن شبرا التي نعرفها الآن موجودة، لكن مكانها كان ثمة مساحة صغيرة من الأرض بارزة فوق النيل تسمى جزيرة الفيل (والتي نعرفها اليوم باسم جزيرة بدران) بينما حولها مغمور بمياه النهر أو الفيضان، وهو ما أشار إليه أمين سامي باشا في كتابه “تقويم النيل”:
«عندما أوفى النيل في أواخر شهر أبيب، وكسر السد أول يوم من مسري، وفتحه “لاچين” أمير المجلس. وكان للناس مدة طويلة لم يروا قبلاً مثل هذا؛ لأنه (أي الفيضان) قطع الطرقات والجسور، وغرقت أراضي المنية، وشبرا، والروضة، وطريق مصر وبولاق (كانت وقتها ضواحٍ لمصر ولم تكن جزءاً من القاهرة) وجزيرة الفيل، وكوم الريش، وطفت الآبار. وكان كل هذا عام ٨٨٢ م.»١
و”شبرا” التي يشير إليها أمين سامي باشا هنا هي واحدة من القرى والضواحي التي كانت آنذاك تقع خارج زمام القاهرة، فقد ورد في “تحفة الإرشاد” أن «شبرا، من الضواحي»، وقد عُرفت بـ”شبرى الخيمة” أو “شبرى الشهيد”، وفي التحفة أيضاً: «شبرى الخيمة. وهي شبرى الشهيد من ضواحي القاهرة.» وفي كتاب “وقف السلطان الغوري” وردت هكذا: «شبرا القاهرة»؛ حيث تمت نسبتها إلى القاهرة لكونها من ضواحيها الواقعة حولها. وفي “قوانين ابن مماتي” وفي كتاب “الانتصار” وردت شبرا باسم “شبرا الخيمة”: «إن سوقها يوم الثلاثاء. وبها سوق، وجامع، وطواحين، وأفران، ومعاصر زيت حار و’سيرج‘، وغير ذلك.» والمقصود زيت السيرج الناتج عن عصر حب السمسم. وفي كتاب “تاج العروس”: «شبرا المكاسة لأن خيمة المكس كانت تُضرب فيها» حيث كانت مركزاً لتحصيل المكوس؛ أي الضرائب.
لكن خيمة المكس لم تكن المصدر الوحيد الذي قد يُعزى إليه تسمية القرية بـ”شبرا الخيمة”، ففي الخطط المقريزية: «وتعرف بشبرا الخيمة، أو الخيم، أو الخيام؛ لأن الناس كانوا يحتفلون سنويا بذكرى، على اختلاف طبقاتهم، في خيام ينصبونها على شاطئ النيل بشبرا هذه؛ للإقامة فيها عدة أيام عيد الشهيد.»
وبسبب عيد الشهيد هذا فقد كانت تسمى أيضاً “شبرى الشهيد”:
«يقال لها أيضاً شبرى الشهيد لأنه كان يوجد بهذه القرية صندوق صغير من الخشب في داخله إصبع شهيد من شهداء المسيحيين محفوظ بها دائماً. فإذا كان ثامن شهر بشنس من الشهور القبطية، يخرجون هذا الإصبع من الصندوق ويغسلونه في بحر النيل؛ لاعتقادهم أن النيل لا يزيد في كل سنة حتى يلقوا فيه ذلك الإصبع. ويسمون احتفالهم بذلك ’عيد الشهيد‘، فاشتهرت بهذا الاسم.»
هذه الحقبة الزراعية أو الريفية من تاريخ المنطقة، التي صارت الآن شبرا، تذكره لنا كتب التاريخ، حيث يظهر أن جزءاً كبيراً منها وقع ضمن بستان ’الجيوش‘ الذي أنشأه الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الدين الجمالي، والذي كان يمتد شمالاً شرق الخليج المصري حتى الوايلي، وغرباً حتى منية السيرج (الجزء الشمالي الشرقي من حي شبرا الآن). كما أنشأ الأفضل منظرة رائعة (حيث كان الفاطميون مغرمين بإقامة المناظر هذه في الأماكن التي تتمتع بالمنظر الطبيعي) وقد عرفت بـ’منظرة البعل‘. وكان للفاطميين منظرتان أخريان بالمنطقة: الأولى ’منظرة التاج‘ والثانية ’منظرة الخمسة وجوه‘. وحتى الآن نلمح أثراً باقياً لهذا التاريخ البعيد في أسماء بعض الشوارع والميادين بشبرا. فمن شارع الترعة البولاقية، أحد أهم شوارعها الرئيسية، تتفرع شوارع: المنظرة، الوجوه، والجيوشي. وفي خلفية الشوارع المتفرعة من الجانب الأيمن لشارع الترعة، نجد ميداناً صغيراً يسمى ميدان ’الأفضل‘.٢
ما حدث بعد ذلك هو أنه في القرن التاسع عشر طرأ امتداد على القاهرة ناحية الشمال والشمال الغربي، أدى لظهور أحياء جديدة لم تكن موجودة من قبل. كان ذلك نتيجة لظاهرة طرح النيل، وهي عملية تتراكم عاماً بعد عام وتتكون من تحول مسار النيل وترسب الطمي الذي يجلبه معه النهر والفيضان. وحتى ذلك القرن لم تكن قد ظهرت إلى الوجود أحياء شبرا وروض الفرج وبولاق، فقد ظلت هذه الأرض غير مأهولة بالسكان حتى أوائل عصر محمد علي.
وإلى محمد علي باشا يرجع الفضل في تطور شبرا ونواحيها، بدءاً من عام ١٨٠٨ حين اختارها لبناء قصر كبير بها. ويرى أندريه ريمون أن محمد علي، الذي كان يهوى سُكنى الأماكن الريفية، قد ساهم في تحقيق تنمية عمرانية لاحقة، وفي تأسيس ضواحٍ حضرية عديدة واعدة، من خلال تشييده قصوراً لنفسه في الريف، وهو ما حدث بالنسبة للقصر والحديقة اللذين أنشأهما الباشا في شبرا.٣
اختار محمد علي هذه القرية على شاطئ النيل؛ شبرا الخيمة، لتكون موقعاً لقصره، حيث خصص مساحة ٥٠ فداناً في «متسع من الأرض يمتد إلى بركة الحاج» واستولى في طريقه على عدة قرى وإقطاعيات.٤ بعض المصادر تقدر أن مدة بناء القصر قد امتدت على عدة مراحل بدأت من عام ١٨٠٨ حتى ١٨٢١، مع استمرار البناء والإضافة إليه بعد ذلك حتى عام ١٨٣٦.
وفي عام ١٨٤٧ ، أي قبل عام واحد من نهاية حكم محمد علي، أمر الباشا «بتمهيد طريق متسعة بين مصر وشبرا» وهو ما يعني أنه حتى ذلك التاريخ لم يكن يُنظر إلى شبرا أبداً كحي من أحياء القاهرة، بل أنها كانت ضاحية من البُعد ما يقتضي معه مدّ طريق بينها وبين القاهرة. هذا الطريق يمثل البداية لشارع شبرا الآن، وقد كان يطلق عليه حينها ’جسر شبرا‘. وكان هدف محمد علي من ذلك الشارع هو أن يكون مكاناً للنزهة والترويح، لذلك جاءت أوامره بأن يكون ذلك الطريق أعرض وأكثر استقامة من أي شارع آخر في مصر وقتها.
امتد ذلك الطريق ما بين شبرا وقنطرة الليمون بالقاهرة، وعلى جانبيه تم غرس أشجار اللبخ والجميز بالتبادل، كما صدرت التعليمات برش المياه مرتين يوميا؛ عند الضحى وعند العصر، لتلطيف الأجواء في الصيف ولتثبيت التراب في الشتاء، كما تم تعيين عمال مخصوصين للمحافظة على نظافة الشارع وتعهد أشجاره بالرعاية. وقد وجّه محمد علي أفراد أسرته والأغنياء والأعيان لبناء قصور لهم على طول الشارع، حتى أصبح ذلك الطريق من الجمال ما دفع چيرار دي نرڤال، أحد الشعراء والرحالة الفرنسيين، إلى وصفه بأنه «بالتأكيد أجمل شارع في العالم.»٥ وقد صار هذا الشارع مجتمع الصفوة من الأهالي والأوروبيين المقيمين بالقاهرة آنذاك، حتى إن بعض الرحالة الفرنسيين والزوار الأوربيين وصفوا شارع شبرا وحدائقه بأنه ’شانزلزيه القاهرة‘، حيث مظاهر الحياة غربية أكثر منها شرقية، فالشارع كان…
«… أكثر روعة مئة مرة من حديقة هايد بارك فى مايو أو يونيو: فلاحون (مصريون) على الحمير ركوبتهم المفضلة؛ و(جياد) عربية أو إنجليزية الأصل يمتطيها بكوات (أتراك) يتغندرون ومصرفيون يهود ما زالوا هم الأقدر على التأنق؛ حشد متدافع يضم مختلف المركبات التي تجرها الخيول؛ بدءاً من تلك المكدسة بالسائحين الذين تجلبهم شركة كوك، وحتى أسرع العربات الخفيفة والڤيكتورية الطراز المصنعة في لندن أو ڤيينا، حيث حريم الخديوي يواكبهن الخدم الخاص بهن، أو الكونتيسات البولنديات أو أولئك القادمات من موناكو لاهيات مع العزاب (الأوربيين) من نزلاء شبرد أو (الفندق) الجديد.»٦
وهكذا أصبحت شبرا الحي السكني المفضل للأسرة الحاكمة والطبقة الأرستقراطية، ومقصداً للتنزه والتريض يرتاده أبناء القاهرة. ومن أهم القصور التي شيدت في المنطقة قصر زينب هانم بنت محمد علي، وقصر إنجه هانم قرينة محمد سعيد باشا والي مصر، وقصر عمر طوسون باشا، الذي لا يزال أحد شوارع شبرا يحمل اسمه حتى الآن، وقد تحول قصره إلى مدرسة شبرا الثانوية، وكذلك قصر النزهة الذي كان مكاناً لاستجمام الخديوي إسماعيل كما استخدم كقصر ضيافة للشخصيات الهامة، ومكانه الآن مدرسة التوفيقية، وقصر شيكولاني الذي آل به الحال إلى أن يصبح مدرسة هو أيضاً.
وقد بقي طريق شبرا على حاله من الجمال والرونق حتى عام ١٨٦٩ ، عندما دعا الخديوي إسماعيل الملوك والسفراء لحفل افتتاح قناة السويس، حيث تم اقتلاع جانب من أشجار اللبخ وإعادة غرسها على الطريق المؤدي إلى مقر إقامة إمبراطورة فرنسا أوچيني بسراي الجزيرة (في فندق الماريوت الآن)، كما تمت زراعة عدد آخر منها على طريق الأهرام (شارع الهرم الآن) الذي مهده الخديوي للإمبراطورة، وذلك للتلطيف من حرارة الجو أثناء زيارتها المقررة لمنطقة الأهرام. وفي الخطط التوفيقية، يقول علي مبارك إنه قد تبقت بقية من أشجار الجميز ’الآن‘ (أي في عام ١٨٩٠ وقت تأليفه للكتاب) عند نهاية الطريق بالقرب من شبرا البلد، لكن تلك البقية الباقية من الأشجار لم تلبث أن اختفت هي الأخرى مع الزمن.
شارع شبرا في مراحل تاريخية مختلفة، حيث تظهر صفوف الشجر على جانبيه والتي كانت تعطيه مظهراً حضرياً مميزاً في بدايته، كما تظهر بعض القصور ذات الحدائق التي كانت في وقت من الأوقات منتشرة بطول الشارع
إلا أنه على الرغم من هذا التراجع في الاهتمام بالمنطقة باعتبارها مقراً للأسرة الحاكمة والحاشية الملكية، فإن التطوير لم يتوقف في شبرا..
فمع نهاية حكم محمد علي عام ١٨٤٨، كان الأساس لتنمية شبرا قد تم إرساؤه، كما كان لقرب شبرا من بولاق؛ الميناء الرئيسي للقاهرة، أثره الكبير عليها. فقد صارت بولاق خلال الفترة ما بين عامي ١٨١٨ و ١٨٣٤ مركزاً صناعياً كبيراً، مع الطفرة التي أحدثها بها محمد علي عندما اختارها لتضم عدداً من مصانع الغزل والنسيج الجديدة، مسبكاً للمعادن، مدرسة للهندسة، ومطبعة ستكون لمدة طويلة بعدها هي المطبعة الرئيسية للبلاد، والتي ستظل تُعرف أيضاً باسمها: مطبعة بولاق. الأمر الذي نتج عنه زيادة في حركة الميناء النهري وارتفاع لأعداد السكان في بولاق. ثم بافتتاح أول محطة قطار في القاهرة عام ١٨٥٦ في باب الحديد (محطة مصر الآن بميدان رمسيس) راحت المنطقة تجذب مزيداً من المهاجرين القادمين من الريف ومن خارج القاهرة، هؤلاء أو معظمهم اتجهوا للاستقرار حول هذا الميناء. كل هذا النشاط الاقتصادي والحركة العمرانية ساعد في توسع القاهرة شمالاً باتجاه شبرا شيئاً فشيئاً.٧
كل هذا وشبرا بعد لا تُعتبر رسمياً جزءاً من القاهرة. وبحسب القانون الذي أعده علي مبارك عام ١٨٦٨، وقت أن كان وزيراً للأشغال العمومية في عهد الخديوي إسماعيل، فإن القاهرة ومحيطها قد تم تقسيمها إلى أربع مناطق تقع بالعاصمة نفسها وأربع أخرى بضواحيها. وكانت شبرا ضمن مناطق الضواحي حسب هذا القانون وقتها، ومعها كانت مصر القديمة (الفسطاط)، وبولاق، والوايلي.٨
فيما تلى التحديثات الكبرى في عصر إسماعيل والتي كانت نتاج تنظيم شامل وإدارة مركزية مهيمنة، وبعد أن صارت إدارة المدينة فعلياً في يد سلطة الاحتلال البريطانية، حيث تميزت التوسعات في عهدهم بأن أفراداً هم من وقفوا وراء حركة التوسعات، دشنت السلطات البريطانية نظاماً جديداً للنشاط العمراني يقوم على تسليم أراض خالية بمساحات كبيرة مملوكة للدولة غير مقسمة بعد، إلى مُلّاك خاصين يتولون هم عملية تقسيمها. ونتيجة الإقبال المتزايد على شراء تلك الأراضي للبناء، توسعت الإدارة الإنجليزية فأضافت إلى الأراضي المعروضة من الدولة الحدائق الكبرى الواقعة في الضواحي، والعديد من الأراضي الزراعية “القابلة للبناء عليها”، وكذلك قطع الأراضي الكبيرة بالأحياء العمرانية. وقد كان لمنطقة شبرا وضع خاص أغرى السلطات الإنجليزية بسهولة إخضاعها لعملية التقسيم هذه الدائرة على نطاق المدينة بأكملها وضواحيها الواقعة حولها؛ فقد ترتب على تراجع تمركز الأسرة المالكة بقصر محمد علي، مع بداية ثمانينات القرن التاسع عشر، أن تخلّى المُلّاك الأرستقراطيون عن ملكياتهم الواقعة على جانبي طريق شبرا. وفي نهاية ذلك القرن، باتت القصور والحدائق الكثيرة والكبيرة على ذلك الطريق -الذي كان مكاناً أثيراً للإقامة والنزهات الأرستقراطية- مباني ومساحات مهجورة تشكل مطمعاً للحركة المتزايدة للعمران.٩
وفي كتابه عن التوسعات العمرانية الحديثة للقاهرة بين التدابير الخديوية وتدخلات الشركات الخاصة، يضرب المؤلف چان-لوك آرنو مثالاً على ذلك بقصر شيكولاني. فبعد أن بُني هذا القصر عام ١٨٧٣، سرعان ما دبّ فيه الإهمال. وبدءاً من عام ١٩٠٦ شغله مصنع للسجائر، ثم بعد ذلك بعدة سنوات قُسّمت حديقته إلى أراض صغيرة للبناء. وبحسب آرنو، لم يكن مصنع السجائر بقصر شيكولاني هو الوحيد من نوعه في شبرا، فقد بلغ عدد مصانع السجائر بها ست مصانع عام ١٩٠٧. هذه المصانع كان لها تأثير مزدوج: فمن جهة، أدت وفرة الأيدي العاملة في تلك المصانع إلى ظهور الحاجة لعدد كبير من المساكن بالمنطقة لأفراد ذوي قدرة مالية محدودة؛ ومن جهة أخرى، تقلصت مساحات الحدائق الخاصة، بعد أن تداعت قيمتها الانتفاعية في ظل الوظيفة الجديدة للقصور المهجورة، والتي صارت من ضمن الأراضي المعروضة على مقسمي الأراضي الخاصين.١٠
وبحلول القرن العشرين كان وجه المنطقة آخذاً في التشكل من جديد، وذلك مع دخول وسائل المواصلات الحديثة البلاد. ففي عام ١٩٠٢ تم مد خط الترام الجديد حتى شبرا، ولأول مرة في عام ١٩٠٣ تُشاهد السيارة تتجول في شوارع القاهرة. وكان قد تم شق شارع رمسيس (شارع عباس الأول آنذاك) في عهد عباس حلمي الأول -ثاني حاكم لمصر من أسرة محمد علي- مكان الخليج المصري (الناصري) الذى كان قد تم ردمه ضمن التطويرات التي أحدثها محمد علي على القاهرة. مع كل هذا، وباستمرار توسع المدينة شمالاً، فإن الوصول إلى شبرا لم يعد أمراً صعباً بالنسبة لمعظم سكان القاهرة. وقد ظلت شبرا تتوسع وتمتد عمرانياً، وبحلول عام ١٩١٢ كان يربط شبرا بالقاهرة ٤ خطوط ترام من إجمالي ٢٠ خطاً في كل القاهرة، وثلاثة خطوط أتوبيس.١١
ثم قامت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨)، وكانت مصر مشتركة فيها بحكم تبعيتها للاحتلال البريطاني. وقد وجدت الصناعة المحلية مناخها الملائم في هذه الحرب، فالشعب من ناحية محتاج للغذاء والكساء، وجيوش الإمبراطورية البريطانية من ناحية أخرى تحتاج إلى مصنوعات كثيرة، على رأسها المنسوجات. وقد نالت صناعة الملابس اهتماماً كبيراً، بالذات بعد توقف الواردات الألمانية والنمساوية من الملابس الجاهزة، والتي كانت تبسط سيطرتها على الأسواق المحلية آنذاك، حتى أن الطرابيش نفسها كانت ترد قبل ذلك من النمسا. استجابة لهذا الطلب المتزايد والمُلِح في السوق المصرية، جرى إنشاء العديد من المصانع في القاهرة ومناطق أخرى من القطر المصري مثل قها. وكانت شبرا إحدى تلك المناطق التي أقيمت فيها مصانع للملابس والمنسوجات. يُذكر على سبيل المثال مصنع للقبعات أقيم بها عام ١٩١٦، حيث كانت هذه الصناعة منتشرة ومزدهرة إبان الحرب، وخاصة القبعات الحربية التي كان يضعها أفراد الجيش البريطاني.١٢ وبالضبط كما حدث في حالة بولاق المجاورة، تولدت الحاجة لوجود أماكن قريبة تستوعب أعداد العاملين في هذه المصانع، النازحين معظمهم من القرى، بعد أن تضرر قطاع الزراعة من الوضع الاقتصادي أثناء الحرب.
ولم تقتصر موجات النزوح على المصريين فقط، فخلال هذه الفترة اتجهت للسُكنى في شبرا جاليات غربية وأخرى شرقية من رعايا الدولة العثمانية، التي كانت مصر تتبعها بشكل اسمي، كالجاليات الشامية التي تركزت في منطقة جزيرة بدران، حيث لا يزال أهم شوارعها يُعرف بشارع قصور الشوام (أو قسورة الشوام). أما الجاليات الأوروبية، وأهمها الجاليتان الإيطالية واليونانية، فقد استوطنتا منطقة أول شبرا من ناحية ميدان رمسيس الآن، كما تواجدت فيها أيضاً جالية إنجليزية كبيرة، حتى إن ڤيكتوريا ملكة بريطانيا عندما جاءت إلى مصر حرصت على زيارة شارع شبرا للاطمئنان على أحوال الجالية الإنجليزية في مصر. كما سكنت جالية فرنسية في المنطقة التي تعرف الآن بشارع البعثة، الذي سمي بهذا الاسم لتمركز بعثة الرهبان الكاثوليك الفرنسيين به؛ حيث أقاموا كنيسة سان مارك. وقد ألحق الفرنسيون بالكنيسة مدرستين واحدة للبنات والأخرى للبنين، هما مدرستا نوتر دام ديزاپوتر، والقديس بولس، حيث كان قد جرى إنشاء عدد من مدارس الإرساليات الأجنبية في شبرا لتعليم أبناء الجاليات، منها أيضاً: بمباستير، ماري أوزيليا، چان پول، الدون بوسكو الإيطالية.. وغيرها. وقد أنشئت هذه المدارس لخدمة الجاليات الأجنبية التي كانت منتشرة هناك. ومعظم هذه المدارس لا يزال يعمل حتى الآن لكن لتعليم أبناء المصريين.١٣
وقد شهدت الفترة التي تلت انتهاء الحرب بزوغ نجم روض الفرج كمنطقة للفن والترفيه يقصدها أولاد البلد، بعيداً عن المسارح المتكلفة والغالية في شارع عماد الدين والأزبكية ووسط البلد، كما كانت أماكن لقضاء السهرات للعساكر الإنجليز أيضاً. وقد بدأ كل شيء كفكرة لمتعهد حفلات يوناني، استوحاها من شكل المسارح المفتوحة القديمة المألوف في التراث الفني للإغريق والرومان، حيث وجد أن الحضور خلال أشهر الصيف يكون محدوداً على العروض المسرحية المقامة على مسارح وسط البلد بتهويتها السيئة ومبانيها المغلقة على نفسها. وهكذا، مجرباً حظه، استأجر الخواجة اليوناني قطعة أرض فضاء على نيل روض الفرج، وكان نيل روض الفرج هو مصيف أهل القاهرة في شهور الصيف آنذاك، وكان المصريون يسمونه ’روضة العشاق‘، وجهز تلك الأرض بخشبة مسرح ومقاعد للمتفرجين، كما خصص ركناً للـ’بوفيه‘ ولبيع ’الساندوتشات والقازوزة‘ للزبائن ومرتادي المسرح، ’المرسح‘ بلهجة ذلك الزمان. كانت الفكرة مستغربة بادئ الأمر، بل ومستهجنة من أصحاب الفرق المعروفة وقتها، فالشيخ سلامة حجازي رفضها بدعوى أن مثل هذه الأماكن المفتوحة، والتي لا يعلو رأس الممثل فيها سقف، تمنعه من إتقان الدور! فلم يجد الخواجة بداً من التوجه إلى ممثل شاب صاعد وقتها، يدعى نجيب أفندي الريحاني، هو الذي قبل باستئجار المكان. وتنجح الفكرة نجاحاً شجع آخرين على أن يحذوا حذو الخواجة اليوناني، وهكذا في غضون سنتين فقط صار على نيل روض الفرج ثمانية مسارح صيفية مفتوحة،١٤ هي عبارة عن مزيج من المقهى والملهى أو ’الكازينو‘ والمسرح أو ’التياترو‘. من هذه المسارح: سان ستيفانو، بارك ميرامار، مونت كارلو، ليلاس.١٥ وكان أصحابها معظمهم من اليونانيين والأجانب كما يظهر من أسمائهم: يني، خريستو، أنطون. وكانت هذه المسارح تعمل يومياً من الساعة السابعة مساء حتى الحادية عشرة فقط، وذلك مراعاة لميعاد آخر ترام يمر بالمنطقة. حيث كان ذلك الترام، والذي يأتي من حي السكاكيني، يصل روض الفرج في الساعة الحادية عشرة.١٦
مجموعة من كازينوهات روض الفرج التي كانت تعمل كمقاهٍ ومسارح في نفس الوقت، كما سجلتها هذه البطاقة البريدية - المصدر
لأنه لم تكن هناك دور سينما منتشرة في ذلك الزمن، كانت مسارح روض الفرج هي وجهة الناس للترفيه والاحتفال، خاصة في المناسبات. كعيد الفطر - المصدر
شكّلت هذه المسارح العصر الذهبي للفن خلال بدايات القرن الماضي، حيث أفرزت مشاهير الفن الكلاسيكيين من أمثال نجيب الريحاني، علي الكسار، فاطمة رشدي التي لقبت بـ’ساره برنار الشرق‘، شكوكو، إسماعيل ياسين، أمينة رزق، ماري منيب، وكثيرين غيرهم. وقد ظلت هذه المسارح مزدهرة حتى تم افتتاح الإذاعة المصرية عام ١٩٣٤، والتي بدأت في تقديم الأوبريتات القديمة، ومع انتشار الراديوهات في المقاهي والبيوت، راح الناس يكتفون بسماعها في الراديو، وهكذا أخذ نجم روض الفرج يأفل من بعد ذلك شيئاً فشيئاً. وفي عام ١٩٥٥ أزيلت معظم المسارح في إطار مشروع لتوسيع طريق الكورنيش وتعبيده ،١٧ بينما تحول البعض الآخر لخرابات مهجورة الآن.
لكن روض الفرج لم تكن أهميته تصنعها فقط سمعته كمكان للترفيه والتسلية، فمنطقة الساحل كانت خلال النصف الأول من القرن الماضي مورد الرزق الرئيسي للقاهرة، حيث كانت ميناء للبواخر والبوابير والصنادل والمراكب من مختلف الأنحاء، تأتي إليه عبر النيل محملة بالغلال والحبوب من الوجه القبلي، والأرز من دمياط، والسردين من رشيد؛ كل هذا كان يباع في سوق الساحل العمومي. لم يبق من شواهد على تلك الأيام المشحونة بالنشاط والوفرة إلا بعض متاجر الغلال والمخازن في سوق الساحل وشارع ذو الفقار، والتي مازالت الصنادل الكبيرة تأتيها من الصعيد محملة بالقمح والفول والذرة، وسوق البلح الذي تشتهر به المنطقة خاصة في رمضان. حتى سوق روض الفرج الشهير، الذي تم بناؤه عام ١٩٤٧، وكان قد أصبح سوق الخضر والفاكهة المركزي لمدينة القاهرة، هذا السوق تم نقله إلى مدينة العبور عام ١٩٩٤، وجرى تحويل مبناه إلى ’قصر ثقافة روض الفرج‘. وقد كان وجود هذا السوق عاملاً رئيسياً في اتجاه كثير من الفلاحين والمزارعين إلى الاستقرار بالمنطقة في منتصف القرن العشرين، بعد أن غادروا قراهم سعياً وراء أبواب أوسع للرزق.
بطاقات بريدية تظهر عليها مشاهد من روض الفرج كما كانت في بدايات القرن الماضي: المرفأ النيلي وسوق الغلال وكمكان وفرة اقتصادية حيث يجري التبادل والبيع لمنتجات عديدة آتية من أقاليم مصرية مختلفة
وبعد ثورة يوليو، دخلت المنطقة ضمن خطة كبرى لتطوير القاهرة على يد عبد اللطيف البغدادي وزير شئون البلدية والقروية، الذي قام بتوسعة شارع شبرا ليصبح عرضه ٤٠ متراً، ونقل الترام إلى وسط الشارع، كما مد شارع الترعة البولاقية ليصل إلى عمق شبرا، وذلك بعد ردم الجزء المتبقي من الترعة، وأنشأ محطة طرفية كموقف لأتوبيسات الوجه البحري القادمة إلى القاهرة.١٨ وخلال النصف الثاني من القرن العشرين شهدت شبرا زيادة سكانية كبيرة بسبب الهجرات الداخلية من الريف، حتى أن السكان تضاعف تعدادهم في عام ١٩٨٧ إلى ٣٠٠ ألف نسمة.١٩
لكن على مدى العقود الثلاثة التالية، سيتباطأ نمو السكان في شبرا بشكل مطرد، كما ستنخفض معدلات الهجرة من الريف إليها، بل إن شبرا ستتحول في أخريات هذه الحقبة إلى منطقة طرد سكاني، لكن الحي العريق سيبقى مكتظاً بالسكان؛ لتصبح شبرا من أزحم مناطق القاهرة، ويتحول المنتجع الهادئ الذي كان يستجم فيه الأمراء والأعيان إلى واحدة من أكثر جهات العاصمة صخباً واختلاطاً.
المكان وأهله
لم تنضم شبرا إدارياً إلى القاهرة إلا في منتصف الخمسينات بعد قيام ثورة ١٩٥٢. فمع التوسع الشديد في العمران بشبرا صارت هناك ضرورة لتقسيمها إدارياً. والآن فإن شبرا تتبع محافظتين من محافظات القاهرة الكبرى، فالمنطقة الواقعة بداية من ميدان أحمد حلمي حتى ميدان المظلات شمالي القاهرة تتبع محافظة القاهرة، وهي الأجزاء المعروفة باسم شبرا مصر وشبرا المظلات وروض الفرج والساحل. أما الجزء المتبقي من ميدان المؤسسة والمعروف بشبرا الخيمة فصار تابعاً لمحافظة القليوبية. وتحيط شبرا أحياء الشرابية شرقاً، بولاق والأزبكية جنوباً. وحدود شبرا الإدارية مرسومة طبقاً لحدودها الواقعية؛ فالنيل وترعة الإسماعيلية يشكلان حديها الغربي والشمالي، بينما يحدّها من الشرق والجنوب شريط السكة الحديد المتجه للوجه البحري.
ونظراً لأن النيل والترعة والسكة الحديد تمثل الحدود لشبرا؛ فإن الكباري تلعب دوراً حيوياً في ربطها بالمدينة. هناك كوبري إمبابة الذي يصل روض الفرج بإمبابة في محافظة الجيزة، وهو من أوائل الكباري في القاهرة الحديثة، وكوبري الساحل الواصل لإمبابة والوراق بالجيزة أيضاً، وكوبري السبتية مع بولاق أبو العلا، وكوبري المظلات مع شبرا الخيمة بالقليوبية.
والأحياء الداخلية: شبرا، روض الفرج، الساحل، تنطبق خطوط تقسيمها على الشوارع الرئيسية بها (شارع شبرا، روض الفرج، وخلوصي) وذلك على نهج واضح.
وعلى الرغم من الطابع التجاري الذي تأخذه بعض هذه الشوارع، وبالأخص شارع خلوصي المزدحم على الدوام نظراً لانتشار المحلات فيه، فإن شبرا مازالت إلى اليوم تعتبر منطقة سكنية إلى حد كبير، تعكس حتى الآن الأصول الأولى لسكانها المبكرين.. فمنطقة مثل روض الفرج، حيث الجماعات الأولى من السكان كانت من المهاجرين الداخليين الذين جاءوا من منطقة بولاق في القرن التاسع عشر، تتسم بوضع اجتماعي واقتصادي منخفض يشبه في طابعه حي بولاق المجاور، كما ظهرت فيها على مدى العقود الأخيرة بعض التجمعات العشوائية، بينما الغالبية لتلك التجمعات العشوائية فتقع في منطقة الساحل، التي كان من نصيبها أغلب موجات النزوح خلال منتصف القرن العشرين. وفي روض الفرج والساحل تزدحم المباني أكثر من حي شبرا، فتتقارب من بعضها البعض وتتكدس، كما تظهر بهاتين المنطقتين حالات أكثر للتجاوز غير القانوني للمباني. وبصفة عامة، فإن الطابع العام للمباني وجودة البناء يأخذان في التراجع كلما ابتعدنا عن رمسيس، حيث تبدأ أنواع المباني تتعدد وتتنوع بما يوحي بالتطور الطبيعي أو التلقائي للمنطقة في أطرافها بالذات. ومع ذلك فإن شبرا من ناحية التخطيط تبدو أكثر رسمية مقارنة بأحياء أخرى في القاهرة.
فمن الوهلة الأولى يظهر شارع شبرا باعتباره أساس التخطيط للمنطقة، فمنه تخرج الشوارع الأخرى وتتفرع وتتخذ مساراتها بحيث توازيه أو تتقاطع معه، ويمر تحت هذا الشارع بالذات الخط الثاني للمترو، حيث تتوزّع بطوله خمس محطات تحت الأرض. ويعتبر هذا الشارع، الذي يبدأ من ناحية القللي جنوباً حتى ميدان المظلات شمالاً، أحد أطول شوارع القاهرة وأهمها من الناحية التجارية، ويتمتع بنشاط تجاري واسع خاصة في منطقة دوران شبرا، التي تنافس وسط البلد، حيث تستقبل المنطقة زائرين من كل جهات القاهرة بهدف التسوق والشراء. وتحقق المحلات هناك صيتاً واسعاً ورواجاً، كمحلات ’أسماك الأمير‘ ومحلات ’الشربيني‘ و’عمر أفندي‘ و’التوحيد والنور‘، كما ينتشر الباعة الجائلون على الأرصفة بكثافة. وبعد افتتاح الخط الثاني لمترو الأنفاق، افتتحت محلات معروفة مثل مطاعم ’مؤمن‘ و’كنتاكي‘ و’ماكدونالدز‘ وحلواني ’لارين‘ و’قصر الإليزيه‘ فروعاً لها هناك للاستفادة من الموقع والإقبال، وهكذا راحت أسعار المحال التجارية ترتفع لتصل إلى نصف مليون جنيه للمحل الصغير الذي مساحته لا تزيد على عشرة أمتار، ولتصل إلى خمسة ملايين في بعض المواقع القريبة من محطات مسرة وروض الفرج وسانت تريزا. وبشارع شبرا الآن داران للعرض إحداهما بأول الشارع وهي سينما دوللي (التي سميت باسم فريد شوقي) والثانية ناحية المظلات وهي ’سينما مودرن‘ التي تضم أيضاً سوقاً تجارية،٢٠ وذلك بعد أن كانت شبرا عامرة بدور السينما، كسينما الأمير الصيفية في شارع خلوصي، و’شبرا بالاس‘ الشهيرة بشارع الترعة البولاقية، والتي تهدمت وقام مكانها برج سكني، وكذا الحال مع سينما ’الجندول‘ و’النزهة‘. وعموما هذا مآل دور السينما جميعا في شبرا، فلم يبق غير سينما ’دوللى‘ من سينمات الدرجة الثانية التي كانت تتميز بها شبرا.
وبالموازاة لشارع شبرا، يمتد شارع أحمد حلمي كشريان مرور أساسي عبر المنطقة وكطريق ذهاب وإياب بين القاهرة ومحافظات الوجه البحري. وحتى وقت قريب كان موقف أحمد حلمي المجاور لمحطة السكك الحديدية أحد أهم مواقف السيارات الأجرة وأتوبيسات الوجه البحري، قبل نقل موقفها إلى عبود.
وتقطع الشوارع الثلاثة: شبرا الرئيسي، وشارع أحمد حلمي، وشارع الترعة البولاقية حي شبرا طولياً. وفيما بين هذه الشوارع الطولية شبكة شوارع كثيرة متقاطعة معها، أشهرها شارع خلوصي الواصل ما بين شارعي الترعة البولاقية وشبرا، والذي يعتبر أحد أهم الشوارع التجارية بها، وشارع أحمد بدوي الذي يصل بين أحمد حلمي والترعة البولاقية وشبرا. ويشتهر شارع الترعة بوجود عدد كبير من محلات قطع غيار السيارات وإكسسواراتها. وفي هذا الشارع يوجد ميدان ’ڤيكتوريا‘ أحدث ميادين شبرا، والذي منه تتفرع شوارع أخرى معروفة جيداً للقاهريين: ’العطار‘ و’العسال‘ (وهما اثنان من المناطق التي تغنّى بها شعبان عبد الرحيم في أغنيته) و’شيكولاني‘ و’المحمودي‘.
وإذا كان شارع شبرا هو أقدم شوارع شبرا، فإن منطقة جزيرة بدران هي أقدم منطقة هناك. وللأسف فقد تم هدم القصور والڤيلّات التي كانت تتميز بها هذه المنطقة في زمانها الأول، وحلت محلها الآن العمارات والأبراج السكنية. وتعتبر منطقة جزيرة بدران هي حدود شبرا مع حي بولاق العريق من ناحية ’مزلقان النجيلي‘ المطل على شارع السبتية، حيث يفصل الآن شريط القطار المتجه جنوباً إلى الصعيد ما بين الحيين العريقين ماراً فوق كوبري إمبابة.
أما منطقة الخلفاوي وأرض أغاخان فهما من المناطق الحديثة في شبرا، وهما من المناطق الراقية حيث تسكن الآن الفئات الأكثر ثراء. وبينما تطل أغاخان على النيل من ناحية المظلات، ترتبط منطقة الخلفاوي بمناطق أخرى مجاورة من شبرا، مثل الشيخ رمضان وڤيكتوريا، من خلال شوارع معروفة مثل عبد الحميد الديب ومحمد الخلفاوي. هذا الأخير كان من كبار علماء الأزهر وأحد الشخصيات التي وقفت في وجه الخديوي توفيق في خضم الثورة العرابية آخر القرن التاسع عشر، حيث توجد الآن واحدة من محطات المترو الأساسية. وسنجد هناك صبغة أزهرية واضحة على أسماء الشوارع الواقعة بمنطقة الخلفاوي؛ فالعديد منها أسماء لعلماء أزهريين، مثل: محمد الظواهري، عبد الرحمن قراعة، عبد اللطيف الفحام، عبد الكريم سلمان، وغيرهم، مع وجود أسماء لشخصيات تاريخية إسلامية أيضاً، كشوارع ابن تيمية، والسيدة خديجة، وعمر بن الخطاب.٢١
وإذا انتقلنا إلى أسماء الشوارع في شبرا، فسنجد أنها مازالت تخلد ذكرى مؤسسي المنطقة التاريخيين ومطوريها الأوائل.. أسماء مثل: الباشا (والباشا هو محمد علي باشا بالطبع)، شارع حليم باشا (وهو أحد أبناء محمد علي والذي ورث عنه قصر شبرا)، شارع رفعت (وهو ابن إبراهيم باشا وحفيد محمد علي)، سعيد باشا (ثالث حكام مصر من أسرة محمد علي.) ويذكر لنا الصحفي عباس الطرابيلي، في كتابه عن أحياء القاهرة وتاريخها، كيف قامت ثورة يوليو، في أوج فترة المد الثوري في الخمسينات، بتغيير أسماء الشوارع التي تحمل أسماء أعضاء أسرة محمد علي، ضمن مطاردتها لكل ما يمت إلى هذه الأسرة بصلة، في محاولة لطمس علاقتهم بتاريخ المكان.٢٢ كذلك يمكن اعتبار كل من أحمد حلمي وڤيكتوريا ضمن أولئك المطورين للعمران في شبرا، والتي احتفظت المنطقة باسميهما لاثنين من أشهر شوارعها وميادينها..
وأحمد حلمي، الذي على اسمه تسمى الموقف والشارع، إلى جانب أنه كان واحداً من المناضلين الوطنيين إبان حقبة الاحتلال الإنجليزي، حيث كان رفيق كفاح مع مصطفى كامل لسبع سنوات، جاء على ذلك الصحفي الثائر وقت وهجر الكتابة بالصحف، إذ كان وقتها ينشر مقالاته ويشن حملاته التي تنتقد الأسرة الخديوية بصحف اللواء والشعب والعلم؛ ليعمل بالزراعة. وكان من فوائد ازدهار عمله في هذا المجال أن اشترى مساحة واسعة من الأرض في شبرا، حيث ابتنى عمارة سكنية كبيرة في مدخل المنطقة ناحية الشارع الذي سيحمل اسمه بعد وفاته في عام ١٩٣٦. أحد أحفاد أحمد حلمي هو الصحفي والشاعر ورسام الكاريكاتير والمؤلف صلاح چاهين، الذي يقال إنه وبليغ حمدي كانا يسكنان في نفس العقار بشارع بديع بروض الفرج، والمسمّى على اسم بديع خيري المعروف بكونه واحداً من الرواد الأوائل للمسرح المصري، والذي عاش جزءاً حافلاً من حياته بحي روض الفرج أيام مجده كحي للمسارح. وهكذا تعيد الشوارع بطريقتها سرد الحكايات والتاريخ الذي لم يطل عليه العهد بعد.
ومن أسماء الشوارع يمكننا أن نتتبع تغيرات جغرافية أساسية طرأت على المنطقة، فتسمية شارع الترعة البولاقية ترجع إلى وجود ترعة قديمة كانت تربط بين حي بولاق أبو العلا وشبرا ولذلك سمى الشارع باسم الترعة البولاقية. ومازال جزء من هذا الشارع يقع حتى الآن بحي بولاق من ناحية السبتية والقللي. وقبل ردم الترعة، كانت منطقة العسال الواقعة عليها تشتهر بجودة الأراضي الزراعية فيها؛ أما الآن فهي من المناطق الشعبية بشبرا كثيفة السكان؛ وفي هذه المنطقة تدور أحداث فيلم مصري معروف هو يوم مر، يوم حلو (١٩٩٨) قدمت فيه فاتن حمامة دور سيدة فقيرة تعيش هناك مع أسرتها التي فقدت عائلها، وتحاول التحايل للحصول على لقمة عيش وسط سلسلة من المآسي. أما شارع معمل الألبان الشهير، الذي صار جزءاً من المحور المروري الذي يربط شبرا بمدينة نصر عبر الزاوية الحمراء والحدائق، فكانت مكانه ترعة تصل من النيل إلى شارع أحمد حلمي، تسمى ترعة التيرو.
ويظهر في أسماء المناطق أيضاً أثر تعدد الثقافات وتنوع الأصول العرقية بشبرا.. فهناك مثلاً أرض جرابديان، وتقع في الجهة المقابلة من شارع شبرا أمام أبراج أغاخان، سميت بذلك نسبة إلى واحد من الأرمن كان له مرسم هناك. وميدان ڤيكتوريا، الذي يعتقد البعض خطأ أنه يعود إلى ذكرى الزيارة التاريخية لملكة بريطانيا إلى مصر، والحال أن ڤيكتوريا هذه كانت سيدة يونانية الأصل ورثت عن أبيها مع أخت لها مساحة كبيرة من الأراضي الزراعية بالمنطقة. وبعكس الأخت التي رفضت العيش بهذه المنطقة المقطوعة وقتها، كانت ڤيكتوريا هي التي بنت العمارة السكنية المعروفة باسمها هناك؛ لتستقر بالمكان عام ١٩٥٥، وذلك في وقت كانت الطبيعة الزراعية والنائية له تجعل الإقامة هناك ضرباً من المغامرة. وقد وضعت هذه السيدة أنوية إعمار المكان ببنائها لمزيد من العمارات السكنية وشغلها بالمستأجرين وإقامة محطتين للوقود وسوق، مما ساعد في جعل المكان وجهة لخطوط المواصلات وعلى جذب مزيد من الأهالي للمنطقة. فإلى هذه السيدة يعود الفضل الأول في بدء إعمار المكان المحيط بهذا الميدان، وربما يمكن اعتبارها، مع أحمد حلمي وغيرهما، من المطورين الفعليين للمنطقة.
ومثل جرابديان الأرمني، وڤيكتوريا يونانية الأصل، تبرز في شبرا أسماء لأبناء جاليات أجنبية أخرى كانت مستقرة بها، كـ داليدا مثلاً، المغنية والممثلة المعروفة، التي ولدت في شبرا باسم يولاندا كريستينا جيجليوتي، منحدرةً من أسرة إيطالية هاجرت إلى مصر مع بدايات القرن العشرين، في زمن كانت فيه مصر بلداً مفتوحاً يبدو واعداً ومليئاً بالفرص. ويظهر لنا من ذكريات داليدا عن مسقط رأسها وموطن مراهقتها وشبابها الغض، والخريطة التي ترسمها لجغرافية شبرا في هذا الوقت، كيف أن المنطقة كانت مثالاً للمجتمع الكوزموبوليتاني، إذ كان الخواجات –كما كان المصريون يسمونهم– يعيشون مع أبناء البلد في نفس المكان، حيث بنوا المدارس والمستشفيات والنوادي، كمدرسة “السالزيان” الإيطالية والنادي اليوناني (الذي بات الآن يُعرف بـ”نادي إسكو”). وهو مجتمع يمكن أن نراه في أدبيات مثل رواية ’بنت من شبرا‘ لـ فتحي غانم (١٩٨٦) التي تدور في عوالم الثلاثينات من خلال فتاة من بنات الجالية الإيطالية في شبرا، أو رواية ’شبرا‘ لـ نعيم صبري (٢٠٠٠) التي تتناول الحياة المتشابكة لأسر مسلمة ومسيحية ويهودية الديانة، ويونانية وأرمنية ولبنانية وفلسطينية الأصول، في منتصف القرن العشرين.
ولعل هذه الروح ’الكوزموبوليتانية‘، إن جاز لنا أن نسميها هكذا، التي كانت سائدة إلى وقت قريب في شبرا، ربما حتى بداية خمسينات القرن الماضي، هي التي أفرزت أجواء التعايش المُحتفى به الآن بين المسلمين والمسيحيين هناك، والتي نجدها قاسماً مشتركاً بين العديد من الأعمال الأدبية والفنية التي اتخذت من شبرا مادة لها. منها مثلاً رواية بهاء عبد المجيد ’سانت تريزا‘ (٢٠٠٢) وفيلم فيلم هندي (٢٠٠٣) أو مسلسل دوران شبرا (٢٠١١). وقد تكتسب هذه الروح مصداقية خاصة عندما يتغنى بها فنانون أصلهم هم نفسهم من شبرا، مثل محرم فؤاد مثلاً الذي غنى لها “باحبك يا شبرا”. (استمع للأغنية)
يظهر مدى تأثير شبرا كمكان على الوعي الحضري القاهري عبر العديد من الأفلام والروايات والأعمال التي تسحتضرها أو تشير إليها أو تدور فيها، سواء من خلال تاريخها أو واقعها الحالي
وإذا كانت هذه التعددية وهذا التنوع لشبرا دينياً وعرقياً يواجه حالياً مأزقاً وجودياً، كانعكاس لمشكلات المواطنة والتهميش التي يعاني منها الوطن بأكمله، فإنه يبدو في تلك الأعمال الدرامية صامداً ومتأصلاً، كما تعرضه مثلاً النهاية الرمزية لفيلم حسن ومرقص (٢٠٠٨). فهل هذا هو نفس الحال في الواقع؟ إن نموذج التعايش والتسامح و’الوحدة الوطنية‘ الذي تُقدم من خلاله شبرا عادة في الخطاب العام قد يكون له وجه آخر يتمثل في حالة من حالات ’الصراع على الهوية‘ -الدينية بالذات للمكان- والذي تعبر عنه بعض الظواهر ذات الدلالة، والتي لا يمكن المرور عليها مرور الكرام. وعلى ذكر ميدان ڤيكتوريا، فقد يصلح أن يكون مثالنا لذلك ما حدث في ٢٠٠٩ من محاولة إحدى الجمعيات الدينية الخدمية لتغيير اسم الميدان ليكون على اسمها هي: “ميدان نصر الإسلام”. وقد تم وضع لافتة بالفعل تحمل هذا الاسم مع إضافة تقول «الترعة البولاقية سابقاً» في سعي واضح لإسقاط اسم ڤيكتوريا تماماً عن تاريخ المكان، وهي الحادثة التي تم تداولها في ذلك الوقت، مع اللغط الذي أثارته قضية مرفوعة في هذا الشأن من أحد المحامين الأقباط المعروفين، على أنها محاولة ’لأسلمة شبرا‘، خاصة وأنها قد تزامنت مع إعادة تسمية بعض الشوارع هناك، مثل شارع طوسون الذي أصبح الآن “ابن فضل الله العُمري”*،٢٣ وكأن مد ثورة يوليو ١٩٥٢ ، الذي أشار إليه عباس الطرابيلي، يأبى إلا وأن يظل يطارد أسرة محمد علي في شوارع شبرا.
وفي المقابل مما تم وصفه بأنه “أسلمة الشوارع” في شبرا، ظهر مؤخراً ما يسمى بـ”تنصير العقارات”، حيث ذكرت كاتبة بإحدى صحف المعارضة، وهي جريدة الوفد، عما وصفته بأنه “ظاهرة غريبة على مجتمعنا المصري”، والتي رصدتها هي شخصياً بحكم كونها من سكان الحي منذ طفولتها. وتتمثل هذه الظاهرة في «إقبال المسيحيين على شراء العقارات القديمة من أصحابها المسلمين بأي ثمن وهدمها، وإعادة بنائها كأبراج، وبيع أو تأجير كل شقق هذه الأبراج للمسيحيين فقط دون المسلمين. وتلعب الكنائس في شبرا “والتي تتواجد بكثافة” (وعلامات التنصيص هنا من عند الكاتبة) دوراً غامضاً في شراء العقارات القديمة من المسلمين بأسعار مرتفعة وأموال لا يعرف أحد مصدر تدفقها.»٢٤
تحدث مثل هذه الظواهر وسط جو عام في مصر يتسم بالتناقض. ففي الوقت الذي يحتفي فيه الخطاب الرسمي بشبرا على أنها نموذج للتعايش بين المصري المسلم والمصري القبطي، ويتم تقديمها على أنها صورة من الروح المنتشرة في ربوع الوطن كله، نجد أنه من حين لآخر يثار الجدل في الصحف وعلى الشاشات حول تعداد الأقباط ونسبتهم من المصريين. وكثيراً ما يتم الزج بشبرا في معرض ذلك الجدل الدائر، بحكم أنها منطقة التركيز الأكبر للأقباط في مصر، وذلك كما جاء مثلاً على لسان الأنبا باخوميوس في رده على تصريحات غير رسمية لرئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن عدد المسيحيين في مصر.٢٥ وحيث إن مبادئ الأمم المتحدة والمواثيق الدولية تحظر الإحصاء أو التعداد على أساس الدين، بدعوى أنها تتسبب بلا داع في حالة من التمييز الديني، فقد كان تعداد عام ١٩٨٦ هو آخر تعداد في مصر يتضمن معلومات منشورة ومتاحة عن توزيع السكان حسب الديانة، بينما المتبع الآن هو أن التعدادات السكانية التي يجريها الجهاز المركزي تتضمن سؤالاً “اختيارياً” عن الديانة، ولا يمكن إجبار مواطن على الإجابة عنه، والمعلن هو أن الجهاز لا يتوافر لديه تعداد للأقباط أو المسلمين.
التركز الأعلى للأقباط في شبرا، بالنسبة لباقي جهات القاهرة، لا يرجع لحدث تاريخي معين. والتفسير الذي يقدمه أستاذ للتاريخ الحديث بجامعة القاهرة وواحد من أبناء شبرا، وهو الدكتور محمد عفيفي، أنه قد حدثت نقلة للأقباط المصريين من مجتمعات ’حارة النصارى‘، والتي كانت الشكل السائد في مصر قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى التجمعات السكنية الحديثة، والتي تمثلت في حي شبرا..
وتمثل ’حارة النصارى‘ المنطق السائد للتجمعات السكنية لعصر ما قبل الحداثة في الشرق، حيث كان أرباب الطوائف الحرفية والمهنية يميلون إلى السكن جوار ورشهم ومراكز أعمالهم، وأبناء القبائل يتجهون لسكنى حارات خاصة بكل قبيلة، وكذلك كان أيضاً أتباع الطوائف الدينية ينجذبون للسكن قرب مراكز عبادتهم الرئيسية، وعلى هذا الأساس فإن وجود حارة للنصارى هو أمر من قبيل وجود أماكن كالخيامية، العطارين، حارة الروم، الخ.. ولقد عُرفت ’حارات النصارى‘ على نطاق واسع خلال العصر العثماني حتى تلك الحقبة، سواء داخل القاهرة أو خارجها. وفي القرن الثامن عشر كان التجمع الرئيسي للأقباط بحارة النصارى ناحية بحيرة الأزبكية، حيث كان هناك آنئذ مقر البابوية (وذلك قبل أن يستقر في موقعه الحالي بالعباسية)، وعليه فـ«إن التجمعات المسيحية الحالية ناحية أحياء الفجالة، والقللي، والظاهر، وشبرا، هي امتداد طبيعي لذلك التمركز الذى كان موجوداً ناحية حي الأقباط في الأزبكية في القرن الثامن عشر حول الكاتدرائية القديمة.»٢٦ إلا أن تواجد الأقباط في الأزبكية لم يكن فقط بسبب الكاتدرائية، فالأزبكية وقتها كانت أيضاً الميناء الأساسي للمكس، أي الضرائب، وكانت نوعية الأعمال التي يمتهنها الأقباط تجعل من الطبيعي تواجدهم بالقرب من الميناء. وسنجد أنه مع استمرار الأعمال التحديثية في القاهرة، إذ تحولت منطقة الأزبكية في عهد إسماعيل إلى حديقة مركزية للمدينة على غرار الحدائق الباريسية، وبدأت البيوت الواقعة شمال البحيرة، حيث كان الأقباط يسكنون، تختفي لتحل محلها مبان حديثة على الطراز الأوربي، بينما أخذت الحياة تدب في الموانئ النيلية في بولاق وساحل روض الفرج، سنجد أنه من الطبيعي مع هذه التغيرات أن أقباط الأزبكية من أصحاب تلك المهن قد اتجهوا للإقامة هناك، هذا بالإضافة إلى موظفي السكة الحديد والبريد من الأقباط على الأخص، وكذلك النازحين من الأرياف والصعيد للعمل بالمصانع. فقد يكون تزامن كلٍّ من هذه الأحداث والعوامل هو الذي هيأ ظروف تمركز الأقباط التاريخي بشبرا.
والحال أنه لا يجوز أن نُعدّ شبرا منطقة مسيحية، أو ننظر إليها على أنها واحدة من جيتوهات المدن،** حيث تتشرنق على نفسها أقلية دينية معينة، فالمسلمون والمسيحيون المصريون طالما عاشوا جنباً إلى جنب في شبرا وتفاعلوا فيما بينهم. ولعل هذه القيمة قد عبرت عن نفسها بجلاء، رمزياً وفعلياً، في أحداث ثورة ٢٥ يناير وما تلاها. وكان دوران شبرا على سبيل المثال أحد نقاط التجمع الدائمة التي تنطلق منها المسيرات والمظاهرات منذ اليوم الأول للثورة، ومازالت صفحة فيسبوك الخاصة بـ”شبرا حلم بكره“، وهو الاسم الذي اختارته لنفسها اللجنة الشعبية لشبرا التي تكونت هناك –كما في كل أنحاء مصر خلال الانفلات الأمني الذي أعقب ثورة ٢٥ يناير- قبل أن يقرر أعضاؤها أن تستمر اللجنة بعد ذلك في أعمالها الخدمية والتوعوية، هذه الصفحة مازالت تتصدرها صورة لجدارية نفق شبرا التي تسجل بعض أسماء شهداء مذبحة ماسبيرو ووجوههم المرسومة بالجرافيتي: عيسى إبراهيم، مايكل مسعد، محمد جمال الدين، أيمن صابر، هادي فؤاد، شحات ثابت، روماني مكاري، مجدي فهيم، فارس رزق، ومينا دانيال.
المهم فى شُـــبرا
منذ البداية وموقع شبرا هو خصيصتها المميزة. فلطالما واجهت القاهرة قديماً صعوبة عملية في أن تمتد وراء النيل أو المقطم، لذلك كان الامتداد دائماً باتجاه الشمال، وذلك حتى جاء الخديوي إسماعيل وبدأ تحديثاته الكبرى للقاهرة. لذلك فالموقع هو جوهر حكاية تطور شبرا، ونسيجها العمراني يروي العديد من القصص: عن حقبة مضت، وعن التصنيع، والتحضر، والهجرة.
لكن القصة الأهم، بين جميع تلك القصص، هي التي يمكن أن تُحكى عن التعايش وعن الثقة والاحترام المتبادلين بين المسلمين والمسحيين في شبرا. فشبرا تعد واحدة من المجتمعات المختلطة ديمغرافياً، لكنها نموذج للمجتمع الذي لم تؤدِ ديمغرافيته المختلطة هذه إلى أن تنفصل طوائفه الدينية عن بعضها البعض؛ لتعيش كل منها في جيوب عمرانية خاصة بها تجد فيها التجانس السهل والمريح، كما حدث في مناطق أخرى من المدينة. ففي معظم أحياء القاهرة، وفي مصر عامة، يحافظ المسلمون والمسيحيون على العلاقات الاجتماعية فيما بينهم، بينما تبقى الحياة الدينية لكل منهما منفصلة عن الآخر. صحيح أن المسلمين يشاركون معارفهم المسيحيين مناسباتهم الدينية والاجتماعية في كنائسهم، وأن العكس بالعكس، لكن لا يحدث خلال الأيام العادية أن يتردد أحدهما على مكان عبادة الآخر. في شبرا الأمر يختلف، لهذا يمكن أن نجد فيها دارين للعبادة، مثل كنيسة سانت تريزا ومسجد الخازندارة.. ليس بينهما إلا بضع عشرات من الأمتار في شارع شبرا. وكلاهما يتردد عليه المسلمون والمسيحيون معاً وسواء بسواء!
كنيسة سانت تريزا
تم بناء كنيسة سانت تريزا عام ١٩٣١، حيث كانت من أوائل الكنائس التي أقيمت في شبرا مع نزوح الأقباط إليها من الأزبكية في عشرينات القرن الماضي. وهي الآن تقف بين المباني السكنية بواجهة ملونة مرحبة بالمارة تطل على شارع شبرا. كثيرون يتحدثون عن الخلوة والهدوء اللذين يجدونهما داخلها، بعيداً عن الهرج والمرج في الخارج. ما أن تدخل حتى تستقبلك لوحات رخام بأسماء أصحاب النذور الذين وفوا بنذرهم، مسيحيين ومسلمين، أناس عاديين ومشاهير ومثقفين، على رأسهم تجد اسم عبد الحليم حافظ في ثلاث لوحات لثلاثة نذور على مرات متفرقة، كما ستجد اسم فريد الأطرش وأسمهان، الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكوكب الشرق أم كلثوم. وفي صحن هذه الكنيسة الكاثوليكية يمكنك أن ترى على الجدار الخلفي لها آية قرآنية منقوشة بحيث يراها الجميع: «هذا من فضل ربي.» لكن كنيسة سانت تريزا لا تكتفي فقط بتقديم الملاذ الروحي أو الأمل في صلوات مستجابة، فهي تقوم بدور خدمي ومجتمعي تجاه جميع أبناء شبرا دون تمييز، حيث تفتح مسرحها لهم يستخدمونه في مناسبات تجمعاتهم، وكذلك لطلبة المدارس كي يقدموا عليه عروضهم وأنشطتهم، أو من خلال جمعيات لمساعدة الأيتام والأرامل، مثل جمعية السلام التي تتولى صرف ٤ ملايين جنيه شهرياً بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي.٢٧
مسجد الخازندارة
تم بناء مسجد الخازندارة قبل بناء كنيسة سانت تريزا بأربع سنوات. ويقال بأن من قامت ببنائه، وهي الأميرة خديجة هانم ابنة محمد راغب أغا، كانت تريد به أن يحتضن المسلمين في صلواتهم، خاصةً صلاة الجمعة، فأسست هذا المسجد ومعه سبيل ومدرسة دينية لخدمة أهالي شبرا، لكن ثمة شائعات عديدة حول المسجد، منها أن مؤسسته سيدة تدعى زينب الخازندار، كانت من المماليك، وقد قررت إنشاء هذا المسجد حين أسلمت تقرباً إلى الله. بالطبع في عام ١٩٢٧، عام بناء المسجد، كان لم يعد ثمة مماليك في نواحي المحروسة، لكن ربما تكون مثل هذه الأسطورة هي منشأ الحيرة في تاء التأنيث مع اسم المسجد، مرة بالإضافة ومرة بالحذف، حيث مرة يُذكر “الخازندار” و”الخازندارة” مرة. من الخارج المسجد له جدران متربة ومتعبة، وقبة ضخمة، وكلاهما –القبة والجدران– من الحجر، وأعمدته من رخام تم جلبه في ذلك الزمن البعيد من إيطاليا خصيصاً للمسجد الذي تبلغ مساحته ٦٠٠ متراً مربعاً. وفي بدايات إنشاء جامعة الأزهر، تم اختيار المدرسة الملحقة بالمسجد لتستضيف واحدة من الكليات الثلاثة الأولى التي استهل بها الأزهر جامعته –وكانت كلية أصول الدين- والتي تم افتتاحها عام ١٩٣١. ومع تفجر ثورة ٢٥ يناير، ونظراً لسعة المسجد لاستيعاب أعداد كبيرة، وبحكم موقعه المركزي في قلب شارع شبرا، صار مسجد الخازندارة يُتخذ كواحدة من نقاط التجمع سواء للثوار أو لغيرهم كروابط الأولتراس مثلاً.٢٨
وبالنسبة لأهالي شبرا، فهناك سبب آخر يجعلهم يعتزون بمسجد الخازندارة، وهو أن الشيخ محمد سعيد نور، وهو قارئ مصري من أصل سوداني، كان يقرأ القرآن بهذا المسجد في ثلاثينيات القرن الماضي. وكان الشيخ سعيد نور، الذي ظل مقيماً بحي شبرا جزءاً كبيراً من حياته، يتفرّد عن باقي قارئي القرآن بقراءته التي لا مثيل لها بين القراءات المعروفة. وتسري بين مريديه شائعة أنها هي القراءة الأصلية أو المَرضيّ عنها. ورغم أن الشيخ سعيد نور كان له موقف شخصي ثابت من عدم التسجيل للإذاعة المصرية كغيره من الشيوخ القرّاء، إلا أن شهرته قد تفوق بعضهم، والسر في ذلك هو قراءته العجيبة التي كانت تجذب الأسماع والأفئدة، وتوصف بأنها تمزج بين الشجن والخشوع لحد أن تدمع عين المستمع لها، حتى إنه يقال بأن سائقى الترام بشارع شبرا كانوا إذا مروا أمام الجامع وكان الشيخ سعيد نور يقرأ هناك فإنهم كانوا يتوقفون ليستمعوا له مع الركاب.
وفي شبرا مازالت هناك مجموعة كبيرة من الكنائس والمساجد، فمن المساجد هناك: الفتح بالخلفاوي، بديع بروض الفرج، نصر الإسلام بميدان ڤيكتوريا، ومن الكنائس: العذراء مريم بمسرة التي كانت أول كنيسة تقام في شبرا، وكذلك كنيسة مار مرقص بمنية السيرج وتطل على شارع شبرا، وهي أكبر كنائس المنطقة، وكنيسة مار جرجس بشيكولاني وكنيسة الملاك بطوسون وكلتاهما بهما مسرح كبير ومهم، الخ.. لكن ليس كل ما تحويه شبرا هو دور للعبادة بالطبع، فتراث شبرا المعماري متنوع رغم أنها قد تبدو لأول وهلة منطقة سكنية عادية، حيث تصف أبو لغد شبرا على أنها عبارة عن «كتلة صماء من العمارات السكنية العالية» التي «بلا طابع مميز.»٢٩ لكن شبرا في حقيقتها تضم مجموعة من المباني المتميزة، التي تمثل جوانب مختلفة من تاريخ القاهرة ونوعيات سكانها على اختلاف مشاربهم..
على الرغم من أن قصر محمد علي يوجد فعلياً في الجزء الإداري الخاص بشبرا الخيمة، والذي يقع خارج حدود جغرافية هذه المقالة، إلا أن الدور الجوهري للقصر في تاريخ شبرا –كما سبق أن سردناه- يحتّم علينا أن نتطرق إليه..
يبدو أن محمد علي كان يتطلع ببنائه لقصر شبرا إلى أن يشيد مقراً للحكم على غرار طوبقابي سراي بأسطنبول حيث كان يحكم السلاطين العثمانيون. فالمساحة الممتدة والموقع الطبيعي أوحيا إلى مشيد عمائره؛ ذو الفقار كتخدا، أن يبني القصر على نمط قصور الحدائق، الشائع آنذاك في تركيا على شواطئ البوسفور والدردنيل وبحر مرمرة خاصة، حيث التصميم يعتمد على حديقة مترامية الأطراف تتناثر فيها هنا وهناك عدة مبان لكل منها سماته المعمارية الفريدة، على أن تحاط المجموعة كلها بسور كبير تتخلله بوابات؛ وهو نمط جديد لم تكن مصر قد عرفته من قبل. وهكذا بفضل ذلك القصر، أصبحت شبرا أول جهة في القطر المصري تحظى بعمارة المتنزهات، وذلك مثلاً قبل ’المنتزه‘ الذي أقامه الخديوي إسماعيل بالإسكندرية.
في أيام مجده كان هذا القصر يبدو «أشبه بلؤلؤة مضيئة تبدد ظلام الليل» كما يصفه چيرار دي نرڤال، مأخوذاً لا بد بشدة إضاءته الغازية في الليل خاصة.٣٠ فقد كان القصر والحديقة المحيطة به من المواقع المبكرة التي ساهمت في دخول الحداثة إلى مصر، حيث تم إدخال نظام للإنارة، استقدم محمد علي مهندساً إنجليزياً خصيصاً من أجله لإمداد قصره بغاز الاستصباح، وكان يُعد أحدث ما تم التوصل إليه في ذلك العصر. وقد تم افتتاحه في عام ١٨٢٩؛ لتشهد مصر بذلك نقلة حضارية نوعية. كما سمح محمد علي، الذي كان قد سبق وأن فتح الباب لإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، لأعضاء تلك البعثات من طلاب الزراعة بعد عودتهم بتطبيق ما تعلموه هناك من تقنيات حديثة، وباختبار محصولات جديدة قد تكون ملائمة للزراعة في التربة المصرية جلبوها معهم من هناك، جنباً إلى جنب لأول مرة مع الأساليب والمحصولات الزراعية التقليدية القائمة في مصر منذ آلاف السنين. يُذكر هنا مثلاً اليوسفي، الذي كان فاكهة جلبها معه أحد أولئك الطلبة، واسمه يوسف أفندي، فلما عرضها على محمد علي وأعجبته أمر بأن تتم زراعة هذه الفاكهة الجديدة بحديقة قصر شبرا. الأمر الذي جعل نقل مدرسة الزراعة رسمياً إلى القصر في عام ١٨٣٣ خطوة طبيعية، ثم المدرسة البيطرية بعدها في ١٨٣٧. وبهذا لم يكن القصر مجرد سكن لحريم محمد علي كما قالت بعض المصادر، أو مقراً ريفياً لإقامة والي مصر، وإنما تحول في غضون سنوات قلائل إلى مركز للتعليم والتجريب، ونواة لتطوير القطاع الزراعي في مصر، وأحد المواقع الحداثية الأولى فيها.٣١
الآن لم يبق من آثار هذه القصر العظيم إلا ثلاثة مبانٍ: برج الساقية؛ الذي كان جزءاً من نظام إمداد القصر بالماء، وهو أقدم ما تبقى من منشآت القصر، حيث يرجع تاريخ بنائه إلى ١٨١١. سراي الفسقية؛ التي وضع تصميمها مسيو دروفتي قنصل فرنسا العام، وقام بتنفيذها عام ١٨٢١ المهندس الفرنسي باسكال كوست، وأشرف عليها مهندس أرمني يدعى يوسف حكيكيان كان أحد أعضاء البعثة التعليمية المصرية إلى إنجلترا. وتنفرد هذه السراي بتصميمها الداخلي الذي يعتمد على حوض ماء كبير، تتوسطه نافورة كبيرة، حولها يلتف رواق بقباب مزينة بتصاوير وزخارف. وأخيراً سراي الجبلاية؛ التي أضيفت إلى مجموعة القصر في عام ١٨٣٦.
القصر الذي مازال قائماً بمنطقة روض الفرج، ورغم التحولات والمصير الذي آل إليه الآن، إلا أنه لا يزال قادراً بتصميمه الملكي على جعلنا نتصوره في أيام مجده وبهائه الأول، عندما كانت شبرا حياً للأرستقراطية المصرية، ومنطقة يسكنها كبار رجالات الدولة والشخصيات البارزة في الجاليات الأجنبية. وهو واحد من ثلاثة قصور تابعة للأمير محمد طوسون حفيد محمد علي، والتي آلت بوفاته إلى ابنه عمر طوسون، وأحد أهم المباني التاريخية في شبرا، حيث يرجع تاريخ بنائه إلى عام ١٨٨٠. وللأسف، فقد تم استخدام هذا القصر لفترة كمدرسة ثانوية في أعقاب ثورة ١٩٥٢، قبل أن تنتبه الدولة لأهميته التراثية والفنية والتاريخية، وتصنفه كمبنى تراثي عام ١٩٨٤، ليتم هجرانه وإهماله بعد ذلك، حيث تعرض بعدها القصر إلى حريق أتى على معظم محتويات الطابقين الثاني والثالث منه، كما جارت العديد من المباني الحديثة على أراضي حدائقه، التي كانت واسعة المساحة يوماً ما. ومن المفارقة المريرة أن يحدث كل هذا للقصر بعد أن تعترف الدولة رسمياً بقيمته التاريخية. أهالي شبرا، الذين يظهرون دائماً اعتزازهم وغيرتهم على تراث منطقتهم، أعربوا عن قلقهم إزاء الحالة التي وصل إليها القصر، ومؤخراً أعلنت وزارة الآثار عن خطط لديها لتحويله إلى متحف لتاريخ السينما.٣٢
كوبري إمبابة بالذات له تاريخ جدير بالاهتمام. الكوبري القائم حالياً أنشئ عام ١٩٢٥، ويطل على ثلاثة أحياء، هي الزمالك وشبرا والجيزة، لكنه لم يكن الكوبري الأول في هذا المكان، فقبله كان هناك كوبري آخر قائماً منذ عام ١٨٩٠؛ كان الذي أشرف عليه مهندس فرنسي يدعى داڤيد ترامبلي؛ ذلك الكوبري هو الموجود حالياً بدمياط والمعروف بـ’كوبري دمياط‘، حيث تم نقله إلى هناك بعد استبداله بالكوبري الحالي في إمبابة.٣٣ ويعتبر كوبري إمبابة تحفة هندسية بحق؛ إذ صُمّم هيكله المعدني بحيث يكون على دورين وينقسم إلى مسارات منفصلة لكل من المشاة والسيارات والقطارات.
ويظهر الدور المؤثر لهذا الكوبري في الحياة الحضرية للقاهرة من خلال شهرته كأحد الأماكن المعروفة بالمدينة كـ”لوكيشن” لتصوير الأفلام وكخلفية تظهر في الأعمال الفنية، بدءاً من أفلام الأبيض والأسود، كـالمنزل رقم ١٣ (١٩٥٢) مثلاً، وهو فيلم مصري تدور أحداثه حول جريمة قتل غامضة ويعتبر أول أعمال المخرج كمال الشيخ، حيث يشهد كوبري إمبابة المواجهة النهائية بين كل من البطل والقاتل، عماد حمدي ومحمود المليجي. وحديثاً، اختار طارق العريان مخرج فيلم تيتو (٢٠٠٤) كوبري إمبابة ليشارك ’الأفيش‘ مع بطل الفيلم أحمد السقا، حيث قام بتسجيل عدد من المشاهد عليه تظهره من زوايا مختلفة. ولا يقتصر الأمر على الأفلام فقط، فالعديد من المغنين الشباب، خاصة في حقبة صعود موضة ’الكليبات‘، قام بتصوير أغنياته على الكوبري (مثل إيهاب توفيق.) وحتى الآن يستمر التأثير البصري القوي للكوبري العريق في التعبير عن نفسه في خلفية ’بوسترات‘ ألبومات غنائية لنجوم شباب معروفين.
لكن كوبري إمبابة ليس مجرد عنصري بصري مؤثر في اللوحة التي تمثلها المدينة، لكنه مكان حي وعامر ومرتبط بحياة الناس ويحتل مكانته في الوعي الشعبي أيضاً. نلمس ذلك في شعر فؤاد حداد، حيث يصف هذا الكوبري والحياة من حوله على لسان شخصية المسحراتي:
درج الحديد فى الميه والضى راسم
على كوبرى إمبابه مواسم مواسم
(…)
عملت أنا فكهانى فى البلد نشوان
أنده على العجميه، وحلو من حلوان
على الجوافه روايح، والعنب ألوان
البرتقان، النسيم، اليوسف، المشمش
لقيت حديد الكبارى من الحنان يرمش
ويطير بسور الجنينه حِسّى والكروان
وسبّحت فى الندى إمبابه والأكوان
ومثلما حدث مع كوبري أبو العلا الذي كان يربط بولاق أبو العلا بالزمالك، حين تم تفكيكه وتخزينه بإهمال، رغم كل الادعاءات والاقتراحات التي جرى تداولها حول إعادة بنائه واستغلاله كمَعلم ضمن فعالية ثقافية ما، ليبقى قابعاً في النهاية هكذا مثل كومة من الخردة متروكاً للصدأ ينخر فيه، بعد أن حل كوبري ١٥ مايو الأسمنتي مكان ذلك الكوبري التاريخي العريق، الذي كان من تصميم إيفل، الآن أيضاً يتناثر الكلام نفسه عن كوبري إمبابة، فيما وصفته جريدة الأهرام الرسمية بأنه ’مذبحة‘ للكباري التاريخية، مع ما تمثله هذه الكباري من قيمة فنية وجمالية تفتقر إليها بالتأكيد هذه الكباري الأسمنتية التي تتفشى الآن في جسد المدينة.
إضافة إلى ’المأزق الوجودي‘ الذي يمر به كوبري إمبابة، يعتبر هذا الكوبري ضحية دائمة لسرقات كابلات الكهرباء وقطع الحديد، مع ما يعانيه الكوبري حالياً من مشكلات الإهمال والعشوائية اليومية، حيث يشكو الناس من أن المكان يكون مظلماً في الليل، خاصة في الجزء التابع لمحافظة القاهرة، (بينما الجزء الواقع بمحافظة الجيزة مضاءً، ويُعزي السكان هذا إلى أسباب أمن قومي!) ورغم أن قسم إمبابة يقع على بعد خطوات قليلة منه، إلا أن الكوبري يعتبر من الأماكن الخطيرة، حيث يشتكي الناس من غياب الأمن فيه حتى في ساعات النهار. فلا غرو أن يعتبر سكان شبرا كوبري إمبابة من أسوأ المناطق هناك.
ربما يكون سوق روض الفرج هو المكان الأكثر شهرة في شبرا؛ إن لم يكن بسبب كونه لفترة طويلة السوق الرئيسية للخضر والفاكهة لسكان القاهرة، فبسبب الضجة الهائلة التي أثارتها مسألة نقله إلى سوق مدينة العبور في ١٩٩٤. تم إنشاء السوق عام ١٩٤٧، وجرى تصميمه منذ البداية ليكون أكبر سوق للعاصمة، وبالفعل بحلول عام ١٩٩١ كان السوق يخدم ٦ ملايين من سكان القاهرة ويوفر وحده ما يوازي ٣٠٪ من استهلاك المدينة من الخضر والفاكهة.٣٤ لكن السوق القائم بشارع جزيرة بدران لم يكن مجرد مقر لعمليات البيع والشراء، فقد كان أيضاً بمثابة مركز اقتصادي يجذب إليه آلاف التجار والمزارعين الباحثين عن فرصة للعمل والرزق في القاهرة، وكان أحد بؤر النمو المتسارع لشبرا في منتصف القرن العشرين، الأمر الذي استدعى نقله من المنطقة في النهاية، نظراً لما أصبح يمثله وجوده من ضغط على تحمل المبنى وبنية المنطقة. وقد صاحبت هذا القرار أجواء مشحونة وعدائية من جهة الأهالي، وقد حدثت مقاومة للسلطات نجم عنها أحداث مؤسفة وضحايا وقتلى، الأمر الذي ظل يؤثر حتى وقت قريب في نظرة الأهالي تجاه المبنى باستخدامه الجديد كقصر للثقافة، خاصة وأن السلطات لم تحاول التيسير عليهم حتى بشبكة مواصلات مناسبة بعد أن قامت بنفي محل رزقهم بعيداً عن سكنهم، فاضطر أولئك للاعتماد على أنفسهم لتأسيس تعاونية أهلية، وأنشأوا خط روض الفرج – العبور لنقلهم إلى هناك.
إلا أن الطابع القديم للسوق مازال قائماً، ويتبدى في جدرانه الخارجية بلونها المرجاني، وبوابته الرئيسية التي مازالت تحمل اسم ’سوق روض الفرج‘.٣٥ ربما تصير هذه هي الذكرى الوحيدة من أيام الوفرة والحركة الدائبة للبيع والشراء والدراما اليومية للارتفاع والسقوط، مثل هذا الخبر المنقول عن عدد قديم لمجلة المصور، عن معركة دموية نشبت عام ١٩٤٧ بين العائلتين الكبيرتين في السوق، استخدمت فيها الهراوات والبنادق والمدافع الرشاشة، ونجم عنها قتلى وجرحى، وهي أجواء لم يعد يمكنك أن تعايشها مرة أخرى في هذا المكان إلا من خلال أفلام كـ’الفتوة‘ (١٩٥٧) لـ صلاح أبو سيف ونجيب محفوظ أحد كتاب سيناريو هذا الفيلم، والمأخوذ عن قصة حقيقية لعلاقة أحد التجار بالبلاط الملكي قبل ثورة يوليو، حيث تتابع فريد شوقي، أو أحمد زكي في النسخة الأحدث منه والملونة لفيلم ’شادر السمك‘ (١٩٨٦)، وكل منهما يخوض صراعه مع المدينة، متمثلة في مجتمع السوق وخباياه، كرجل ريفي بسيط نازح إليها يبحث عن فرصة للرزق، ربما عندئذ يمكنك أن تفهم أصل حالة العداء الكامنة، والتي تعبر عن نفسها في آراء السكان وتعليقاتهم عن القصر وأنشطته، والتي يجب أن تجعلنا نراجع مفاهيم مازالت الدولة ووزارة الثقافة المصرية تتبناها كـ’الثقافة الجماهيرية‘. ففي تحقيق صحفي لإحدى الجرائد المستقلة يظهر المكان مهجوراً وبحالة مزرية من الداخل، بينما تحيط به من الخارج مشاعر غضب قديم مكبوت على مصدر الرزق الذي قُضِيَ عليه، وثأر لم يداوَ مع الأيام.٣٦ فبالنسبة لمعظم أهالي شبرا، لم يكن نقل سوق روض الفرج قراراً رشيداً أو مدروساً بما يكفي. فقد جاء من أعلى دون استشارة الأشخاص المعنين. ولمدة سنة تقريباً كان هناك “ضرب نار وقتل وخطف” –على حد وصف أحدهم- إعتراضاً على هذا القرار. من جهة أخرى، فإن قصر الثقافة الذي حل مكان السوق لم يلعب دوراً فعالاً حتى الآن في حساة الناس؛ فنشاطه فيما مضى اقتصر على إبراز الإنجازات الرسمية، وليس إفادة المجتمع. وبعد ثورة ٢٥ يناير، عندما بدأت مبادرة ’شبرا حلم بكرة‘ استخدام قصر الثقافة تم استبعادها هي ومبادرات محلية أخرى في ٢٠١٣، وذلك “خوفاً على الأمن العام.”
يروج بعض أهالي شبرا أن مستشفى كتشنر، والذي لا يأبه أحد لاسمه الرسمي ’مستشفى شبرا العام‘، كان فيما سبق مقراً لإقامة اللورد كتشنر وزير الحرب البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى، وهي مقولة تتعارض مع تاريخ المبنى الذي وضع أساسه في عام ١٨٨١ الأمير النمساوي رودلف، وصممه موريس قطاوي وإدوارد ماتسك (الثنائي نفسه الذي اشترك في تصميم المعبد اليهودي المعروف بشارع عدلي بوسط البلد) ليكون منذ نشأته مستشفى في خدمة المجتمع والجالية النمساوية المجرية في مصر. وفي عام ١٩٠٥ عُد هذا المبنى واحداً من إجمالي ١٢ مستشفىً عاملاً بالقاهرة.٣٧ ثم تحول المبنى إلى الإدارة الإنجليزية، مع مبانٍ أخرى كفندق هليوبوليس بالاس، مع تطورات الحرب العالمية الأولى، حيث أقدم الإنجليز على الهيمنة على العديد من المباني العامة في القاهرة من فنادق ومستشفيات لخدمة مجهودها الحربي واستقبال الجرحى ومصابي الحرب. ومازال المبنى حتى اليوم يحمل النص التذكاري الذي تشير إلى تلك الأحداث باللغة الإنجليزية: «كتشنر خرطوم/ الذي يخدم العمل في هذه المستشفى جزءاً من أهدافه/ ١ نوفمبر ١٩١٦» ويشرح لنا أحد المؤرخين الإنجليز كيف صارت هذه المستشفى واحدة من أكبر المستشفيات،٣٨ وقد تخصصت في علاج الأمراض المعدية، حيث أصبحت أفضل مستشفى في زمانها في هذا المجال بمصر.٣٩ وفي عام ١٩٢٥ انتقلت ملكية المستشفى النمساوي المجري إلى إحدى الجمعيات الخيرية، والتي اشترته وحولته إلى ’مستشفى اللورد كتشنر للنساء والأطفال‘؛ لتغير بذلك من اسمه وتخصصه، وهو الاسم الذي قُدّر له أن يظل يُعرف به إلى اليوم بين الناس، رغم أن الاسم قد جرى تغييره إلى ’مستشفى شبرا‘ بعد ذلك مع ضمه في عام ١٩٥٤ إلى وزارة الصحة العمومية.
الحال أن شبرا زاخرة بالمعالم والمباني الهامة، وأهالي شبرا نفسهم هم أكثر الناس إدراكاً للتاريخ والتراث والقيمة الفنية الكامنة في هذه المباني، فهناك مثلاً قصر سعيد باشا، الذي شيده رابع حاكم لمصر من أسرة محمد علي عام ١٨٥٥ على شارع شبرا الرئيسي، ليكون استراحة له ومكاناً للتنزه والتريض، ثم استغله الخديوي إسماعيل كدار ضيافة لمن يفد على مصر من كبار الوفود، حيث أقام فيه على سبيل المثال أمير مكة الشريف عبد الله، الذي بلغ إعجابه بهذا القصر أن بنى بالطائف بعد عودته قصراً وضاحية هناك أسماها شبرا تذكاراً لزيارته وإقامته بهذا القصر في مصر. وقد تحول ذلك القصر إلى مدرسة ثانوية بعد أن تنازل عنه الخديوي توفيق فيما بعد لنظارة المعارف سنة ١٨٨١؛ لتسمى المدرسة التوفيقية، وهي المدرسة التي خرجت مشاهير ورجالات دولة وعلماء مثل عبد الخالق باشا ثروت، محمد محمود، طلعت حرب، وفنانين مثل عبد الوارث عسر وعماد حمدي، والمؤرخ جمال حمدان. وعلى ذكر المدارس في شبرا، فإن مدرسة الراعي الصالح هناك تعد من أقدم المدارس وأهمها بشارع شبرا، وأحد المعالم الهامة فيها أيضاً بسورها الأثري، ويفتخر أهالي شبرا بنوعية التعليم في هذه المدرسة بالذات.
ولا تقتصر معالم شبرا على حقبتها الملكية الغابرة فقط، فعمران شبرا تواصل مع حركة البناء التي اجتاحت القاهرة مع تفشي أزمة السكن وتفاقمها بعد ثورة يوليو، فظهرت أبراج أغاخان في موقع كان حتى سبعينات القرن الماضي عبارة عن أراض زراعية ومقابر للسيارات الخردة، ولم يكن كورنيش المنطقة يضم هناك سوى قصر مهجور. ومع بناء الأبراج الشاهقة الفخمة المطلة على النيل في بداية الثمانينات بدأ العمران يزحف حثيثاً من حولها. وكانت المنطقة -التي يعتبرها الشبراويون أرقى موقع في شبرا- حتى الماضي القريب الوجهة التي يقبل على شراء شقق فيها كثير من الأثرياء، خاصة عرب الخليج، الراغبين في أن يكون لهم مقر سكن بالقاهرة. ورغم توقف هذه الظاهرة، حيث الأبراج الآن يشغل أغلبها مصريون، إلا أن أسعار الشقق فيها تظل باهظة.
وإذا أردت أن تتشبع بأجواء شبرا، وليس فقط التعرف على المعالم أو الشوارع والميادين، فإن شبرا غنية بتجربة حضرية فريدة، وليس هناك خير من أهل المكان يحدثونك ويصفون لك أين تذهب لتتنزه وتتفرج وتتسوق في شبرا. وسواء كنت قاهرياً أصيلاً أو وافداً من الأقاليم، فإنك ستجد الوصول إلى شبرا سهلاً، لقربها من وسط البلد ولموقعها على مدخل القاهرة، وتوفر وسائل المواصلات الأهلية الرخيصة كالميكروباص والتوكتوك، أو بالمترو الذي سيقلك إلى شارع شبرا الرئيسي عند واحدة من المحطات التالية: مسرة، روض الفرج، سانت تريزا، الخلفاوي، أو المظلات. وهناك مواقف للأقاليم في عبّود، أو ’مطار المنوفية‘، وهو الاسم الذي يطلقه الشبراوية على موقف أتوبيسات المنوفية بجوار سنترال شبرا. غالباً يذهب الناس إلى شبرا بغرض التسوق؛ فشبرا ما هي إلا مول تجاري كبير، كما يقول أهلها. وفي شارع خلوصي وممر الراعي الصالح الضيق الذي يقع آخره بشارع الترعة تتركّز معظم المحلات بأسعارها الزهيدة في متناول الفئات الشعبية المتوسطة، ومن أشهر المولات هناك ’الراعي الصالح‘ و’الأمير‘. فإذا نال منك التعب، عندك مقاهي شبرا المعروفة بجوها الشعبي الحميم. أما أولئك الذين قد يودون تناول وجبة خفيفة في الطريق فيمكنهم أن يختاروا من بين سلاسل المطاعم الغربية المعروفة بالاسم كـ سيلنترو، كنتاكي، ومثيلتها الشعبية: جاد وكشري التحرير، أو أن يجربوا مطعم كريبيانو بشارع شيكولاني الذي يعتز الشبراوية –ربما مع بعض المبالغة المقبولة- بأنه أهم مطعم كريب في الجمهورية. الزائرون المسيحيون ربما يودون أن يشملوا في جولتهم في شبرا مكتبة المحبة المهمة لكل مسيحيي مصر، بالقرب من محطة مترو المسرة، حيث تنتشر مكتبات أخرى معظمها مسيحية حولها. فإذا كنت تحب أن تختم يومك في شبرا بنزهة لطيفة على الأقدام، حبذا بالقرب من النيل، فإن الشبراوية سيصفون لك شارع دوليتيان بأغاخان، والذي ينتهي عند الكورنيش؛ فهو من الشوارع الجيدة للتمشية، حيث الأرصفة عريضة للمشاة وتكاد تكون خالية من الإشغالات، لكنهم سينصحونك بألا تبقى فيه حتى الظلام، فالهدوء في هذا الشارع قد يتحول عندئذ إلى عدم أمان.
مشاكل شُـــبرا
كانت السبعينات والثمانينات من القرن الماضي الحقبة الأصعب على شبرا، حيث كان الزحام والتكدس قد وصلا ذروتهما، وكان ذكر اسمها لأي سائق أجرة قاهري كفيل بأن يجعله يولي الأدبار هارباً. وقد استمر سكان شبرا يعانون عقوداً من الزحام وصعوبة المواصلات حتى التسعينات، حين تم مد خط مترو الأنفاق إليها. وقد تبعت ذلك خطوات لإعادة التخطيط تضمنت إزالة خطوط الترام القديم من شارع شبرا. وقد ساعدت هذه الخطوات على تخفيف حدة الزحام،٤١ إلا أن مشكلات الحي العريق يبدو أنها لا تنتهي.
السمة الأساسية لشبرا هي الزحام، والكثافة البنائية لها تزداد كلما اتجهنا من رمسيس إلى شبرا الخيمة. وبينما تبلغ الكثافة السكانية للقاهرة حوالي ٤٥ ألف نسمة على الكيلومتر المربع، تحتل شبرا مركزاً متقدماً بين المناطق الأعلى كثافة فيها، حيث يصل متوسط الكثافات السكانية للأحياء الثلاثة المعنية مجتمعة (شبرا، الساحل، روض الفرج) إلى ٨٦ ألف نسمة لكل كيلومتر مربع (مقارنة بـ٨٣ ألفاً في قسم المطرية الذي يُعد الأعلى كثافة بين مناطق القاهرة، و ٤,٨٩٣ نسمة لحي الزمالك أقلها كثافة.)٤٢ يرجع هذا بالأساس، بالإضافة طبعاً لأزمة الإسكان المزمنة في القاهرة، إلى الطبيعة التجارية التي تميز الشوارع الرئيسية في شبرا، كالخلفاوي، خلوصي، وشارع شبرا نفسه.
يشكو الناس من مشكلات أخرى، ربما تكون منتشرة في القاهرة أو حتى مدن كثيرة من الجمهورية، مثل ندرة المساحات الخضراء أو التشجير، والتلوث الضوضائي، وتراكم المخلفات (خاصة في نفق شبرا، وشارع الكوبانية وميدان المبيضة، وبطول سور السكة الحديد على شارع أحمد حلمي، حيث تخلو معظم هذه الأماكن من صناديق تجميع القمامة، بحسب شكوى الأهالى نفسهم)؛ بالطبع مع انتشار الباعة الجائلين وإشغالات الطريق، وظاهرة اصطفاف السيارات في شوارع شبرا صفاً ثانياً وثالثاً نتيجة عدم وجود أماكن انتظار كفاية، بالإضافة لظواهر عشوائية أخرى كالتوكتوك (خاصة شارع بديع والشارع الجديد الذي به موقف للتوكتوك)، وما ينجم عن كل هذا من تكدس في حركة السير والمرور. ومع أزمات نقص الوقود المتكررة، تتفاقم مشكلات التكدس والزحام مع طوابير السيارات المتجمعة أمام محطات الوقود حتى تكاد تغلق شوارع بكاملها، ويضرب السكان مثالاً على هذا بإحدى المحطات والموجودة بشارع الورشة، حيث يتساءل الأهالي متعجبين إن كان هذا هو أفضل مكان لها!
وشبرا -التي تضم إضافة إلى مستشفى كتشنر، مستشفيات حكومية أخرى كثيرة: معهد ناصر بالكورنيش، الرمد، الساحل، هذا غير المستشفيات التابعة لجهات أهلية أو دينية: الإصلاح الإسلامي، ومستوصفات سانت تريزا، مار مرقص- فإن الرعاية الصحية فيها بالرغم من كل هذا تحتاج إلى نظرة. مستشفى الساحل على سبيل المثال يسميه الأهالي ’مقبرة الساحل‘، أما شارع جسر البحر الذي يقع فيه مستشفى الرمد فيمتلئ بالمخلفات والقمامة والإشغالات، إضافة إلى موقف للميكروباصات يضيف إلى التلوث البيئي والبصري تلوثاً ضوضائياً، ومستشفى كتشنر (أو شبرا العام) منطقته ليست أفضل حالاً.
وتشترك شبرا في المشكلات التي تعانيها مع سائر مناطق القاهرة المهمشة والفقيرة، فالشوارع معظمها يفتقر إلى الرصف عدا الشوارع الرئيسية فقط، أما الأجزاء التي يتركز فيها أصحاب الدخل المنخفض في شبرا، وفي الحارات الضيقة منها، وأماكن أقرب إلى العشوائية، فإنها تقاسي الحرمان من خدمات أساسية كالغاز والصرف الصحي، ناهيك عن تحول الأراضي الفضاء والمساحات العامة فيها (والتي هي محدودة أصلاً) إلى خرابات تمتلئ بالقمامة. ويعتبر الأهالي أن معرض المنتجات السورية الذي أقيم في الساحة الخالية أمام المدرسة التوفيقية مثالاً جيداً على استغلال الأراضي الفضاء. ومقابل المناطق المقسمة والمخططة تخطيطاً جيداً، كمنطقة طوسون مثلاً التي تتصل بمناطق حيوية في شبرا كشارع شبرا الرئيسية وفخر الدين، إلا أن ثمة مناطق تعاني من مشكلات تخطيطية واضحة، ومرة أخرى يبرز اسم حكر أبو دومة والمناطق المتفرعة منها، وعزبة جرجس التي هي عبارة عن مجموعة من العشش ما بين شارعي أحمد حلمي والترعة البولاقية، كمثال على الأجزاء غير المخططة من شبرا. كما تعاني شبرا من سوء توزيع للخدمات، فالأسواق مثلاً تتركز في مناطق بعينها في حين باقي المناطق تكاد تكون محرومة منها تماماً.
فاعلية الشرطة في المنطقة محدودة، وتفتقر الأماكن المجاورة لنفق شبرا أو الكباري إلى الإنارة العمومية الكافية، كما في كوبري إمبابة ناحية محافظة القاهرة أو كوبري السبتية (الصنايع) ناحية حي ورض الفرج، لتكون غير آمنة خاصة ليلاً، كما يلاحظ السكان انتشار تجارة المخدرات والأنشطة الإجرامية والبلطجة في مناطق مثل شارع جسر البحر، والحافظية، وعزبتي جرجس وسيدي فرج.
وتستحق الفترة التي تلت الثورة تعليقاً خاصاً، فإضافة إلى مشكلات الانفلات الأمني التي أعقبتها ومخالفات البناء التي تسارعت وتيرتها، صارت شبرا تشهد أحداث عنف سياسي، واندلعت اشتباكات أكثر من مرة على طول شارع شبرا بين المسيرات المتجهة للتحرير وبين سكان شبرا، خاصة بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي مباشرة، حيث من الواضح أن شبرا، الحي الذي طالما عُرف عنه التسامح والترابط، قد ألقت الثورة وتوابعها على كاهل نسيجه الاجتماعي حملاً أثقل من أن نستطيع إنكاره.
حالة شُـــبرا: الخصائص الديمغرافية للمناطق كمدخل لتطويرها
عند تأمل الحال الذي آلت إليه شبرا الآن، مقارنة ببداياتها الواعدة أوائل القرن التاسع عشر، فإنه يمكن إرجاع الفارق الواضح بينهما إلى افتقار المخطط العمراني وصانع القرار إلى الرؤية الحضرية اللازمة لتطوير شبرا في الاتجاه الذي يمثل الحفاظ، ليس عليها فقط كمنطقة لها تاريخ حافل وتزخر بالأصول ذات القيمة التراثية، ولكن أيضاً، وبالأساس، على طابع الحياة الحضرية والخصائص الديمغرافية للمجتمع المحلي في شبرا.
فالملاحظ أنه منذ زمن بعيد، ربما حتى قبل قيام ثورة يوليو، تُركت شبرا لتنمو وتتضخم ولتجور الهجرات الداخلية على مقومات الحياة فيها ونمط العيش لسكانها. وبينما كانت المشروعات الأولى، التي صاحبت نشأة شبرا وازدهارها (وكذلك القاهرة الحديثة بكاملها)، تتسم بقيمتها التنموية الواضحة، وبإمكاناتها المستقبلية الكامنة، وأيضاً باستخدامها لقدر من أدوات التحكم وضوابط العمران، نلمس ذلك في التوجيهات الأولى لمحمد علي وللإدارة المركزية حتى عصر إسماعيل، اقتصرت التدخلات اللاحقة على المبادرات الفردية، كما سمحت إدارة المدينة بشكل يمكن وصفه بأنه غير منظم لمقسمي الأراضي وللمستثمرين العقاريين، في حقب مختلفة، بتشكيل النسيج العمراني لشبرا والتغيير في الوظائف والاستخدامات بقدر ضئيل جداً، وربما معدوم، من الضوابط. أحياناً كانت تبرز بعض تلك المبادرات الفردية لأصحاب مشروعات –من أمثال ڤيكتوريا وأحمد حلمي- كانت مشروعاتهم المبكرة بمثابة رواسم عمرانية واقتصادية للمنطقة، وساهمت على نحو مشهود في تنميتها الحضرية والاجتماعية وامتدادها العمراني، إلا أنها، في معظم الحالات الأخرى، كان لها تأثير سلبي على استمرارية النمط الحضري الذي كانت تمثله شبرا. فالمدينة لا تتكوّن نتاجاً لسياسات عامة فقط، وإنما تنجم أيضاً عن التقاء تلك السياسات مع مصالح الملاك العقاريين. وتبقى خطورة مثل هذه التدخلات الفردية أو الخاصة –كما يقول أرنو- أنها عاجزة بطبيعتها عن أن تكفل للمدينة تعدديتها، ومن ثم فإنها تسهم بشدة في تخصص الأحياء.٤٣ وهكذا، مقارنة بالتنوع الذي كانت عليه شبرا ولاحظته چانيت أبو لغد في كتابها عن تاريخ القاهرة: «تحتوي شبرا على اختلافات أوسع من تلك الموجودة في مجتمعات ثانوية مجاورة، وذلك من حيث الوضع الاجتماعي والاقتصادي والتركيبة العرقية ونوع المساكن.»٤٤ حيث كانت المنطقة تعتبر نموذجاً حضرياً فريداً لمجتمع المدينة متعدد الطبقات، حيث يتشارك الحياة فئات العمال والفلاحين النازحين والمتعلمين الحاصلين على شهادات أكاديمية وأصحاب الثروات الصغيرة والمتوسطة وأصحاب القوى الشرائية المتواضعة، فإنها تفقد بمرور الوقت هذا التنوع، وتميل بشدة لتتماهى مع باقي مناطق الأطراف والهامش للقاهرة التي تطغى عليها بعشوائيتها.
ولعل هذا هو التفسير في أن الخطط الحكومية المتعلقة بشبرا تتعامل معها بأحد منطقين اثنين: فشبرا بالنسبة للمخططات الرسمية هي إما منطقة هامشية تقع في أطراف القاهرة، أو هي مكان تظهر به بؤر عشوائية على السلطات أن تقوم بإزالتها..
في الحالة الأولى تمثل شبرا مجرد تجمع للمواقف ومحاور الوصول للمدينة، حيث الرؤية الرسمية الآن لمستقبل المنطقة -كما يمكن أن نستشفها من مخطط القاهرة ٢٠٥٠ مثلاً، تركيزها الأساسي على مشروعات محاور المرور كمقترح محطة روض الفرج- وتتعامل مع شبرا فقط كمدخل إلى القاهرة تقع على حدود الخارطة العمرانية للمدينة، دون التعمق في النظر إلى احتياجات سكانها نفسهم. وبينما قد يرى بعض أهالي شبرا أن التدخلات الحكومية صغيرة النطاق، كتجديد طريق أو كوبري، كوبري، تمس حياتهم أكثر،٤٥ فإن الأنشطة والاستخدامات التي تهتم الرؤية الرسمية بطرحها، مثل المراكز الإدارية أو أماكن الترفيه،٤٦ يبدو أنها لا تخدم المجتمع الذي تقوم فيه أو اقتصاده أو تنميته هو بحد ذاته.
أما الرؤية الرسمية الأخرى لشبرا كمنطقة تحتوي على بؤر للعشوائيات فيندرج تحتها ما أعلنته مؤخراً محافظة القاهرة عن تطوير عزبتي جرجس والعسال في شبرا، والمصنفتين كمنطقتين عشوائيتين، من خلال بروتوكولات تعاون مع صندوق تطوير العشوائيات وصندوق ٣٠٦٣٠٦ (صندوق دعم مصر)، على أن تتضمن أعمال التطوير الإحلال والتجديد لشبكات الصرف الصحى ومياه الشرب والإنارة والرصف والتشجير وتبليط الأرصفة وإنشاء شبكات لإطفاء الحريق، وإنشاء الأسواق أو التجديد لها. أما عن الجهة التي ستقوم بهذه الأعمال فهي إدارة الأشغال العسكرية. وبغض النظر عن أي انتقادات قد تُوجّه إلى هذا النهج، إلا أن التدخلات الحكومية من هذا النوع تعجز عن أن تحقق حتى نتائجها التي تضعها لنفسها؛ مثالاً على هذا المنطقة الواقعة في حكر أبو دومة ما بين مركز شباب روض الفرج وسوق البلح، بعد أن جرت إزالتها لإقامة مشروع آخر من تلك المشروعات التي تندرج تحت مجالات السياحة والترفيه وإقامة المباني الإدارية والتجارية أو الفندقية، وذلك تحت مسمّى إنجليزي جذاب للترويج هو Nile Doma. فكل ما تم حتى الآن هو أن تحولت المنطقة التي تم إخلاؤها وإزالتها إلى أماكن اصطفاف للسيارات!
ويمكننا أن نماثل، مع بعض التساهل، بين الكيفية التي تعاملت بها سلطة الاحتلال الإنجليزي مع شبرا، حينما عرضت على الملاك الخاصين العديد من مساحات القصور والحدائق في شبرا للتقسيم كقطع أراض للبناء أو لتكون مصانع للسجائر كقصر شيكولاني مثلاً، وبين التدخلات الحكومية المعاصرة. فبينما نظر الإنجليز إلى شبرا باعتبارها ضاحية على حدود القاهرة، وتعاملت مع رصيدها العقاري من الحدائق والقصور الأرستقراطية على أنها جيوب عمرانية للتوسع، وليس مناطق للحفاظ، فإن الحكومات الحالية بدورها تركز عما تعتبره جيوباً عمرانية في شبرا قابلة لجذب المستثمرين وأصحاب المشروعات، حيث ’تفتش‘ مخططاتها عن الأراضي ذات الإغراءات الاستثمارية، فلا تجد إلا الكورنيش لتركز عليه مع بعض المواقع القريبة من معالم أثرية أو سياحية قد تجذب اهتمام المستثمرين، وتطرح تصورات مكررة عن الاستغلال البصري للواجهة النيلية -كما حدث في حالة أبراج أغاخان أو مع مناطق أخرى من كورنيش القاهرة، بعضها في الواقع قريب من شبرا مثل برجي مركز التجارة العالمي.
يمكن رصد اختفاء مقومات الحياة الحضرية للطبقة المتوسطة في شبرا، وبالتالي تآكل الطبقة نفسها، في شكاوى سكان شبرا من اختفاء النوادي الاجتماعية جيدة المستوى، وتدني مستوى التعليم والصحة بالمدارس والمستشفيات، وعدم وجود الحدائق، وإهمال الفعاليات والأحداث الثقافية. وهو نتاج واضح للنزيف والهدم المستمر للعناصر المكوّنة لنمط حياتها من سينمات ومسارح وأسواق ومبان سكنية تراعي اعتبارات اجتماعية واقتصادية معينة، دون أن يحل محلها خارطة عمرانية جديدة تعمل على استعاضة جوانب النقص المتزايدة في هذه المقومات والاعتبارات، بل العكس.. فقد زحفت عشوائية المجتمعات غير المخططة على شبرا، وراحت الأبراج السكنية التي تفتقر شققها للنور والهواء والبراح ترتفع في كل مكان بها، مع أزمة السكن وهيمنة اقتصاديات السوق العقاري، الأمر الذي يؤدي إلى أن تصبح شبرا في النهاية مركزاً طارداً لسكان هذه الفئة مع الوقت. ويفقد المكان الذي كان متنفساً لأهل القاهرة، ومصدراً للثقافة والترفيه لطبقات الشعب المتوسطة والبسيطة، شيئاً فشيئاً طابع الحياة الحضرية للطبقة المتوسطة، لصالح زحف العشوائيات وثقافة الهامش في ظل إهمال أو تغاضٍ رسمي، لتبرز ’مهرجانات شبرا‘ منتشرة بموسيقاها الصاخبة وأدائها الفج وشعبيتها الواضحة غير المفهومة، حيث يمكن أن ترى مجموعة من الشباب تتقافز على أنغامها في حديقة قصر الثقافة المهجور،٤٧ مقابل ذكرى ماضي المكان نفسه؛ روض الفرج، الذي كان يحكي عنه نجيب محفوظ إنه من خلال مسارحه شاهد كثيراً من العروض المسرحية الشهيرة التي كان يعجز عن مشاهدتها عند فرقها الأصلية في مسارح وسط البلد الشهيرة والغالية؛ حيث كان يجد من يقلد يوسف وهبي أو يعرض أوبريتاً لـ سيد درويش.٤٨ وهكذا كانت الحياة الحضرية الغنية للمدينة آنذاك توفر للمواطن القاهري العادي تجربة مماثلة أو قريبة لتلك التي تعيشها طبقات المجتمع الأكثر ثراء في الأحياء الراقية.
الغياب للرؤية والمبادرة التخطيطية من قبل الدولة، وكذلك غضها للطرف على مر عقود عن وضع أدوات للتحكم في عمران المدينة ولعدم جور طبقات السكان على بعضها البعض في الحيز وفي الثقافة، وتدخلاتها التي تفتقر إلى الحساسية تجاه الخصائص الديمغرافية والاقتصادية لمناطق معينة بالمدينة، كما حدث في نقل سوق روض الفرج أو في ترك أمره من الأصل ليستفحل ويصبح عبئاً على الحي، كل هذا يمكن أن نلمح نتائجه في الوضع الملتبس لمنطقة شبرا الآن، التي كانت الحي الراقي للبرجوازية المصرية، حيث المجتمع المتميز بفئاته وقاعدته الاقتصادية وشبكة اهتماماته، لتصبح في طريقها للتحول إلى مجرد منطقة غير متجانسة، تجتمع فيها مشكلات المناطق الشعبية والمجتمعات العشوائية، وتتكالب على حياتها اليومية التناقضات التي يعاني منها المصريون عامة بطبيعة الحال.
وعلى هذا، فإن الدعوة إلى التطوير في شبرا خاصة، والقاهرة عامة، لا بد أن تبدأ من فهم التباينات والسمات الديموغرافية الفارقة التي تميز بعض المناطق عن البعض الآخر داخل المدينة الواحدة، خاصة في حاضرة كبرى ومتنوعة كالقاهرة، وهو التنوع الذي يحذر أرنو من اختفائه. فبالعودة إلى فترة ازدهار المنطقة، نجد أن شبرا لم تكن في الأصل منطقة عشوائية غير مخططة، كما أنها ليست منطقة شعبية قديمة كأحياء أخرى أكثر عراقة في القاهرة، وإنما كانت حياً للطبقة المتوسطة وللبرجوازية المصرية يمتد عمره الآن لحوالي مئتي عام.
إن الأسئلة التي تثيرها شبرا اليوم، وتثير معها الشجون، هي عما إذا كان القائمون على الإدارة والتخطيط لحاضرة كبرى كالقاهرة ينظرون إلى ما هو أعمق من المشكلات الحياتية اليومية والأحلام المتواضعة للمستثمر العقاري. هل تُراعى أشياء من قبيل الخصائص الديمغرافية للسكان في منطقة معينة؟ وإلى أي مدى يأخذ صناع القرار في اعتبارهم ألا تتغير التركيبة السكانية، أو أن تتأثر سلباً أو جذرياً، بتدخلات سواء من الدولة أو من مشروعات خاصة؟ أم أن هذا يعتبر من قبيل الرفاهية في ظل الأزمات الخانقة التي صار يتشارك معاناتها المصريون جميعاً، بحيث يتم التغاضي عن مثل هذه الاعتبارات الديمغرافية؟
الواضح هو أنه في حالة شبرا لا تأخذ الخصائص الديمغرافية حيزاً في ذهن المسئولين أكبر من كونها مسألة سياسية وحسب، يجري توظيفها بشكل عشوائي وبراجماتي في اللعبة السياسية. وفي هذا الإطار يتحول المجتمع الشبراوي بتركيبته المتنوعة، أو الذي يُفترض به أن يكون كذلك، إما إلى مجرد مثال توافقي يُروج له للتعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر، أو كساحة صراع يسعى فيها بعض الأطراف لإبراز غلبة هوية دينية على أخرى.
إن الإرث المعنوي والمادي الذي تمثله شبرا يبرز في التاريخ الحضري للقاهرة كمدينة كانت تفتح ذراعيها للغرباء والأجانب وللنموذج المختلف للآخر دينياً وعرقياً. وبينما تستمر القاهرة بالذات في الوقت الحالي، ومصر عامة –وسط واقع إقليمي مشحون بالتقلبات والصراعات وأصداء الحرب– في استقبال لاجئين عرب وأفارقة وغيرهم، فإن شبرا بوسعها أن تقدم لنا درساً من تاريخها ونموذجاً مما تبقى في حاضرها، عن أيامها المزدهرة، حينما لجأت إليها جاليات شامية وأقليات أرمنية وجنسيات أخرى أوروبية هرباً من المظالم والاضطهادات والمذابح في ظل الحكم العثماني لبلادهم، أو بحثاً عن المغامرة والفرص في بلد بدا واعداً أيامها، حيث أعطتهم الفرصة وأفسحت لهم المجال للاستقرار والعمل الاقتصادي وللاندماج الاجتماعي؛ ليصبحوا مساهمين حقيقيين، جنباً إلى جنب مع أبناء البلد، في النهضة والتحديث والتطور الذي شهدته مصر خلال القرن التاسع عشر، والذي كان –ليس عن مصادفة– زمن الأوج لشبرا.
روابط ذات صلة
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments