هل تعرف ما هى تكلفة الخدمات العامة فى منطقتك؟ هل تعرف ما هى تكلفة رصف الطرقات أو إضاءة الشوارع أو صيانة الحدائق العامة والأشجار؟ هل تعرف من الذى يدفع ثمن تقديم خدمات المياه والتعليم والغاز والصحة؟ هل تعرف من الذى يدفع مرتبات الموظفين الذين يعملون على تقديم تلك الخدمات؟ هل تعرف أى قسم من الحكومة يقوم بتمويل بناء عيادة صحية أو محطة كهرباء فرعية؟ هل تستطيع تحديد أولويات الخدمات المختلفة التى يتم تقديمها فى منطقتك؟ وكيف يوازن المرء بين تكلفة الخدمات العامة وفائدتها للمجتمع؟
هناك كثير من الأنشطة التى تقوم الإدارة المحلية والعاملين بها بتمويلها والإشراف عليها فى منطقتك، ولكن تكلفة تلك الأنشطة تظل غامضة بالنسبة لمعظم السكان وكأنها سر من الأسرار. ومن الصعب على المواطنين أن يفهموا تلك الأمور طالما ظلت الحكومة تتكتم على سياساتها وطالما ظلت تعمل فى غياب قانون لإتاحة المعلومات للجمهور. والواقع أن الهيكل المالى للحكومة له تأثير كبير فى الأسلوب الذى يتم من خلاله ترتيب الأولويات ودفع تكلفتها. ومن المفترض أن الحكومة تحصل على مواردها من دافعى الضرائب، وهو ما يعطى للمواطنين الحق فى الرقابة على الحكومة ومعرفة تكلفة السلع والخدمات العامة والحق فى التأثير على الطريقة التى يتم بها توزيع الموارد المالية، وكلها أمور تضمن عدالة هذا التوزيع.
تهتم “تضامن” بشئون البيئة المبنية، إدارة العمران، والعدالة الاجتماعية، وذلك بهدف توضيح أهمية نظام الإدارة المحلية – ذلك العنصر الهام الذى لم يلق بعد ما يستحقه من التقدير- فى تطوير المدن المصرية وحل المشاكل الموجودة على المستوى المحلى.
وفي حالة مصر، نجد أن المستويات المحلية من الحكومة (على مستوى المحافظات والمراكز والمدن والقرى والأحياء) تقوم بتنفيذ وتطبيق قوانين يتم التوصل إليها على المستوى القومى (إما من خلال السلطة التنفيذية أو التشريعية). ومن المألوف أن يتردد المصريون على المكاتب الحكومية ويتعاملون بشكل يومى مع الموظفين بها من أجل انهاء عدد كبير من الخدمات والاحتياجات والأمور الإدارية.
ولكن لأن الحكومة المصرية تتميز بدرجة عالية من المركزية، فإن معظم المستويات المحلية من الحكومة تقوم فقط بالدور الإداري بدون تشاور مع المواطنين ولا تملك سوى القليل من الموارد المالية والفنية لتطبيق السياسات.
وفى عهد الرئيس السابق مبارك، كانت المجالس الشعبية المحلية تقع تحت سيطرة الحزب الحاكم (الحزب الوطني الديمقراطي) بالكامل، بدلاً من أن تكون ممثلة للشعب. وكانت تلك المجالس تحت سيطرة المجالس التنفيذية التى تدير مختلف الإدارات الحكومية على مستوى المحافظة فما أدنى منها. ويلاحظ أن معظم الموظفين فى تلك الإدارات يتبعون الوزارات القومية (أنظر مقالة “تضامن” لماذا توقفت الثورة عند مستوى المحليات).
وبرغم أن القانون يعطى للمجالس الشعبية المحلية الحق فى تعديل واقرار الميزانيات المحلية، فإن الميزانيات يتم تحديدها فعليا من قبل الوزارات المركزية والمجالس التنفيذية للإدارة المحلية، ويتم الموافقة عليها من قبل وزارة المالية، ثم تقدم للمسؤولين المحليين لكى يتولوا تنفيذها. وبسبب انتشار المحسوبية فى البلاد، يهتم أعضاء المجالس المحلية التنفيذية كذلك موظفى الإدارة المحلية إلى ارضاء رؤسائهم – فى المستويات العليا بالهيكل الإداري أو فى الوزارات القومية – أكثر مما يهتمون بخدمة المواطنين.
وترى “تضامن” أنه بتحقيق درجة أكبر من الاستقلال على مستوى الإدارة المحلية، فإن ذلك يعمل على تمكين تلك الإدارة من تلبية احتياجات الشعب المصرى، اتباع سياسات تلائم احتياجات المجتمع، وإعادة تشكيل علاقة الدولة بالشعب. كما تؤمن “تضامن” بأن المجالس الشعبية المحلية المنتخبة تحتاج إلى دعم أكبر وإلى موارد إضافية حتى تتكمن من العمل على نحو يعمق من الممارسة الديمقراطية ويلبى دعوة الثورة إلى الحرية السياسية. فالمجالس المحلية التنفيذية تستحق قدرا أكبر من الدعم الفنى والتدريب والأجور العادلة حتى تتمكن من تحسين قدراتها على تقديم الخدمات وخدمة المواطنين على نحو أفضل.
نقص الموارد هو أحد العقبات التى تواجه التحول من نظام “الإدارة” المحلية إلى نظام “الحكم” المحلي الذي يتسم بتمثيل ومشاركة المواطنين. كانت الإدارات المحلية تتلقى الجانب الأعظم من دخلها من الحكومة المركزية. وقد تزايدت تلك الإعتمادات فى السنوات القليلة الماضية. ومع أن القانون يمنح الإدارات المحلية حق فرض الضرائب والرسوم، فإن الأعضاء المنتخبين فى المجالس الشعبية المحلية يترددون فى فرض أعباء إضافية على الناخبين، وهو موقف يؤدى إلى دعم المركزية فى اتخاذ القرار.
فى هذا المقال، سوف نعرض الطريقة التى يتم من خلالها تقسيم الميزانيات والمصروفات الخاصة بالإدارة المحلية بمصر. ويلاحظ أنه من الصعب معرفة حجم الموارد المالية فى كل منطقة وكيفية انفاقها، نظرا لأن الميزانيات يتم التعامل معها بوصفها أسرار دولة ولا يسمح بالإطلاع عليها إلا بتصريحات خاصة. مع هذا، يمكننا من خلال تحليل بعض الأرقام العامة أن نلقى الضوء على بعض التحديات الأساسية التى تواجه الحكم المحلى فى مصر.
دخل الإدارة المحلية: فى القانون والتطبيق
تناقش المواد 184 و185 من الدستور المصرى الجديد (نوفمبر 2012) مصادر تمويل الإدارة المحلية. حسب المادة 184 ، “تكفل الدولة ما تحتاجه الوحدات المحلية من معاونة فنية وإدارية ومالية…” وهو ما يفيد بأن الحكومة المركزية تقوم بتقديم الموارد إلى الإدارة المحلية. وحسب المادة 185 تتمتع الإدارة المحلية بسلطة فرض “الضرائب والرسوم ذات الطابع المحلي الأصلية والإضافية” بجانب ما تحصل عليه من السلطة المركزية.
بالإضافة إلى ما تم ذكره بالدستور، هناك نوعان على الأقل من مصادر الدخل المتاحة للإدارة المحلية، وهما أولاً الأرباح من المشروعات التابعة للحكومة، وثانيا التبرعات الخاصة والتى تأتى عادة من الجهات المانحة الدولية وتخصص لدعم برامج اللامركزية أو الحوكمة فى العمران (سليمان 2011، 86). ولكن تلك الموارد تخصص عادة لمشروع معين ولا يمكن أن تعتبر مصدراً دائماً لدخل الإدارة المحلية. لذا فإن الضرائب والرسوم تظل هى أهم مصادر الدخل للإدارة المحلية.
تشمل تلك الضرائب: الضريبة المحلية المفروضة على الترفيه والأراضى الزراعية والمبانى والعقارات والسيارات وراكبى السيارات، هذا إلى جانب الشرائح الإضافية التى توضع على بعض الضرائب المركزية، مثل العوائد على العقارات وصافي الدخل.
وتتكون الضرائب المحلية من سلسلة من الرسوم والغرامات التى تتضمن السيارات والخدمات المحلية ورسوم التسجيل والترخيص.[1] ولكن الدخل المحلى من تلك المصادر ضئيل جدا ولا يفى بحاجات الإدارة المحلية.
فى العام المالى 2011/2012 مثلا كان الدخل المحلي من الضرائب والرسوم يمثل 9% فقط من موارد الإدارة المحلية. وكما يوضح “الشكل 1″ فإن الـ 91 % المتبقية تم تقديمها من قبل الحكومة المركزية.
الشكل 1: الموارد المالية المتاحة للإدارة المحلية مقسمة حسب النوع، السنة المالية 2005/2006-2011/2012
المصدر: الحكومة المصرية، وزراة المالية، “الميزانية العامة للدولة للسنة المالية” 2011/2012، 2010/2011، 2009/2010، 2008/2009، 2007/2008، 2006/2007، 2005/2006. * (مصادر الدخل الأخرى تتضمن الرسوم، المنح، العطايا الشخصية، والأرباح من المشروعات التى تديرها الحكومة. ويمكن أيضاً للإدارة المحلية أن تحصل على قدر ثانوى من الموارد من عوائد الاقراض وبيع الأصول المالية والاقتراض الأجنبى واصدار السندات، والتى تمثل فى المتوسط حوالى 0.5% من الموارد المحلية الاجمالية فى فترة السبع سنوات المذكورة، ولم يتم دمجها فى تلك الأرقام.)
كما يوضح “الشكل 1″، تعتمد الإدارة المحلية بشكل أساسى على أموال الحكومة المركزية. وقد تزايد اعتماد الإدارات المحلية على موارد الحكومة المركزية على نحو مضطرد منذ اواخر الثمانينات، حيث زادت نسبة الموارد المركزية إلى الموارد الكلية فى ميزانيات الإدارة المحلية من 76.8% فى السنة المالية 1989/1990 إلى 81.4% فى 1997/1998 وإلى أكثر من 91% فى 2011/2012 (سليمان، 2011).
ما مدى أهمية الإدارة المحلية فى مصر؟ لنترك المال يتكلم
تقل أهمية الإدارة المحلية مقارنة بالحكومة المركزية، وهو أمر متوقع بحسب طبيعة الدولة المصرية. ولكن ما هى درجة تلك الأهمية التى تتمتع بها الإدارة المحلية؟
السبيل الأسهل لقياس الأهمية النسبية للإدارة المحلية هو المال. كم من المال تنفق الحكومة المصرية فى دعم الإدارة المحلية مقارنة بالإدارة المركزية؟
وفق الميزانية العامة للدولة عام 2011/2012، الصادرة عن وزارة المالية، بلغت النفقات العامة فى مصر ذلك العام 490 مليار جنيه. وتم انفاق 60 مليار جنيه منها، أو حوالى 12%، على الإدارة المحلية. قارن هذا بالوضع فى معظم الدول المتقدمة والتى تنفق 30-40% من مواردها العامة على الإدارات المحلية. وتصل ذات النسبة فى الدول متوسطة الدخل إلى 20-30% (بويكس، 2011).
الشكل 2: النفقات العامة فى مصر للسنة المالية 2011/2012
المصدر: وزارة المالية، الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2011/2012
يظهر “الشكل 3″ نسبة نفقات الإدارة المحلية (لفهم التوزيع الرأسي لموارد الميزانية) بالنسبة إلى النفقات القومية المتكررة فى مصر وثلاثة دول نامية اخرى هى كمبوديا وموزمبيق وأفغانستان. وبرغم التفاوت فى الحجم، نرى أن النتيجة لم تتغير كثيرا عما سبق ذكره: فالإدارة المحلية فى مصر تحصل على نصف مثيلتها فى كمبوديا وثلث مثيلتها فى افغانستان. (بويكس، 2011).
الشكل 3: مقارنة بين نسبة الانفاق على الإدارة المحلية بالنسبة إلى الانفاق الحكومي الكلي المتكرر فى مصر وغيرها من الدول النامية
المصدر: بويكس (2011، 3)
لا نستطيع للأسف القيام بتحليل أعمق لمصاريف الحكومة المركزية على المستوى الاقليمى نظرا لعدم وجود قانون يلزم الدولة بإتاحة المعلومات للجمهور فى مصر. وليس من عادة المحافظات ولا المستويات الأدنى من الإدارة المحلية أن تنشر ميزانياتها. ولا نجد فى الميزانية العامة التى تنشرها وزارة المالية إلا تصنيفات للنفقات من جهة نوع المصاريف، بدون تقديم معلومات تفصيلية حول توزيعها على مختلف الإدارات المحلية. ثم أن الميزانية العامة تكتب على شكل وثيقة من 900 صفحة وليس عل شكل ورقة “اكسيل” أو قاعدة بيانات يسهل استخدامها فى أغراض التحليل. ويظل حق الجمهور فى محاسبة الحكومة المحلية رهناً بكل تلك القيود المفروضة حاليا على المعلومات.
ورغم أن بعض الإحصائيات الحالية لها صلة بالقضايا محل الدراسة، وهو أمر يعود إلى كثرة الدراسات المستقلة ومحاولات جمع المعلومات، ولكن نتائج تلك الدراسات، مثلها مثل الميزانيات الحكومية، غير متاحة خارج نطاق الإستخدام الداخلى فى دوائر الحكومة.
ومع إيماننا بأن الحكم المحلى هو أفضل وسيلة لتعميق الممارسة الديمقراطية فى مصر، فإن عدم الثقة ما زال يسيطر على العلاقات بين المواطنين والحكومة. وأحد المشاكل التى تواجهنا هى ثقافة حجب المعلومات، والتى تجعل البعض ينظرون إلى الميزانيات وكأنها أسرار يجب أن تظل طى الكتمان. بعد سنوات من المحسوبية والمحاباة، والتى عرفتها البلاد فى عهد مبارك، لعل الوقت قد حان للمصريين كى يعرفوا الطرق التى يتم بها انفاق المال العام فى بلادهم. وليس هناك مكاناً للبدء في هذا أفضل من الميزانيات المحلية.
المراجع:
- بويكس، جيمى. 2011. الديمقراطية فى مصر: الدور المحتمل للا مركزية. (ورقة بحث). واشنطن: مركز المعهد الحضرى للتنمية والحوكمة العالمية.
- الحكومة المصرية. الميزانية العامة للدولة. وزارة المالية. القاهرة.
- سليمان، سامر. 2011. خريف الدكتاتورية: الأزمة المالية والتغير السياسى فى مصر فى عهد مبارك. ستانفورد، كاليفورنيا: ستانفورد يونيفرسيتى بريس.
[1] الحكومة المصرية، وزارة المالية، الميزانية العامة للسنة المالية 2011/2012، المجلد الثاني، ميزانية الإدارة المحلية.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments
Trackbacks