من أحد مظاهر التأثير السلبي للتحضر في مصر هو تعرض الطبقات المحدودة والمتوسطة الدخل إلى تقسيم غير عادل، بينما تنعم الطبقات الأكثر ثراءً بمعظم المزايا.1 ويتضح هذا التفاوت من خلال المقارنة بين الأحياء الراقية (الأحياء التي يسكنها الطبقات المتوسطة إلى مرتفعة الدخل) مثل مصر الجديدة، وبين الأحياء الشعبية (الأحياء التي يسكنها الطبقات محدودة الدخل أو الطبقات الكادحة) مثل بولاق الدكرور. فالفرق بين تلك الأحياء يظهر في شكل المساكن، الكثافة السكانية، مساحة الشارع ورصفه، مقدار المساحة العامة، الجودة العامة للبيئة. إن عدم التكافؤ هذا يمتد إلى الخدمات العامة مثل توفير المرافق، البنية التحتية، مراكز الرعاية الصحية، المباني المجتمعية، إتاحة المواصلات العامة. فالحق في التنمية الحضرية المستدامة والمنصفة يلزم الدولة بتقديم مستوى متكافئ من الخدمات لجميع المصريين.
ما هو الحق في التنمية العمرانية العادلة والمستدامة؟
الحق في التنمية العمرانية العادلة هو الحق المكفول لجميع المصريين في التشارك والمساواه في الاستمتاع بالمزايا وتحمل أعباء التنمية الحضرية. تخطيط المدن وسن اللوائح والإدارة يجب أن تصمم بطريقة تضمن توزيع الخدمات والموارد بإنصاف بين جميع السكان وتقوى سبل الترابط الاجتماعي وتضمن تحقيق الوظيفة الاجتماعية للمدينة والممتلكات . وكذلك يجب أن تكون التنمية العمرانية مستدامة أيضا. فيجب أن توازن التنمية العمرانية بين احتياجات السكان الحاليين والصحة البيئية والبدنية والمالية للمجتمعات لكي لا تكون تنمية اليوم عبء على الأجيال القادمة. وفوق ذلك، يجب ألا تتهاون التنمية العمرانية في التراث الفني والثقافي والمعماري والتاريخي لأي مجتمع.2
ندرك جميعاً أن الكثير من الاختلافات بين الأحياء الراقية والشعبية ما هي سوى نتيجة تعارض في تقسيم الثروة. ومع ذلك، تؤثر التنمية العمرانية تأثيرا اجتماعياً على نطاق واسع. فهو حق مكفول لجميع المواطنين للاستفادة بالتساوي في الاستثمارات العامة في المناطق الحضرية والحصول على فرص متساوية في مجال الخدمات العامة بغض النظر عن مكان سكنهم.
تأثير الحق في التنمية العمرانية العادلة والمستدامة على حياتنا اليومية
توفير الخدمات العامة
تتنوع جودة الخدمات العامة في مصر من مدينة لأخرى ومن حي لآخر. لا ينبغي أن تتواجد هذه الفوارق من الأساس. توفير الخدمات يتم على مراحل، وبعض المناطق في المدينة ستحصل على مستويات أعلى من الخدمات العامة عن مناطق أخرى على أي حال. لكن هذه الفوارق في الخدمات غير مؤقتة، فهي متعمدة وممنهجة؛ حيث تختار الحكومة المصرية عدم توفير خدمات عامة لقطاع كبير من السكان في المناطق الحضرية. فعلى سبيل المثال: يتضح هذا التفاوت في انقطاع التيار الكهربائي الذي يحدث في أوقات كثيرة منذ عام 2011 كنتيجة لنقص الوقود لتوليد الكهرباء. يتحمل ساكني المناطق العشوائية وذوي الدخل المنخفض والمتوسط عبء أكبر في هذه الانقطاعات، فهم أحيانا يعيشون دون كهرباء لأيام، مقارنة بمناطق أخرى في المدينة ينقطع عنها التيار الكهربائي فقط لساعات. ويتكرر هذا السيناريو بصورة مختلفة في مرافق الوحدات الصحية، المدارس، توفير المواصلات العامة، المساحة العامة، البنية التحتية، وغيرها.
التحضر وغياب المساواة في المساحة
شهدت القاهرة خلال العقود القليلة الماضية نزوح الأغنياء إلى المجتمعات المسورة، حيث باعت الدولة مساحات كبيرة من الأراضي لمستثمرين من القطاع الخاص لبناء تلك المجتمعات، كما انفقت ملايين الدولارات على البنية التحتية لتوفير خدمات مناسبة لهم. بينما يتركز الفقراء في المناطق العشوائية، أو يعانون من إعادة تصميم إجباري لسكنهم مما يؤدي إلى نقص في وسائل المواصلات والخدمات والمرافق الأساسية للحياة.
يعكس الإقصاء المكاني هذا التفاوت الاقتصادي. فبينما ينعم الأغنياء ببيئة أنظف، سكن أفضل، خدمات وبنية تحتية، مكان أخضر مفتوح للشمس والهواء؛ يتم تهميش الفقراء ويعانون من التلوث، مساحة سكنية مكدسة، طرق سيئة، وسائل مواصلات غير مريحة. ومع ذلك، فإن هذا الإقصاء يتجاوز تأثيره من إبراز الاختلافات الاقتصادية ليصل إلى تغيير الروابط الاجتماعية حيث يصبح الغني والفقير كل منهما في عزلة وفرقة عن الآخر. ويثير هذا شعور الحرمان لدى الفقير، بالإضافة إلى إنكار حقوقه الاجتماعية، بما في ذلك حقوق أخرى مثل الحق في الملكية العامة والخاصة، والحصول على الخدمات الرئيسية، والتوظيف، والتمثيل، والعدالة.
ومن هذا المنطلق، نجد أن التنمية العمرانية العادلة تأتي على قائمة أولويات اهتمام المواطن المصري واحتياجاته العاجلة. وهكذا يتحقق الإنصاف عن طريق مد الجميع بفرص متساوية من الخدمات مثل الصحة والتعليم، بالإضافة إلى منع الإقصاء والسماح بالالتقاء بين أفراد المجتمع المحلي. وقد ينعكس هذا الالتقاء على آليات الحكم المحلي وتقديمها مثل المحليات التي قد تعبر عن احتياجات المواطنين واهتماماتهم. كما تساهم في تضاءل الفوارق الاقتصادية، فعلى سبيل المثال: الأحياء الصغيرة المحددة بكثافة سكانية عالية نسبياً تقلل من تكلفة المواصلات. فمن المهم أن يستطيع السكان الوصول إلى نقاط تجمع مثل محطات الأوتوبيس والمدارس، كما يتيح ذلك من فرص وجود محلات ومشروعات تدر دخلاً وتخلق فرص عمل وتخفف من حدة الفقر.3
ختاما، تضمن التنمية العمرانية العادلة حماية الموارد الطبيعية وتحمى حق المواطنين في الحصول على مساحات عامة خضراء مثل الحدائق والمحميات. إلى جانب معاناة المدن المصرية من نسبة عالية من التلوث في المياه والهواء والتربة مما يؤثر بالسلب على حياة الملايين من المصريين. فتساعد التنمية المستدامة على تقليل نسبة التلوث عن طريق الحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون المنتشرة في المدينة أو التخلص من النفايات بصورة أفضل بالإضافة إلى زيادة نسبة المساحات الخضراء.
الحق في التنمية العمرانية العادلة والمستدامة والدستور المصري
ينص دستور 1971 على دور الدولة في تقليل الفوراق في الدخل (المواد 4، 23) وتلزم الدولة بتقديم دعم على الخدمات الاجتماعية لجميع المواطنين (المادة 16). يؤكد دستور 2014 على الاحتياج إلى خطة تنموية وطنية تضمن الحقوق الاقتصادية لجميع المواطنين وتدعم المساواة الاقتصادية (المادة 27). كما يؤكد على حقوق المساواة لجميع المواطنين بما في ذلك الحق في فرص متساوية في التعليم (المادة 19) والرعاية الصحية (المادة 18).
كما يلزم دستور 2014 الدولة بتنمية المناطق الريفية لتحسين حياة المواطنين القاطنين هناك (المادة 29). ينص أيضا بوضوح على أن الحكومة يجب أن تضع خطة وطنية للإسكان بناء على الإنصاف الاجتماعي. ومن أجل هذا، شجعت الحكومة على استخدام الأراضي العامة للتعمير الذي يعمل على خدمة الصالح العام وتصون الحقوق للأجيال القادمة.4 وفي النهاية، فهو يضمن المساعدة الفنية والإدارية والمالية للقطاعات المحلية، بالإضافة إلى توزيع عادل للمرافق، الخدمات، الموارد، وتلزم الدولة، وفقا للقانون، بإزالة الفوارق في التنمية وبين مستويات المعيشة في الدوائر الإدارية المحلية (المادة 177). تعتبر هذه المواد خطوات إيجابية نحو ترسيخ حق التنمية العادلة في الدستور، بالإضافة إلى تشجيع تحقيق دور الوظيفة الاجتماعية للممتلكات.
أمثلة في دساتير دول أخرى
تهتم الدساتير حول العالم بحق التنمية العمرانية المنصفة. تضمن دساتير كثيرة مثل دستور أنجولا 1991 (المادة 9)، البرازيل 1988 (المادة 174)، جزر الرأس الأخضر 1992 (المادة 192)، التيمور الشرقية 2002 (المادة 6) حق النمو المتوازن وتنمية جميع المناطق في الدولة. ويحدد دستور إريتريا 1997 (المادة 8.2) التنمية المستدامة في جميع المناطق، وتمكن المواطنين من تحسين مستوى معيشتهم بطريقة مستدامة عن طريق مشاركتهم. يؤكد دستوري جامبيا 1996 (المادة 215.3 ج) وغانا 1992 (المادة 36.2 د) على إعادة التوازن بين المجتماعات الحضرية والريفية.
كما تم تناول دور الفروع الحكومية ومستويات الحكومة المختلفة في بعض الدساتير. فعلى سبيل المثال: تم إلقاء الضوء على دور البرلمان في الأرجنتين في دستور 1994 (المادة 75) لدعم مستوى متساوي من التنمية في المحافظات والأقاليم، بينما دساتير أخرى مثل دستور بوتان 1998 (المادة 22) كلفت السلطة التنفيذية بضمان تنمية مستدامة ومتوازنة بيئياً ودعم تنمية اجتماعية واقتصادية يمكن صياغتها. كما كلفت الحكومة المحلية بضمان التنمية المستدامة كما حدث في دستور بوتان 1998 (المادة 22) التي تلزم الحكومة الوطنية بدعم الحكم المحلي لتدعيم خطط التنمية العمرانية الشاملة.
تعتبر التنمية المستدامة والمنصفة مهمة شاقة ويصعب تحققها من جانب واحد. فتحديد الأدوار والمسؤوليات التي يتكفل بها كل جهاز من أجهزة الدولة في الدستور يضمن أن جميع المهام سيتم تنفيذها على الوجه الأكمل من قبل الجميع: فالسلطة التنفيذية مسؤولة عن وضع خطط تنموية وتنفيذها، السلطة التشريعية مسؤولة عن سن قوانين ذات صلة، بينما تعمل أجهزة الحكومة المحلية على استشعار أولويات المواطنين واحتياجاتهم التنموية بالإضافة إلى تنفيذ مشروعات التنمية المحلية. فإلى جانب لفت انتباه تلك الأجهزة لواجباتها التنموية، فإن النص على أدوارها بشكل واضح في الدستور يسمح بتقديمهم للمساءلة وفقاً لذلك.
نحو دستور أفضل
تعد التنمية العمرانية العادلة والمستدامة أولوية عاجلة لتحسين حياة المواطنين وحماية البيئة. يمكن تعديل الدستور واضعين في الاعتبار المبادئ التالية لتحقيق هذا المبدأ:
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments
Trackbacks